top of page
سياق

قراءة نقدية في الإبداع | تسريد أخلاقيات الرعاية في رواية (غرفة الأم) لليلى الجهني

د. عبدالله العقيبي




مع التنامي الحاد للذاتية وصعودها إلى أعلى هرم الخطابات السردية في العصر الحديث، ومع انسحاق مفهوم الهم الجمعي، تراجع الاهتمام بالرعاية بوصفها فضيلة أخلاقية لها وجود خارج إطار الالتزام المهني المتعلق ببعض المهن كالطب والتمريض وغيرهما. كان الاهتمام بالرعاية في السابق ينطلق من منطلقات مختلفة، منها المنطلق الديني والمنطلق المجتمعي. في العقود القليلة الماضية ومع تنامي الدراسات النسوية وتطورها في الطرح والتنوع، خاصة فيما يتعلق بنقد الخطاب المؤسسي واستحواذه على أدوار الرعاية، عاد التركيز مؤخرًا على أدبيات الرعاية، والمراقب للإنتاج السردي العالمي والعربي على حد سواء سيلحظ كمية النصوص السردية التي تتعامل مع فلسفة الأخلاق في جانبها المتعلق بالرعاية، سواء أكان هذا التعلق بشكل متعمد أم أنه عفوي؛ التقطه المبدعون من الفضاء العام للمجتمعات الحديثة، التي بات مظهر إهمال الآخرين مسيطرًا عليها، وتمظهر ذلك بكثرة في المناطق المنكوبة جراء ويلات الحروب والأزمات السياسية والكوارث البيئية، الوضع الذي حرك السرد باتجاه أسئلة جوهرية جديدة، لعل أكثرها بروزًا سؤال الرعاية وتقديم المساعدة.


ومما صدر مؤخرًا من أدبٍ يمكن أن يُقرأ على ضوء أدبيات الرعاية وأخلاقها، رواية الكاتبة السعودية ليلى الجهني (غرفة الأم)، التي صدرت عن دار أثر ٢٠٢٤. تناقش الرواية حكاية أم مكلومة قضى ابنها الوحيد جراء حادث سقوط سيارته -هو ومجموعة من أصدقائه- من أعلى قمة جبلية في السعودية، في مدينة أبها. هذا الحادث الذي أودى بالابن أودى بشكل آخر بحياة الأم، وبحياة العائلة الصغيرة، المكونة من أب وأم وابنتين، إضافة إلى الابن الوحيد الذي يغيب منذ مطلع الرواية، تاركًا المجال من بعده لبطلة الرواية (الساردة) وأختها الصغرى، اللتين تصدمان بمصير تفكك العائلة، بسبب صدمة الأم الكبيرة من الحادث الذي حرمها من الابن بصورة كارثية، وهروب الأب من فضاء الحكاية، الأمر الذي انعكس سلبًا على حياة بطلة الرواية، التي تحولت في لحظة واحدة، وبسبب غياب الابن الذكر، من مستقبلة للرعاية الأبوية، إلى شخصية مقدمة للرعاية، ومسؤولة بشكل كلي عن حالة الأم، التي أنهكها الفقد، وأورثها المرض حتى قضت نحبها، تاركةً الفتاة (بطلة الرواية وساردة الحكاية) مع الإرث العائلي المضني، بكل أبعاده، المجتمعية والنفسية، بما في ذلك الوجود المكاني المتمثل في غرفة الأم، التي أصبحت مكانًا موحشًا، كل زاوية فيه تشير إلى الخراب. المكان الذي من خلاله ننتبه إلى هشاشة الوجود الأنثوي للفتاة وأختها، مقابل الوجود الذكوري للأخ الذكر، الذي أظهر فداحة غيابه أزمة ذكورية المجتمع، الأزمة متمثلة في صدمة الأم (الأنثى) وهرب الأب، وبالتالي تغييب دور الرعاية تجاه البنتين (الساردة وأختها).


هناك عدة طرق للتفكير في الأخلاق، من بينها دون أدنى شك الرعاية عبر سرد الحكايات، وهذه الطريقة قديمة قدم التاريخ وقدم السرد نفسه، فمذ شهرزاد وحكاياتها التي كانت خلال سردها تقوم بما يشبه الرعاية لنفسها وللنساء أمثالها من غضب شهريار، ووصولًا إلى السرد الديني في النصوص المقدسة، الواضح في ثناياه موضوع تسلية الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وكذلك يقوم سرد الحكايات الشعبية بذات المهمة (الرعاية) في أوقات الأزمات من حروب ومحن عبر تاريخ كل أمة من الأمم. وما كان الميل في العصر الحديث إلى الجنوح نحو الذات ليُذهب هذا الدور الأصيل لدى النفس البشرية، على رغم إقصائه المتعمد للأبعاد الدينية والمجتمعية للرعاية، ومع تنامي الدراسات النسوية عاد إلى الواجهة موضوع أخلاقيات الرعاية، ولكن عبر تقنيات سردية حديثة، تضع في اعتبارها التطور الهائل الذي شهده الدرس السردي، الذي يبدو أنه في هذه اللحظة الزمانية يحل بجدارة محل فلسفة الأخلاق، من خلال الدراسات النقدية للمدونات السردية المتعلقة بأخلاقيات الرعاية.


