أ.د. سعد البازعي*
لماذا نقارن؟ وما الذي تكشفه المقارنة ولا يكشفه غيرها؟
حين نضع عملين أدبيين جنباً إلى جنب، أمام أعيننا أو في أذهاننا، ونقارن بينهما، أو نضع كاتبين أو أدبين أو ثقافتين، ما الذي سيتضح؟ أو ما الذي قد يتضح "مقارنة" بما لن يتضح لو قرأنا الأعمال بمفردها أو معزولة عن غيرها؟
المقارنة عملية إدراكية ومعرفية أساسية. إننا نقارن باستمرار لكن دون قصد غالباً، وذلك لكي نعرف أو نميز هذا الشيء من ذاك الشيء وهذا الإنسان من غيره، وهكذاً.
الأعمال الأدبية أو الآداب ليست بدعاً في هذا فهي تنضح بالمعرفة حين ندخل في المقارنة، أي نضعها موضع المقارنة. لكن مقارنة الأعمال الأدبية، أو الفكرية أو المقارنة في فضاءات الثقافة عامة، مقارنةٌ قصدية أو متعمدة وممنهجة، أو هكذا يفترض أن تكون، في حين أن المقارنة الأساسية، التي ندرك بفعلها ما حولنا (فنعرف الباب من النافذة أو المنزل من غيره أو الناس بعضهم من بعض)، تلك مقارنة بدهية تحدث باستمرار لأن الذهن البشري لن يعرف دون تلك المقارنة الضمنية السريعة وغير المخطط لها.
الحديث هنا عن مقارنة مقصودة: في الأدب المقارَن، أو النقد المقارِن، نأتي بعملين أدبيين أو كاتبين أو صورتين شعريتين أو أسلوبين في السرد أو غير ذلك فنضعهما موضع المقارنة. لكن ما الذي سنجنيه من ذلك فوق ما تتيحه لنا المعرفة الأساسية البدهية أن هذه القصيدة غير تلك؟ إننا بدون المقارنة لن نعرف شيئاً. لكننا نتحدث هنا عن مقارنة قصدية ومركبة، عملية تسعى إلى ما يتجاوز المعرفة البدهية، ومع ذلك يظل السؤال قائماً: هل هذه المقارنة المتجاوزة للبدهي تفضي إلى معرفة أو استيعاب أو تذوق أعلى مما تتيحه قراءة العمل منفرداً؟ ما الذي تضيفه المقارنة للقراءة النقدية ولا تضيفه القراءة غير المقارنة؟ ذلك هو السؤال الأساسي الذي تحتاج المقارنة الأدبية، أو مشروع الأدب المقارن أن يجيب عنه لكي يبرر وجوده.
في تصوري أن القراءة النقدية المقارنة تطرح أسئلة لا تطرحها القراءة النقدية التي تتركز على عمل أدبي ما معزولاً عن غيره. سنسأل في المقارنة: لماذا يتسم هذا العمل بسمة لا يتسم بها الآخر؟ لماذا تهتم هذه القصيدة بالرمز الأسطوري مثلاً بينما القصيدة الأخرى تحقق شعريتها عبر وسيلة تخلو من الأساطير؟ لماذا تكثر الشخصيات في هذه الرواية بينما لا نجد في الرواية الأخرى سوى عدد محدود من الشخوص؟ قد لا تفضي الإجابة عن هذه الأسئلة أو ما يشابهها إلى الكثير من الكشوف النقدية ذات الأهمية، لكن المؤكد أنها ستفضي إلى قراءة مختلفة. وهنا مربط الفرس. تستدعي المقارنة ملاحظات وأسئلة وتثير جوانب لا تستدعيها أو تثيرها القراءة المنفردة، قراءة العمل الأدبي بالتركيز على وحدته أو استقلاله عن غيره.
في المقارنة كشف عن الاختلاف أوالتمايز وهذا لا يعني التفوق بالضرورة. الاختلاف يأخذ بالقراءة النقدية إلى فضاءات مختلفة، إلى أسئلة أخرى، إلى كشوفات مغايرة، لكنه لا يجعل القراءة النقدية أفضل بالضرورة من حيث العمق أو الرهافة أو الدقة. كل هذه القيم مرهونة بقدرات القارئ في المقام الأول. المنهج، سواء اتخذ المقارنة سبيلاً أو سار في اتجاه آخر، سيفتح آفاقاً مختلفة، ولربما ألهت تلك الآفاق القارئ عما كان يمكن الانتباه له لو أنه لم يقارن وإنما ركز نظره في العمل مستقلاً. من هنا يصعب جعل المقارنة أكثر إثراء في كل الحالات. ما نحن بصدده ليس مفاضلة المقارنة بغيرها وإنما هو استكشاف الوجوه التي تجعل المقارنة قادرة على إثراء القراءة النقدية بصورة لا تستطيعها القراءات الأخرى. ومن تلك الزاوية يمكن القول بأن المقارنة تستدعي وجوهاً أو سمات في الأعمال الأدبية لا تستدعيها القراءات الأخرى.
