للكاتبة: د. شهد الشمري
مراجعة: د. مي آل صاحب*
Head Above Water: Reflections on Illness, by Shahd Alshammari, London, Neem Tree Press, 2022, 200 pages.
تنقل لنا الكاتبة والأستاذ المساعد في الأدب الإنجليزي في جامعة الكويت شهد الشمري، تجربتها المرضية ومحاولاتها المتعددة في التعايش مع مرض التصلب اللويحي في كتاب "رأس فوق الماء: تأملات في المرض" المنشور عام 2022م. تكمن أهمية هذه المذكرات في الكشف عن الكوامن الخفية خلف آلام المرض انطلاقًا من تشخيصها بالمرض الذي يعد صرخة وجودية لذاتها، وانتهاءً بتلك المحاولات للبحث عن الحياة والأمل بين هوامش المرض والعافية. إذ يأتي هذا الكتاب كحلقة مكملة لكتابها المنشور عام 2017م "خواطر على الجسد"، الذي كتبته على شكل مجموعة من القصص تسرد فيها تجربة تشخيص المرض والتأقلم معه بشخصيات مستعارة أسقطت عليها كوامن تجربتها الذاتية. تكمن أهمية مذكرات الكاتبة من اهتمام النقاد بكتابات المرأة في مجال الإنسانيات الطبية التي بدت بشكل متزايد وملحوظ في الآونة الأخيرة كما اهتموا بتحليل تلك السرديات التي تُعنى بالمرض بشتى أنواعه. ففي ذروة الوباء الذي هز العالم وبينما كانت الكاتبة تلازم منزلها وتعاني الألم الجسدي والعاطفي الناجم عن مرضها، قررت العودة من خلال مذكراتها لتبدأ في تجميع أعمالها على شكل كتاب.
ترسم لنا الشمري في مقدمة الكتاب علاقة ثلاثية الأبعاد بين الكتابة، والذاكرة، والجسد، إذ تربط الكاتبة بين استمتاعها بعملية الكتابة وبين ذلك الجسد المريض الذي تعيش بداخله مكبلة من الاستمرار بالحياة والعيش باستقرار. إن الإحساس بعدم الاستقرار هو ذلك الشعور المشترك بين الكاتبة وقرائها الذين يعيشون معاناة المرض والإعاقة وذلك لأن الألم لا يطرق الباب قبل دخوله. كما تؤكد الشمري أن هذه القصص التي تروي أجساد المرضى هي جزء من واقع الحياة، لكنها قصص مشوهة كمأساة الجسد المعطوب الذي يثير تساؤلاتها في كثير من الأحيان إن كان جسدها أم لا. وهنا تأتي الحاجة لاسترداد الهوية المسلوبة من خلال الكتابة وتسجيل الأحداث التي تمر بها طوال فترة العلاج لتكون قادرة على التحرر من قيود الألم والضعف. كما تشرح الشمري معاناتها المعقدة مع اللغة والكلمات والذاكرة وعدم مقدرتها على معرفة ما إذا كانت الكلمات سبب قوتها أم ضعفها. فحين تفشل في التذكر كإحدى تبعات المرض تشعر بالعجز المطلق، وحينما تستطرد بالكتابة، تسترد هويتها.
وفي بعض الأحيان، تقحم الكاتبة بعض العبارات الاعتراضية التي تؤكد معاناتها اللحظية أثناء الكتابة لتشعر القارئ وتشركه في الإحساس باستمرارية هذه المعاناة وهو أسلوب متعمد من الكاتبة تخلل فصول مذكراتها كاملة وكأن الزمن السردي أصبح محكومًا بذاكرتها وشعورها بالألم فتكتب أحيانًا: "في الوقت الحالي، لا أستطيع أن أشعر بساقي". من الملاحظ أن الكاتبة بدأت بوصف ألم الجسد منذ كتاباتها الأولى واستمرت في مذكراتها الحالية مسترسلة بأدق تفاصيل رحلتها مع المرض محاولة الخروج من دائرة وصمة العار في وصف المرض والألم والجسد بصورة واقعية، الأمر الذي دفعها بوصف تلك الرحلة بـ"مخاض الكتابة". مع العلم أن عملية الكتابة قد تكون سببًا في التعافي الروحاني، إلا أن الضعف الذهني والجسدي الشديد واستذكار صدمات الماضي كانت رحلة تحفها المخاطر مؤكدة ذلك بقولها: "كانت هناك بعض المشاهد التي لم أرغب حقًا في العودة إليها".
