عبدالله المطيري
يقول الناس: أمَّ فلانُ الشيء إذا قصده. حين يؤمّ الإنسان مكانًا فهو يقصده ويجعله أمامه. والإمام في الصلاة وغيرها يقف في الأمام دون أن يسبق الآخرين. ذلك أنه يقصد ويتوجّه إلى ما يقصده المأمومون ويتوجهون إليه ليكون هو ذاته تعبيرًا عن ذلك القصد والتوجّه. ليذكّرنا بالعسّاس الذي يعسّ الأرض البعيدة بحثًا عن بركات المطر. يعسّها لا ليستوطنها وحده بل ليعود مناديًا الآخرين لها. واليمّة كما يقال كذلك هي الوجهة. يقال: نحن في طريقنا يمّك أي في طريقنا إليك. ويقال كذلك يمّك بمعنى قربك. أنا يمّك بمعنى أنا بقربك في معنى يتجاوز مجرد التقارب المكاني إلى تقارب العناية والاهتمام؛ فمن هو يمّك بهذا المعنى يكون من هو في حال من الوجود متوجه للعناية بك ورعايتك.
وحين يؤمّ الإنسان شيئًا فإنه يجمع وجوده في اتجاه واحد وفي حالة متحدة من الاستجابة. وهذا المعنى الذي نجده في تعبيرات من مثل "أمّ القرى" و"أمهات الكتب" حيث تكون مكة المكرمة أمًّا للقرى؛ أمًّا واحدة تجمعها. ويكون الكتاب الأمّ أمًّا للكتب. هنا نتلمس حركة باتجاهين. الكتاب الأم كتاب مقصد للكتب الجديدة. أي أنها تستلهمه وربما ترنوا للوصول إلى شيء منه. وفي المقابل فإن الكتاب الأم يمنح تلك الكتب وجودًا لها مستمدًّا منه. وكذلك الحال مع أم القرى التي هي مقصد كل القرى ووجهتها الأولى وفي ذات الوقت فإنها هي التي تمنحها تلك العلاقة الواحدة الجامعة لها. بهذا المعنى يكون الأَمّ مبادرة جديدة ولكنها المبادرة المولودة في استجابة لنداء أوّل. إذا كان نداء الأذان في الصلاة تعبير عن هذا النداء الأول الذي تولد الإمامة فيه، فإنه بإمكاننا أن ننصت إلى النداء الأول في وجود الإنسان للآخرين وكذلك في نداء الطبيعة الذي ينادينا للعيش. أمومة الطبيعة التي نجدها في التعبير الشهير Mother nature المعبّر عن نداء الطبيعة المستمر للإنسان وللكائنات الأخرى. والنداء رهان على الاستجابة لا على الإرغام. لذا يكون المنتدى والنادي تعبير عن الاجتماع الطيّب. الاجتماع القائم على وجودٍ نديّ من نداء واستجابة.
وفي غياب الماء يحضر التيمم في ندى مختلف. الأرض النديّة حتى لو كانت جافّة. ندى الترحيب الأول. حين يتيمم الإنسان للصلاة فإنه يتوجه إلى الأرض في قصد الطهارة. في قصد طهارة لا تراهن على نظافة الغسيل. التيمم توجه إلى الأرض. توجه لملامسة وجه الأرض بكلتا اليدين. بكف اليد، أوسع مساحاتها. والتيمم لقاء بين وجه الإنسان ووجه الأرض توسلا بكفوف العطاء. وفي التيمم استلام وتسليم. حفل كامل من الاحتفاء. تُصافح الكفُّ الأرض أولًا. تستلم منها عطاء الطهارة. من ترابها. من أطرافها الخفيفة المستعدة للانتقال. يؤكّد كثيرًا على أن يعلَق في الكفّ من الأرض شي في التيمم. اليد التي لا تعود إلا بشيء. بعدها تعود كفوف اليد محملة بعطاء الأرض. تعود متوجهة للوجه، وجه الإنسان. من وجه الأرض إلى وجه الإنسان. تعود لتبلغه رسالة الأرض. أمّه التي تُعدّه للصلاة. أمه التي تتلمس وجهه بالكامل. الأرض التي تمنح الطهارة بعد أن تعذّر ماؤها. وجهها الذي قام مقام جوفها.
وحين يؤمُّ الإنسان مكانًا أو أحدًا فإنه ينصرف عن غيره؛ انصراف بلا عداوة. وهذا الانصراف تحوّل في الوجود. ربما كان الوضوء/ التيمم لحظة التحوّل هذه. ينخرط الإنسان في عالم الاستعمال والتبادلية، عالم الأخذ والعطاء، عالم التداول وعالم الحساب ولكنه في لحظات ما ينفصل عن هذا كله. ينقطع عن هذا الوجود طلبًا لوجود آخر. وجود مختلف، مفارق. اتصال مع اللامتناهي واللامحدود. وجود من خشوع واستسلام. وجود من صلاة. صلة من دعاء وتوسّل. طلبا لهذا الوجود يعود الإنسان للماء. يغسل وجهه وأطرافه. وإذا لم يحضر الماء حضر التيمم. العودة للماء أو التراب. وكأنها عودة الإنسان لأصل أوّل له. لطبيعة عميقة في تكوينه. عودة لأمه. لرحمها الذي عاش فيه ومنه حياته الأولى. وكأن هذه العودة تذكّر من جديد لطفولة مبكّرة. طفولة تعيد الصدق للنداء. طفولة تستعين بالماء والتراب.