من تلك الوجوه أو السمات الاختلاف الثقافي الذي قد نجده كامناً في خلفية الأعمال. قد تبحث المقارنة عن من خلال الأدبي عن التشابه وليس الاختلاف. وهذا بالتأكيد ما دأبت عليه المقارنة الأدبية منذ بداياتها الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. بحثت الآداب الأوروبية عن الروابط التي تجمعها وتحدث غوته على النحو المشهور عن احتمال ولادة أدب عالمي قصد به في المقام الأول مجموع الآداب الأوروبية وإن كان هو نفسه من أوائل من فتح الفضاء الأوروبي أمام المختلف الشرقي ليكون موضع مقارنة. ونحن في هذا الجزء من العالم تعرفنا على المقارنة عن طريق منظريها الأوائل وكانوا فرنسيين في المقام الأول فنهض روحي الخالدي مؤسساً في أوائل القرن العشرين باستحضار فيكتور هوغو وجاء بعده الأب الأكاديمي للمقارنة، محمد غنيمي هلال. بحث الاثنان عما يصل الأدب العربي بآداب أوروبا، الفرنسي منها في المقام الأول، وعني هلال بالآداب غير الأوروبية، كالفارسية، وإن بقدر أقل من عنايته بالآداب اليونانية والرومانية والأوروبية عامة.
المقارنة قد تفضي بنا إلى تأمل الروابط أو وجوه الشبه، ولكنها أيضاً قادرة على كشف وجوه التمايز وملامح الاستقلال الثقافي الأدبي، وهي وجوه نحن أحوج ما نكون إليها في زمن طغت فيه العولمة التي تضمنت الثقافي إلى جانب الاقتصادي والتجاري والسياسي. في عصر العولمة الثقافية تواجه اللغات ومعها آدابها اكتساحاً غير مسبوق للغات أوروبية في طليعتها الإنجليزية، الأمر الذي يهدد تعددية الرؤى واختلاف المشارب الإبداعية، وهو أمر ليس في صالح الثقافات الإنسانية. سيفقد العالم تنوعه تحت مظلة القطب الواحد. وهنا تأتي المقارنة أسلوباً للكشف عن وجوه الاختلاف – دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى إهمال وجوه التشابه الحاضرة دائماً.
فضاء المقارنة يحمل تلك الملامح الجديرة بالاحتفاء لاسيما في مفتتح نشاط متجدد لهذا الفرع من البحث والتأمل في عالم الأدب. فمن المهم أن تفضي المقارنة إلى استكشاف الروابط الأدبية العالمية، إلى المشتركات الإنسانية، وإلى كل ما من شأنه التذكير بتقارب الرؤى الإبداعية تجاه القضايا والتطلعات، والأحلام والهموم، إلى جانب أساليب التعبير بما يتجاوز اختلاف اللغات والثقافات. لكن من المهم في الوقت نفسه تأكيد قدرة الآداب على استظهار شخصياتها الثقافية وقدرتها على البقاء دون ذوبان في غيرها. وكل ذلك مما تعنى به، أو يجب أن تعنى به، المقارنة. ومن مظاهر تلك العناية ألا تلتفت المقارنة باتجاه الغرب دائماً، وأن يكون نظرها متوزعاً في أنحاء العالم الغني بتعدديته، أن تنظر شرقاً إلى الصين والهند وجنوب آسيا ووسطها، وأن تعنى بإفريقيا مثلما تعنى بشرق أوروبا بوصفه مهماً كغربها، وبجنوب أمريكا ووسطها بوصفهما مهمين كشمالها. تلك التعددية في النظر ستستدعي مقارنات لم يألفها كثير من المشتغلين في حقل المقارنة مع ما قد يكتنف تلك المقارنات من صعوبات لغوية وبحثية لا يكاد يجدها الباحث حين يلتفت إلى العالمين الأنغلوسكسوني أو الفرنكوفوني بحضورهما الطاغي في كل سماء تمد المقارنة عنقها إليها.
هو تحدٍ كبير دون شك، لكنه التحدي الذي تستطيع المقارنة النهوض به بتكريس الجهد وبذل المسعى.
* ناقد ومفكر ومترجم سعودي، وأستاذ آداب اللغة الإنجليزية غيرالمتفرغ بجامعة الملك سعود.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments