لمؤلفه: فارس توفيق البيل
مراجعة د. حصة بنت زيد المفرح*
الرواية الخليجية: قراءة في الأنساق الثقافية، لمؤلفه: فارس توفيق البيل. صدر الكتاب عن دار الأكاديميون للنشر في الأردن في طبعته الأولى عام 2016، يقع في 349 صفحة من الحجم المتوسط، ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول وبعدد يقارب (62) من المباحث الرئيسة والفرعية. يتناول التمهيد جانبين مهمين يرتكز عليهما الكتاب ويؤطرهما عنوانه: النقد الثقافي؛ مركزًا على فكرة مفادها أن الأبعاد الجمالية للنصوص تخبئ حيلًا للثقافة تتشكل في هيئة أنساق مضمرة). والرواية الخليجية، راصدًا مراحل تطورها وخصائصها الفنية والموضوعية، وهو في ذلك كله لا ينظر إليها بوصفها كتلة واحدة وإنما بحسب انتمائها إلى دول الخليج؛ مما يعني أن مصطلح (الرواية الخليجية) يحصرها في منطقة جغرافية واحدة لكنه يؤطرها في مناطق قرائية ونقدية متنوعة، منتخبًا ست روايات بواقع رواية واحدة من كل دولة خليجية: (أشجار البراري البعيدة) لدلال خليفة، (بنات الرياض) لرجاء الصانع، (تبكي الأرض.. يضحك زحل) لعبدالعزيز الفارسي، (الديزل) لثاني السويدي، (ذهب مع النفط) لعبدالله خليفة، (صمت الفراشات) لليلى العثمان.
وفي ثلاثة فصول، تركز على البحث عن الأنساق الثقافية، يتبع الكتاب طريقة في التقسيم تتيح استحضار ثلاث مراحل مهمة في تشكل النص:
الفصل الأول: ما قبل النص
يتناول الكاتب في هذا الفصل جانبين: العنوان والراوي، وفي حين يذهب إلى التمييز بين الكاتب والراوي - فالأول معطى خارج النص، والثاني داخله - فإنه يدرج الراوي في الفصل المخصص لـ (ما قبل النص) ولم يفصح عن سبب هذا التصنيف لا سيما أن الراوي مكون أصيل داخل النص. كما رصد تحول العنوان في مرحلتين: العنونة التقليدية، والعنونة الحداثية - التي ربما عنى بها الحديثة - والمدقق في المصطلحين يعي الفرق بينهما، كما أن ما كتب بعدها يحيل إلى هذه الدلالة دون إشارة إلى مفهوم الحداثة وأبعادها، مع تحليل عناوين الروايات الست من حيث التشكيل والأبعاد الثقافية.
وفي حين أطر الكتاب بعض العناوين ضمن أنساقها الثقافية الجدلية، كما في نسق (الذكورة والأنوثة)، فقد تعامل مع عناوين أخرى ضمن أبعادها الدلالية التي تشتق من العنوان وترتبط بالثقافة مؤيدة لها أو محتجة عليها دون تحديد النسق، مما يدرجه تحت نسق عام (القبول والرفض)، ففي حين تظهر العناوين حالة الاندماج مع الثقافة السائدة، تخفي في دلالاتها العميقة ما يثير ردة الفعل تجاهها والخوض في محاذيرها التي يُتعمد تجاهلها.
تتبع المؤلف بعدها عنصر الراوي من حيث وظائفه ودلالاته الثقافية، حيث ركز على هيمنة الصوت الواحد للراوية الأنثى في مقابل تهميشها في الواقع، والاعتماد على تعدد الرواة الذين تتوافق رؤيتهم أحيانًا وتختلف كثيرًا؛ مما حرك الأبعاد الثقافية للنصوص/ برأي المؤلف، بين متوافق مع الثقافة ومتمرد عليها. كما أن انتقاء الرواة الذكور في مقابل قلة الأصوات الأنثوية جعل الذكوري مهيمنًا في سرد الاحداث بما يتوافق مع الثقافة التي تسعى إلى تهميش الأنثى وتغليب سلطة الذكر. وقد يتوافق الراوي مع ثقافة المجتمع حينًا ويتمرد عليها حينًا آخر، وهذا الاهتزاز في دوره يعكس اهتزاز الثقافة وتأرجح تصوراتها.
الفصل الثاني: النص
تناول كل من: الحدث و(الشخوص) والزمان والمكان واللغة باحثًا في طريقة تشكيلها ودلالاتها الثقافية، مع ملاحظة الخلط الواضح في تسمية (شخصيات) الرواية بالشخوص في مواضع، والجمع بين المصطلحين وكأنهما بمعنى واحد في مواضع أخرى.
ويوضح الكاتب أن الحدث في الروايات محل الدراسة كان يسير في اتجاه يفضح الثقافة بما فيها من سلطة أبوية وانتشار لثقافة العيب، معتمدًا ما يثيره مصطلح (الفضح) من كشف المعايب بوصفه سلوكًا مواجهًا للمنع وناتجًا عنه في الوقت نفسه. وهكذا يبدو في الروايات متمردًا على الثقافة المهيمنة، ومحاكمًا لأنماط الوعي السائدة فيها حين يركز على جملة من المفارقات: الذكورة والأنوثة، المادية والروحية، المبادئ في حالتي التنظير والتطبيق، والمثقف النموذج والآخر الخاضع للسلطة بأنواعها، والتمرد على تصورات الثقافة والخضوع لها، والمعلن والمسكوت عنه.