تنتقل بعدها الكاتبة لسرد ذلك الارتباط التشبيهي بين الجسد والمجتمع. مذكرات الشمري تربط مرض الجسد بمرض المجتمع من خلال الذاكرة الفردية والجماعية. إذ تشعر الشمري أنها في معزل عن جسدها وكأنها ترفض أن تكون فيه أو حتى تنتمي له. هو ذلك الشعور الذي يشبه هذا الشعور إلى حد كبير محاولاتها في التعايش مع المجتمع الذكوري الذي وجدت نفسها به. لذلك نرى الكاتبة تصف العديد من العقبات الاجتماعية التي تأتي مع مرضها، والتحديات التي تواجهها في أداء المهام اليومية البسيطة مثل (تزرير قميصها وإمساكها بالقلم..)، ونظرة المجتمع لذلك الضعف الناتج عنه. إذ تعتقد أن "المهرة المريضة سبب لتلوث السلالة السليمة. أن تكوني مريضة يعني أن تكوني ملوثة وكفيلة بتسمم سلالة الدم السليمة". فالكاتبة تؤكد على أن استقلالية المرأة من القبيلة أمر مستحيل، إذ إن فكرة الهيمنة ليست ذكورية فقط إنما هي هيمنة جماعية مسيطرة على كل جوانب الحياة الاجتماعية وإن تفكيك هذه الهيمنة من خلال رابط ضعيف عواقبه وخيمة، خاصة وإن كان هذا الرابط جسدها المريض. وتسلط الشمري الضوء على عزوف الكتاب عن وصف مرض المرأة وجسدها المريض وخاصةً تلك الروايات التي تصف تجاربهن الخاصة مع المرض. فالجهل العام للمجتمع وميله إلى عدم الإفصاح عن كل ما يتعلق بمرض المرأة يخلف ندوبًا لا ترى يتضاعف ألمها مع الزمن.
يميل أسلوب الشمري للأسلوب الشعري الذي يجسد رحلة معاناتها مع المرض بكل تفاصيلها مزاوجةً بين التأمل حينًا والاستطراد حيناً آخر في لحظات الألم المستمرة مستعينة باستعارات سردية تستخدمها لمحاولتها البائسة في فهم الألم ونقلها للقارئ. وتصور الكاتبة الجسد المريض بالكيان المظلم والمعقد الذي يحمل "أسرار العار" يعاني الوحدة ومشاعر التضحية وتحمل الخسائر ويكاد يخلو من المعنى. فتلجأ للكتابة التي تسترد بها هويتها المفقودة من ألم الجسد الذي يشبه إلى حد كبير ألم والدتها المنفية من أرض الوطن (فلسطين). وهنا ربطت الشمري بأسلوب حواري سردي يصف معاناة والدتها وجدتها المنفيات عن أرض الوطن بمعاناة مرضها. تفوقت الكاتبة في الكشف عن تلك الندوب الجسدية والمجتمعية التي تعانيها كامرأة معاقة مختلطة الأعراق في مجتمع تقليدي للغاية. إذ تقودنا الكاتبة لمنفى من نوع آخر، وهو منفى الوطن، الذي أصبح راسخًا في ذهن والدتها وجدتها وبأسلوبها الحواري السردي تنقل الكاتبة للقارئ مشاعر الشتات على مختلف الأصعدة، الشتات والنفي من أرض الوطن.. وأرض العافية.
