top of page
  • سياق

قراءة نقدية في الإبداع: مخاطر الترجمة

أ.د. سعد البازعي*

قادتني القراءة، أو لعلها المصادفة المحضة، إلى ثلاث روايات عربية تتمحور حول الترجمة، وكان مما أدهشني أن الروايات الثلاث تقارب هذه المنطقة، أي الترجمة، بوعي حاد بما تنطوي عليه من مخاطر. في كل رواية من تلك مترجم/ة يتحرك في منطقة وعرة من العلاقات السياسية أو الدينية التي تحفها مخاطر الهلاك لتتحول الترجمة في ذلك السياق إلى عملية تجسير تنطوي على ما يهدد الجسور ذاتها ومن يحاول بناءها أيضاً.

الروايات للكاتبة العراقية إنعام كجه جي والكاتبين السعوديين محمد حسن علوان وأحمد الشويخات. صدرت روايتا "الأمريكي الذي قرأ جلجامش" للشويخات و"جرما الترجمان" لعلوان في وقت متقارب، أي العامين الماضيين، بينما سبقتهما رواية كجه جي "الحفيدة" بعشرة أعوام تقريباً.



في رواية كجه جي تقوم المترجمة العراقية الأصل، الأمريكية الجنسية بالدور الصعب المتمثل بالترجمة للقوات الأمريكية التي تحتل بلدها الأصلي العراق فتجد نفسها ممزقة بين ولاءين، الولاء للبلد الذي تحمل جنسيته وتلتزم تجاهه بالتزام قومي وعسكري، والبلد الذي تربطها به روابط الدم والعلاقات الأسرية الوثيقة. فكأن الترجمة هنا هي الجسر الخطر الذي تتحرك عليه تلك الولاءات المتناقضة والذي يحتاجه الجانبان لكي يحققا أهدافهما، المحتل بتحقيق الانتصار، ومن وقع عليه الاحتلال بالتخلص من المحتل وهزيمته.




تلك المهمة الصعبة هي إلى حد ما ما يسعى المترجم للقيام به في رواية "الأمريكي الذي قرأ جلجامش". هو في العراق أيضاً ويترجم للجيش الأمريكي المحتل، أي المهمة نفسها التي تقوم بها المترجمة في رواية كجه جي. غير أن فارقاً مهماً يبرز هنا وهو أن المترجم في رواية الشويخات ليس عراقياً، ما يعني أنه لا تربطه بالعراق رابطة دم أو انتماء اجتماعي أو قومي. هذا الفارق يتضاءل قليلاً حين ندرك أنه الأمريكي الذي قرأ جلجامش، أي المترجم الذي ربطته بالعراق وبحضارته وشائج تجعل من مهمة الترجمة حساسة وخطرة. ذلك أن المترجم محل شك دائم لدى القوات الأمريكية، وحين يكون هو الناجي الوحيد من حادثة تفجير قتل فيها كل الجنود الأمريكيين الذين كانوا برفقته تكاد الشكوك تتحول إلى يقين، لتتحول الترجمة إلى منطقة شائكة من الشكوك واحتمالات الخيانة، الخيانة التي تكاد تؤكد أن المترجم خائن فعلاً، ليس بالمعنى المتداول للخيانة وإنما بما هو أخطر من ذلك بكثير.



تلتقي روايتا كجه جي والشويخات في رابط زمني هو العصر الحديث، فهما معنيتان بأحداث معاصرة ومخاطر حديثة العهد. وهذه المنطقة هي التي تفترق فيها الروايتان عن رواية محمد علوان في استكشاف رواية علوان لمنطقة بعيدة زمنياً ومختلفة ثقافياً. رواية "جرما الترجمان" تنتمي من حيث الأحداث والشخوص إلى أوائل العصر العثماني أو بدايات الإمبراطورية التي اتسعت فيما بعد وحكمت أجزاء واسعة من مناطق العالم المعروف آنذاك ومنه البحر المتوسط حيث يعيش الترجمان. والترجمان أو المترجم بالصياغة القديمة للكلمة، مسيحي يعمل لصالح أحد السلاطين العثمانيين، سلطان حرم من الحكم باستيلاء أخ له وطرده ليتحول إلى متجول في البحر المتوسط يحاول استعادة حقه المهدور. تشاء الصدف أن يلتقي جرما الباحث عن عمل بالسلطان الذي يستعين به ليترجم اتصالاته بالمسؤولين والسكان في جزر المتوسط ومدنه التي يمر بها.


انقسام الولاءات وخطورة العمل هي ما تتسم به وظيفة المترجم في هذه الروايات الثلاث. كل مترجم هنا متوزع في ولاءاته واهتماماته بين ثقافات ومجتمعات وأنظمة سياسية ومصالح متعارضة، الأمر الذي يسلط الضوء بقوة على طبيعة الترجمة ومهمة المترجم وما يكتنفهما من خطورة. روايتا كجه جي والشويخات أكثر تركيزاً على الجوانب السياسية وحساسيات العلاقات الاجتماعية وهما أوضح أيضاً في إبراز المآزق الناجمة عن الترجمة. وربما يكون قرب الأحداث يجعلنا أكثر حساسية لتلك المخاطر أو إدراكاً لما تعنيه. يبرز المترجم هنا في دوره المحوري بوصفه ناقلاً للدلالات عبر اللغات وقادراً على التلاعب بتلك الدلالات، أو كونه محل شك دائم في أنه ليس أميناً في ما ينقل وأن له من التحيزات الفردية والاجتماعية ما يبرر الشك في صدقه. لكن تبرز أيضاً الحاجة الحيوية للمترجم على الرغم من كل ذلك، فلا غنى عن الدور الذي يقوم به وإن بدا، كما يبدو كثيراً، مجرد ناقل أو وسيط بين متحادثين أو نصين.


في خلفية هذا الوضع الذي ترسمه الروايات تاريخ طويل من العلاقة بين الترجمة والسياسة لاسيما في الجانب المتعلق بالصراعات والأطماع. تورد بعض الدراسات المتعلقة بالترجمة نماذج لذلك التاريخ منها المعاهدات التي وقعتها الإمبراطورية البريطانية مع السكان الأصليين في نيوزيلندا لكي تكسب موافقتهم على احتلال الجزيرة وتأسيس ما تحول إلى نيوزيلندا الحالية عن طريق الاستيطان. ترجمت المعاهدة إلى لغة السكان الأصليين بطريقة مضللة جعلتهم يعتقدون أن البريطانيين منحوهم بعض الحقوق في أرضهم في حين أن ذلك لم يحدث، فكانت الترجمة بذلك لعبة خطرة أدت إلى الهيمنة وسلب حقوق الآخرين (Translation and Power, eds. Maria Tymoczko and Edwin Gentzler [2002]).


كما أن الترجمة تتحول إلى عملية بالغة الحساسية حين يجد المترجم نفسه أمام عمل يتضمن أفكاراً يرفضها ولكنه مضطر للترجمة لكسب المال. تتحدث عن ذلك المثال كارول ميير في ورقة بعنوان "المترجم بوصفه كائناً متدخلاً" (The Translator as an Intervening Being) في كتاب بعنوان "الترجمة والتدخل" (Translation as an Intervention, ed. Jeremy Munday [2007])).


الروائية السودانية ليلى أبو العلا، التي تكتب بالإنجليزية، حللت من جانبها وضع المترجم في روايتها "المترجمة" (1999) من حيث تبدو الترجمة نشاطاً برزخياً وبالغ التوتر نتيجة لتوسطه بين الثقافات والشعوب التي تربطها علاقات مشوبة بالاختلاف والقلق بل والعداء، وكذلك حين تتأثر الترجمة بوضع المترجمة الإنساني. ذلك أن المترجمة تعيش في بلد بعيد عن بلادها وأهلها (إسكتلندا)، وأصعب من ذلك أنها في الوقت نفسه أم مفصولة عن ابنها الموجود في السودان. والسودان هنا بلد سبق للبريطانيين أن سيطروا عليه فعلاقتهم به علاقة استعمارية، الأمر الذي يضاعف التوتر النفسي للمترجمة تضاعفاً يبلغ حداً تصعب معايشته حين تقع في حب رجل إسكتلندي مسيحي وهي المسلمة فتكون الترجمة بذلك ممراً إلى منطقة خطرة تتضارب فيها المشاعر والمسؤوليات.

الترجمة في كل هذه الحالات لعبة خطرة ومجاز لعلاقات معقدة، الأمر الذي يبعدها عن الدور البريء والحيادي الذي يتخيله الكثيرون. إنها نشاط ثقافي وإبداعي عميق وبالغ التأثير ولكنه عرضة لصنوف المخاطر أيضاً.


*ناقد ومفكر ومترجم سعودي، وأستاذ آداب اللغة الإنجليزية غير المتفرغ بجامعة الملك سعود.


 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa



١٤٧ مشاهدة

أحدث منشورات

نص: نهايةُ القارّة

روبنسون جيفرز [2] ترجمة: شريف بقنه* لحظةُ الاعتدالِ الشمسيِّ عندما تختبئُ الأرضُ في المطرِ الأخيرِ، تُزيّنُ الدنيا بزهورِ الخشخاشِ...

Comments


bottom of page