يتوقف فارس البيل أيضا عند الشخصيات، ويبين أنها تأتي في النصوص غالبا ضمن أنماط متناقضة: الوجع النسوي والخذلان الذكوري، عبودية السيدة وحرية العبد، إظهار حسن الذات وإضمار قبحها، تشظي الذات بين الضمير والمغريات، الجسد بين واقعه الفعلي ورهانات الثقافة، والأنا النسوية والشرط الاجتماعي. كما يسلط الضوء على الزمان والمكان، فيذكر أنهما يتجانسان مع هذه الأبعاد؛ فيأتي التحكم النسوي في الزمن السردي ليمثل انتزاعًا معنويًا لسلطة الأنثى من هيمنة الرجل، كما يعمل كتهميش للذكورة أيضًا، ويحضر التناقض بين الزمن (قبل السرد) الذي يخضع لسلطة الثقافة والزمن السردي الذي يسعى إلى تقويضها، كما يصنع الزمن السردي مفارقة بين أبعاد دينية واجتماعية، وأفعال دنيئة ترتكب تحت مظلتها، ويتشكل في أنماط تحيل إلى ملامح التشظي والمراوغة بما يتجانس مع الواقع المحكي في صراعاته ومراوغاته. وتأتي الأماكن المعلنة، بتعبير الكاتب، لتواجه الثقافة التي تهوى الحجب، كما يظهر التناقض في رؤية المكان نفسه ضمن حالتين: مرة بوصفه مكانًا قامعًا في مرحلة الاستسلام، ومرة بوصفه مكانًا مقموعًا في مرحلة التمرد، والصراع بين المكان الواقعي المأزوم والمكان المتخيل بوصفه مكانًا بديلًا يتحقق فيه ما يناهض الثقافة نفسها.
ويوضح الكاتب في نهاية الفصل أن اللغة في النصوص محل الدراسة ترد ضمن ثنائيات دلالية كشفت المخبوء في الثقافة، منها: الصوت والصمت، الروح والجسد، الحضور والغياب، الذات وسلطة الجماعة، الحرية والعبودية، الواقعية والأسطورية، السرديات الحديثة والمرويات الشفهية.
الفصل الثالث: ما بعد النص (عملية القراءة)
رصد الكاتب فارس البيل في هذا الفصل ردود فعل القارئ (الحقيقي) على هذه النصوص متجاوزًا القارئ (الضمني) الذي يرافق المؤلف في مراحل الكتابة، وذلك في اتجاهات ثلاثة: القبول، الرفض، الحياد. إذ تناوبت قراءة النصوص بين رفض لبعضها بوصفها نصوصًا صادمة للثقافة، وقبول بعضها الآخر لمهادنته الثقافة نفسها؛ مما استدعى وصفها بالمراوغة؛ حيث تتسربل برداء مضموني متخفٍ خلف السرد.
كما ميز بين أنماط المتلقين وثقافتهم: المتلقي الذكر (الرافض والمهادن والمؤيد)، الأنثى (المؤيدة، المقيدة التي لا تفصح عن رأيها بجرأة، ثم الرافضة لمضامين النص النسوي والمنسجمة مع الهيمنة الذكورية)، المحايد (الذي لا يمتلك القبول أو الرفض سواء كان ذكرًا أم أنثى؛ مراعاة لقيم الثقافة التي ينتمي إليها)، الناقد (الذي يمتلك الوعي بأدوات النقد) وناقد يحتكم إلى ثقافته قبل النقد سلبًا أو إيجابًا فيكون (المهاجم) أو (المدافع) حتى نصل إلى (النموذجي) الذي يتلقى النصوص في سياقاتها دون تأثيرات خارجية، المؤسسات الثقافية؛ فهناك تلق جماعي تمارسه وتتمثل في الدينية والاجتماعية، والثقافية والنقدية. كما رصد تأثير المتلقي على (داخل النص) حيث المضمون والبناء الفني، فيبدو رافدًا لفعل الكتابة نفسه، و(خارج النص) بالتأثير على المبدع نفسه، أو المؤسسات الثقافية والعملية الإبداعية كذلك في مراحل ترتبط بتعدد طبعاتها.
ورغم أهمية هذا الفصل في الكشف عن حيل الثقافة وإسقاطاتها التي تنعكس على قرائها، فقد جاء جله نظريًا في تصنيفاته وإحالاته، ولم يعمد إلى التطبيق إلا في حدود ضيقة جدًا بما لا يتجانس مع عنوانه وطرحه النظري الذي يقتضي الوقوف على بعض القراءات الممثلة لهذه الأنماط المختلفة للتلقي. والملاحظ أن الكتاب قد انشغل برصد الأبعاد الثقافية، منطلقًا من فكرة تؤكد وظيفة النسق التي تكمن في كون المضمر نقيضًا للمعلن، دون أن يعنى برصد الأنساق المضمرة التي تعكسها الأنساق الظاهرة؛ إذ إن ما كشفه يعد إحالة إلى هذه الأبعاد التي بدت في معظمها ظاهرة للقارئ العادي، وإن تعددت مشاربها، فهي تؤول إلى فكرة واحدة تشاغب الثقافة بأبعادها الزمانية والمكانية والفكرية لكنها لا تصل إلى أعماقها فتكشف مساراتها المضمرة، وإن تحقق ذلك أحيانًا في بعض المواضع.
*أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك، جامعة الملك سعود. مستشارة في وكالة الجامعة للتخطيط والتطوير، مدربة معتمدة، ومراجع اعتماد أكاديمي. صدر لي كتاب (عتبات النص الروائي في الجزيرة العربية) في طبعتين 2017، 2022، ولي عدد من الأبحاث المنشورة والمشاركات في مؤتمرات محلية وعربية.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
Comentários