"رأس فوق الماء" ليست مذكرات فحسب، ولكنها انعكاسات للمرض، يتمحور فيها المرض وكأنه هو بطل الحبكة. فلا تركز الشمري من خلال تلك الانعكاسات على جسدها المريض فحسب، وإنما تكشف لنا قصص بعض طلابها وأقرانها الذين تأثرت حياتهم بالمرض. تفتتح الكاتبة فصولها، عدا الفصل الأخير، باقتباس من يومياتها المسجلة يتخللها محادثات مع صديقتها الطالبة ياسمين وأسئلة فضولية تدفع الشمري للغوص في الذكريات وصياغة قصتها. تقسم الشمري فصول الكتاب بشكل تفكيكي كما يفكك المرض جسدها، فكل فصل يحتوي على أجزاء معنونة بحرف من حروف عنوان الفصل. ففي الفصل الأول تستطرد الكاتبة في سرد صراعها مع المرض ووصف ذكرياتها مع جدتها تاتا وعن مرحلة الكتابة التي من خلالها تخلق مساحة شاسعة تستكشف فيها قضايا اجتماعية مختلفة. تنتقل الشمري بعدها للفصل الثاني والثالث حيث يشهد القارئ توقف الزمن وعشوائية معناه وكأن تاريخ صلاحيته قد انقضت كالطعام في ثلاجتها الصغيرة، لتمهد لنا الكاتبة عن رحلة العذاب التي خضعت لها في العملية العلاجية التجريبية في العشرينات من عمرها وتجربة الاقتراب من حتمية الموت التي نتجت عنها. يتخلل هذين الفصلين رحلة الكاتبة للبحث عن منطقة التصالح مع المرض، تلك المنطقة الرمادية التي لن تصل إليها إلا من خلال السرد. إذ يأتي الفصل الرابع والأخير، ليترجم ويسرد معاناة أقرانها الذين تأثرت حياتهم بالمرض وأيقنوا أن المرض والإعاقة ليست مرتبطة بالجسد فحسب، بل أيضًا بقسوة المجتمع.
مذكرات الكاتبة هي صورة واقعية تسلط الضوء على المريض والتبعات النفسية للمرض والألم ونظرة المريض لكل ما يحيطه من واقع سياسي واجتماعي وروحاني. فتلجأ للاستشهاد بكاتبات نسويات كتبن عن المرض كفيرجينيا وولف وغلوريا أنزالدوا وأودري لورد لتجد في طيات تأملاتهن العزاء عن فشل المجتمع والأدب واللغة في تقديم صورة صادقة لجسد المرأة المريض. ما يهم الشمري ليس تعافي الجسد المطلق، إنما تعافي الروح من الصدمات المتكررة، فالسرد، كما تقول الكاتبة، "جزء من البقاء. أولئك الذين نجوا يعرفون أن هناك قصة تروى وأخرى يمكن إعادة صياغتها. لكنهم يعرفون أيضًا أنه لا يوجد طريق نهائي للشفاء التام، وأننا ليس بإمكاننا أن نقفل دائرة التعافي." فطريق الكاتبة محفوفٌ بالازدواجية: الصحة والمرض، الجسد والروح، الذاكرة والنسيان، الفرد والمجتمع، إذ تحاول الشمري البزوغ لعالم جديد من خلال تجنب الوقوع في إحدى الازدواجيات ، عالم يعطي جسد الأنثى المريضة حقه في الأدب والمجتمع ليبقي رأسها فوق الماء. "رأس فوق الماء" ليس مرآة مأساوية، وإنما سرد يذكر القارئ أن الأدب، كما قال الفيلسوف الأنثروبولوجي ريني جيرار، يظل الوجه المشرق من الكارثة.
د. مي بنت علي آل صاحب، أستاذ الأدب والنقد المساعد في جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل. ماجستير النظرية النقدية ودكتوراه الفلسفة في أدب ما بعد الاستعمار من جامعة كنت البريطانية.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
المراجعة اللغوية
أ. وسن الحسين
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comentários