سميرة العصيمي
باحثة دكتوراة في الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز، ماجستير الأدب والنقد من جامعة أم القرى، مهتمة بالفلسفة والوعي البشري والكتابة الإبداعية والفنون.
ترتكز الفنون السينمائية على وظيفة جمالية فهي تجعل المشاهد مشدوهًا ومنغمسًا في لحظة جمالية فارقة يحدث بها خروج من الواقع المادي إلى العالم السينمائي الجمالي بأبعاده وسياقاته كافة. دخلت في حالة من الانغماس الجمالي حينما شاهدت هذا الفيلم الروبوت البري الذي يمكن تصنيفه ضمن أدب ما بعد الإنسانية فهو منتج إبداعي خلقه فنان مبدع، يشتبك الفيلم مع مفاهيم متعددة: مفهوم الأمومة عند الآلة، التعاطف في عالم الحيوان، الحب، الاشتباك بين الآلة والحيوان، الروبوت وتكييفه مع البيئة البرية. تحولت رواية بيتر براون الروبوت البري The Wild Robot إلى تحفة سينمائية أنتجته شركة DreamWorks Animation.
نجد أنفسنا بدايةً أمام سردية بصرية سينمائية مختلفة، يحاول فيها المخرج والكاتب ضرب عدة أهداف في آن واحد، تتمحور القصة حول الروبوت ROZZUM Unit 7134 عندما تُحبط عملية توصيل شحنة الروبوتات بسبب إعصار تتساقط الشحنة على سطح جزيرة نائية في مشهد سريالي محكم، ويظهر الروبوت روزوم ملقى في صندوقه ثم يُفعّل عبر حيوان فضولي. تفتح روزوم –التي أصبح اسمها لاحقًا روز- عينيها على وجود بري مختلف بين حيوانات فهي لا تفكر مثل الكائنات الحية، فقط تمتلك منطق الآلة الذي يقوم على تنفيذ المهمة بنجاح والعودة إلى الشركة المصنعة، تبدأ القصة داخل العالم الطبيعي الخالي من تداخلات بشرية، تتعثر روز بشجرة يرتكز عليها عش إوز، يتحطم العش وتنجو بيضة وحيدة تحملها بين يديها، يصافح صغير الإوز الوجود الحيواني بداية مع روز التي يعتقد أنها أمه وتبدأ العلاقة الأمومية بين صغير الإوز والآلة.
تقرأ الآلة كل ما هو موجود على الجزيرة؛ طمعًا في جمع أكبر قدر من البيانات عبر عدسة عينها التي تستطيع قراءة الأفكار والمشاعر والأسماء وتنظم البيانات الداخلية تبعًا لها، وهذه الفكرة العبقرية مستعارة من الفيزيائي الشهير (Nikola Tesla) صاحب فكرة الكاميرا الفكرية أو كاميرا الأفكار، في عام ١٨٣٨م طرح فرضية مفادها أن الصورة أو الفكرة التي تتشكل على عدسة العين يمكن التقاطها عبر كاميرا، إذ يمكن قراءة كل فكرة من خلال العيون وبالفعل طُوّر مشروع يستعين بالذكاء الاصطناعي لتدريب خوارزمية التعلم الآلي لاستخراج بيانات المعنى من البيانات العصبية. وبالفعل استطاعت روز التقاط أكبر قدر من الأفكار وصنع قاعدة بيانات جديدة؛ من أجل التكيف مع البيئة الجديدة. وقضت أيام متعددة في ترجمة لغة الحيوانات تبدأ الآلة روز برعاية صغير الإوز ليتحول من طائر صغير خائف إلى طائر يبلغ سن الرشد ويقود سرب الطيور في موسم الهجرة.
الارتباط الأمومي:
يرتبط صغير الإوز بروز ارتباطًا مبكرًا فهو حيوان صغير السن فقد عائلته -بسبب حادث غير مقصود تسببت به روز-. وغالبًا ما يرتبط الطير الذي خرج حديثًا من البيضة بأول شيء متحرك يبصره ويتبعه بصورة تلقائية فطرية، وعادة ما تكون أمه لكنه قد يكون إنسانًا أو كرة مطاطية متحركة(١)، والمفارقة العجيبة علميًا أن الطيور لا ترتبط بما هو مختلف بشدة عنها مثل جسم الثعلب الذي يبث في روعها خوفًا، صغير الإوز ارتبط بالروبوت روز ارتباطًا أموميًا؛ لأنه يشبه شيء ما في وعيه الحيواني.
الاسم والهوية ومحاكاة السلوك الحيواني:
تبدأ روز العلاقة الأمومية مع صغير الإوز بدايةً من اختيار اسم له بمساعدة الثعلب فنك اختارت له بداية رقمًا وأخبرها الثعلب يجب عليك اختيار شيء يشبهه ليتوافق مع هويته وشكله وأطلقت عليه اسم (Brightbill)، وهذا الاسم يتفق مع شكل منقاره ويدل على التألق. تعلم آليات الدفاع الحيوانية مقابل آليات الدفاع الآلية، ترتبط روز بعلاقة حميمة مع البيئة البرية وتبدأ بصنع روابط عاطفية حميمة وهي بذلك تكسر الروابط الآلية والمعادلات الرياضية المبرمجة عليها بداية مع علاقتها مع Pink Tail الذي يجسده حيوان الأبوسوم حين تتطور علاقتها معه ليعلمها على آلية التظاهر بالموت كحل أخير لتجنب القتل من الحيوانات المفترسة يتضمن ذلك: (الجمود، إرخاء العضلات، ثني الجسد إلى الأسفل، فقدان الاستجابة اللمسية، تباطؤ في التنفس) تتعلمها الآلة من الحيوان لتستخدمها لاحقًا كمحاولة للإفلات من يد الشركة المصنعة حين أمسكت بها، فهي تتظاهر بالموت والانطفاء والجمود وإرخاء أطرافها عبر محاكاة سلوك الحيوان، كما استخدمت الآلة آلية دفاع الظربان الأمريكي القائمة على استخدام الرائحة الكريهة للدفاع عن نفسه، واستخدمت هذه الآلية كي تنجو، صممت الآلة وفق برمجة ولم تكن تملك أي روابط تساعدها على النجاة في هذه البيئة البرية.
العلاقة الأمومية والرعاية الآلية:
مأوى بناء المسكن:
تسعى الطيور إلى بناء مكان آمن لصغارها عن طريق بناء العش، بنى الروبوت المأوى عن طريق استلهامه ومحاكاة بيت القندس الذي صنعه من الخشب المجوف من الداخل، بنى العش بطريقة مبتكرة لا تشبه عش الطيور إذ أصبح كوخًا مسقوفًا بالقش ومدور، وكما يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار أن العش يبعث إحساسنا بالبيت «لأنها يجعلنا نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم»، كما يُعدّ العش أحد عجائب العالم الحيواني فهو مكان اختفاء وانزواء ويمثل المكان الأليف وأصبح المأوى مكانًا للمبيت.
تعليم طائر الإوز مهارة الطيران:
تعزف الموسيقى التصويرية لحنًا وجوديًا مختلفًا خاصة مع مشاهد تعليم الطيران:
Time will slip on by if you're stuck here livin' life with too much caution.
سوف يمر الوقت بسرعة إذا كنت عالقًا هنا وتعيش الحياة بحذر شديد
And I know you know that those wings, they weren't made for walkin'.
وأنا أعلم أنك تعلم أن هذه الأجنحة لم تُصنع للمشي.
مشهد مكتظ بعدد من المشاعر الأمومية. روز لم تكن تملك أجنحة وعجزت عن تعليمه الطيران وحاولت توفير كل ما يمكن لتدريبه واستعانت بأحد الحيوانات وهو Thunderboltالذي يجسده الصقر، وهنا تظهر لحظة التكاتف الاجتماعي في عالم الحيوان، ومن المشاهد الفارقة في الفيلم حين ربطت روز حبلًا بذراعها وجعلت الطائر يرتكز عليه، وبذلك يكون الحبل بمثابة الأمان والرابط الوثيق بينهما كي يشعر بالأمان للطيران والتحليق ودلالة الحبل هنا مهمة؛ لأنها تمثل رابط أمومي مع مصدر الحماية والرعاية وهي الأم الآلة.
الرعاية الأمومية (التنظيف والتلامس):
اكتشفت هذه الظاهرة في عالم الحيوان باسم تنظيف الآخر (allogrooming) التنظيف فعل تبادلي ولعل سلوك العناية التنظيفية فعل أمومي يلبي غايات متعددة من عملية التخلص من الطفيليات والجراثيم إلى المنافع الأقل وضوحًا، مثل: (التلامس والقرب الجسدي)(2)، مما يحد من الاضطرابات الاجتماعية داخل عالم الحيوان، ويخلق إحساسًا بالترابط فهي ضرب من الحافز التعاوني الذي يجعل الحيوانات في مزاج تعاوني ودود وهذا ما فعلته روز مع صغير الإوز (برايتبيل) حين كانت تنظفه ويكون هناك اقترابًا حميمًا بين جسد الحيوان وجسد الآلة في مفارقة مذهلة، إذ إن جسد الآلة له أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بتطوير مهارات حسية وحركية، وذكر عدد من الباحثين أنه «لا ذكاء بلا جسد وبلا بيئة»، ويصمم جسد الآلة تبعًا للطبيعة الفيزيائية الخاضعة للجاذبية والاحتكاك التي تحاكي الحواس بحركاتها وعبر ذلك أصبحت "روح" الآلة مرتبطة بصورة وثيقة بجسدها الآلي فكلاهما يمثلا كلًا واحدًا، فالروح وفقًا لأرسطو هي مبدأ الكائن الحي في حد ذاته. ووفقًا لبعض التقسيمات فإن الروح تنقسم: روح غذائية (للنباتات)، وروح حسية (للحيوانات)، وروح إدراكية (للبشر)(3) هل امتلكت روز روحًا؟ وتواصلت بدورها مع الروح الحسية الحيوانية (صغير الإوز)، هل يمكن أن نضع تعريف أرسطو للروح مقابلاً للآلة؛ لأن الروح حسب تعريفه هي مبدأ حياتي مسؤول عن حركة الكائنات الحية.
التجرد الأمومي:
أحد أكثر المشاهد حبكة وتأثيرًا عندما أرادت الآلة أن تتحرر من سلطة المركبة التي تقلها إلى الأرض، حملت برايتبيل بين يديها وتجهزت للعودة والسقوط إلى الجزيرة مرة أخرى، أخبرها الطائر: لا أستطيع الطيران، وقامت بشق صدرها الآلي وتجريده من الأدوات التقنية والآلية المحركة للنظام وكأن الآلات قلبها المحرك الداخلي في محاولة منها لحمايته تدخله إلى صدرها ويسألها: ألا تحتاجين إلى ذلك؟
وترد عليه: لدي كل شيء أحتاج إليه.
التحول المفصلي حين يصبح جسد الآلة مكان حماية من التهديدات الخارجية، والطائر الصغير القلب المحرك لهذا الجسد، هي تعرف تمامًا أنها خسرت قلبها الآلي لكن المحرك ليس الآلة إنما المشاعر التي تحركها لهذا الطائر. واللحظة الفارقة الأخرى في تحول الآلة من البرمجة الآلية إلى لحظة الوعي الكوني الطبيعي حين أمسكت بها الشركة المصنعة وحاولت تجريدها من ذكرياتها وقاموا بفصل الطاقة عنها، حاول برايتبيل مساعدتها والاقتراب منها قالت له: فصلوا الطاقة عنك. لكني سمعتك
لأنني كنت أصغي إليك بجزء مختلف من نفسي
أيًا يكن ذلك، هناك أحتفظ بذاتي وأعدك لن يجدوه أبدًا.