والتيمم محاولة مدفوعة بالأمل لا بالاستحقاق. ربما لهذا السبب جاءت صياغة الكلمة على وزن تفعّل، وكأنها محاولة محفوفة بكل الاحتمالات مدفوعة بإدراك عميق لمعنى التحوّل والانصراف من وجود إلى آخر. هذا التحوّل لا يمكن أن يكون من فعل طرف واحد وإلا لما كان علاقة ونداء. تحوّل لقاء من تناغم. لذا كان التيمم فعلًا من سلام. ولذا كانت العودة للأرض، للتراب محاولة لاستعادة الانكشاف الأول على الآخرية. على ما سوى الذات وما سوى وجودها. والأمومة بهذا المعنى تذكير بمحدودية الإنسان. هذه المحدودية التي تفتح له الآفاق. "لا أمّ لك" هذه الدعوة التي مهما كانت دلالتها من زجر أو تعجّب فإنها تحيل إلى وجود عجيب: وجود بلا أم. وكأنه وجود بلا أرض. بلا فرصة للعودة للنبع الأول؛ النبع الذي يذكّرنا بأن الحدث هذا، حدث الأنا التي تحاول الاستحواذ على الأشياء، كان هبة أولى. وكأن من لا أم له كائن عجيب لا يستطيع العودة للأرض كما نفعل. لا يعود إنسانًا كما كان في لحظاته الأولى؛ كائن بلا زمن.
بهذا تكون الأمومة شكلًا من أشكال تزمّن الإنسان. عيشه في الماضي والمستقبل وانفلات من سجن لحظة الحاضر. الأم تفلت من قبضة الحاضر من خلال أمومتها. أمومتها التي تراوح بها بين الأزمان وكأنها آلة الزمن العجيبة. حركة في الماضي والمستقبل. ماضيها المُستقبِل ومستقبلها الذي يحمل ماضيه معه. ومن جهة المولودة فأن يكون لها أم فهذا يعني أنها على إمكان دائم للعودة للماضي. تلك العودة التي تجعل المستقبل ممكنًا من جديد. التيمم بهذا المعنى تجديد للوجود. ربما نوحي شيئًا من هذا المعنى في وصف الوضوء بالتجدد. يقول سأتجدد بمعنى سأتوضأ. أجدد وضوئي وربما أجدد وجودي. الوجود الذي يتجدد بالعودة لنداء أول. نداء الأمومة في الماء والتراب في التيمم.
والتجدد حركة وفيّة تحمل في داخلها انتماء للحظة الأولى؛ اللحظة التي تتجدد مع تحولات الوجود. لذا في كل تجدد طفولة مبكرة ينتعش معها الاتصال بالأشياء. نسيان بريء لكثير من التفاصيل وتفرّغ لوجهة واحدة. ربما يكون من هذا شيء ما نشعر به عند السفر لوجهة جديدة. الوجهة الجديدة حتى لو تعددت لها الزيارات. جِدّة الوجود التي ترافق الخطوات الأولى. الجدّة التي جددت الوجود بأم أخرى. الخطوات التي عرفت اتجاهها، يمّتها. لذا ربما ننادي يمّه إذا أردنا اللجوء. يمّه التي تأتي عفوية عند الخوف وعند الارتباك. يمّه التي تحدد لنا وجهتنا حين تتساوى الاتجاهات ونفقد القدرة على الاختيار. يمّه التي هي نداء كذلك. والتوجه نداء في لجوء. واللاجئ في حال خاص. حال انفتح بعد خروجه من أرضه إلى الأرض. ومن بيته إلى كل بيت. لذا جعلت الثقافات لللاجئ بيتًا في كل بيت، بيتًا في كل وجه. الوجه الأرض. الوجه الذي لم ينفصل عن أرضه. الوجه الذي لا يزال مسكنًا لمن طلب السكن. الوجه الملجأ. الوجه الأمّ الذي ينادي "أنت في وجهي". النداء الأول الذي يسبق التيمم. الوجه الذي يبقى أمامك. وجه الأرض الباقي أمامنا دائمًا في انتظار أن نؤمّه. أن نتيممه.
كاتب سعودي. عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود رئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة. صدر له: (فلسفة الآخرية)، و(الفلسفة حين تنصت في الظلام).
Comments