في رواية ليلى الجهني يظهر هذا الحس النقدي اللاذع، الذي يضع المجتمع المحلي بشكل مباشر أمام جروحه الغائرة، ومن هذه الجروح، جرح حياة بطلة الرواية نفسها، التي ترى كل عزيز عليها يتداعى، حياتها الشخصية، علاقاتها الفريدة مع والديها، التفكير في حزنها الشخصي على رحيل الأخ المفاجئ والكارثي، وعلاقتها الطبيعية مع أختها الصغرى التي وجدت طريقًا آخر للهرب عبر الابتعاث للدراسة في أستراليا، كل ذلك سنراه يتقوض في العمل السردي، حتى تصبح حياة البطلة في نهاية الأمر بلا قيمة حقيقية، فرغم رعاية الزوج لها، ومحاولاته في رتق جرحها العائلي نجدها أشبه ما تكون بغرفة الأم، المليئة برائحة الموت والمرض والإهمال.


ومن خلال ما سبق، نستطيع أن نستنطق خطاب الرواية، ورؤيتها النقدية تجاه الممارسات الذكورية للمجتمع المحلي، ونلاحظ قسوة هذا المجتمع، القسوة التي تودي بحياة البطلة وبنفسيتها، وعلى يد من؟ على يد الأم (الأنثى بدورها)، التي تنتقل وظيفتها من مقدمة للرعاية إلى مستقبلة لها، وهذا الملمح بحد ذاته فيه من القسوة ما فيه، وفيه أيضًا دعوة صريحة للتأمل النقدي، وتوجيه النظر ناحية رفض الخطاب الذكوري السائد، عبر سرد البطلة لحكايتها العائلية الصغيرة.


الجدير بالذكر هنا، استخدام الكاتبة للتداعي الحر، التقنية السردية التي تخلق مساحة فاصلة بين السرد والمتلقي، وهي إحدى آليات تيار الوعي، وهي فيما نظن أنسب التقنيات المحتملة لموضوع الرواية، الذي يبدو لنا موغلًا في ذاتيته، ومرتدًا بطبعه إلى الذات، التي تمثلها في الرواية الفتاة المحرومة من الرعاية الأبوية، التي تيتمت لا بسبب فقد أحد الوالدين أو كليهما، إنما بسبب فقد الأخ الوحيد، ما يجعل حواراتها الموجهة إلى نفسها حوارات منطقية، وخالية من الادعاء، أو من احتمال ورود الشكوى بالصوت الجهوري. وليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها ليلى الجهني آلية من آليات تيار الوعي، فقد استخدمتها أيضًا في روايتها الأولى (الفردوس اليباب)، الأمر الذي يؤكد إصرار الكاتبة على نظرتها السردية تجاه فكرة القص، وهذا فيما يبدو أحد مميزات نصها السردي، الذي يبدو من خلال النظرة الأولى منصرفًا عن فكرة التطرف النقدي، لكنه في جوهره أكثر قسوة من المُتوقع، وأكثر تأثيرًا في المتلقي؛ فهو وإن كان فيه ادعاء بالانصراف إلى أزمة الذات، إلا أن دواخله مليئة بالبراكين النفسية المتفجرة، التي تخرج على شكل حوار مغلق مع الذات. 


أخيرًا، وبالعودة إلى موضوع تسريد أخلاقيات الرعاية، لا تركز دراسات أخلاقيات الرعاية على الرعاية في سياق عائلي، غير أن هذا لا يمنع من استعارة منطلقاتها في دراسة أعمال أدبية تصوّر سياقات فردية وعائلية للرعاية. وعلى هذا الأساس نجد أن ليلى الجهني كاتبة روائية لديها قدرة رائعة وعميقة في تبنيها للسرديات الحديثة، فما روايتها الحالية (غرفة الأم) إلا دلالة على استمرارها على ذات النهج السردي، المحمل بالأسئلة الروائية الكبرى، التي تنم عن وعي أصيل ومتجاوز بواقع الفن الروائي، وبالتالي التعامل مع الخطابات النقدية الحديثة، التي تستثمر آليات السرد، وتتبنى خطاباته بصورة جمالية وببعد فلسفي أخلاقي، مع توافر قيمة الإمتاع، ما يجعلنا نقر برشاقة نصها الروائي رغم انقطاعها عن النشر لمدة عشر سنوات.



كاتب وناقد سعودي، حاصل على الدكتوراة في الأدب والبلاغة، صدر له العديد من المؤلفات الإبداعية والدراسات النقدية حول السرد والسينما والفنون المعاصرة، ونشر في عدد كبير من الصحف والدوريات والمنصات المحلية والعربية.


أحدث منشورات

Comments


bottom of page