لحظة الوعي أو الذكاء التي اكتسبته الآلة في هذه المرحلة مهم جدًا؛ لأنه تجاوز للنظام الآلي المصمم، ويعد وصولًا إلى الذات الأصلية التي لم تُصنّع داخل نظام برمجة الروبوت.
مشهد فصل الآلة وتجريدها من الذكريات والبيانات:
عطاء الآلة (الأم) يستمر ويتكثف عبر عدد من المشاهد وخاصة مع غياب الإوز مع الهجرة فهي تكابد وتجاهد لتوصله إلى سن الرشد والبلوغ كل ما في الفيلم عبارة عن رموز أمومية تختبئ داخل الآلة رغبة منها في ضمان ديمومتها في حياة صغير الإوز حتى وإن شاءت الأقدار إن تغيبه عنه، كما حدث عندما هاجر مع سرب الطيور وهي بطبيعة الحالة تتوافق مع الصورة الإنسانية والحيوانية للأم التي تريد حماية طفلها حماية مطلقة من كل التهديدات الخارجية، وغيابها عنه في أي لحظة سيجعل الكون منشقًا من منظورها، انكسرت ساق روز أثناء مساعدتها لبرايتبيل وهنا يظهر الدور الأمومي (التضحية) الذي تقدمه الأم والعطاء غير المشروط فقد خسرت طرفها الآلي وعاونها القندس ومنحها جذع شجرة ويجعله ساقًا لها، ودلالة جذع الشجرة دلالة على أمومية الآلة، فالشجرة رمز أمومي. إن رمزية الشجرة الدالة على العطاء والخصوبة، تأتي هنا رامزة إلى حالة عطاء مستمر.
ولا يخفى أن الجذع كائن حي يشعر ويحس وهذا مصداقًا لما ورد في التراث الديني فيما روي عن النبي ﷺ أنه كان يخطب إلى جذع نخلة فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن، فجاء رسول الله ﷺ حتى احتضنه فسكن وقال: "لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة"، وهكذا تتصل الآلة بالجذع وتصبح هذه الصلة ممرًا لعدد من المشاعر التي يمتلكها الوعي النباتي.
تجاوز البرمجة الآلية:
كسرت روز قيود البرمجة الآلية وتعلمت كيف تكون أمًا وتقدم دور الرعاية والتوجيه والحماية والاهتمام وتساعده على النجاة داخل الحياة البرية. يركز الفيلم بشكل رئيس على أن فكرة الأمومة ليست حكرًا على الحيوانات والبشر، بل فكرة متجاوزة إذا تتشكل عن طريق التعلم والتعلم والمحاكاة.
هل تملك الآلة مشاعر أمومية؟
يجيب العلماء على هذا السؤال بقولهم «الآلة تشعر بشعور ما بقدر قيامها بنشاط حسي وحركي منظم. وقد يرتبط ثراء هذه العواطف وتنوعها بالتنوع والتعقيد الذي تتسم به بيئات المدخلات والمخرجات التي ستضطر للتعامل معها»(4)، وهذا ما حدث مع روز حين قامت بعدد من الأنشطة الحسية والحركية والتفاعل مع الآخر (الحيوانات)، وطدت مشاعر عميقة معهم.
هل يمكن للآلة أن تصبح أمًا؟
من الناحية التقنية لا يمكن للآلة أن تقوم بالفعل البيولوجي كالحمل والولادة وهي بطبيعة الحال لا تملك مشاعر فطرية أو غرائز أمومية، لكن يمكن للآلة تقديم دور التوجيه والرعاية يمكن أن يكون للآلة دور يشبه دور الأمومة على الرغم من أن الأمومة تجربة معقدة بالمشاعر الإنسانية، أدت الآلة واجبات الأم وظيفيًا لا فطريًا، فقد ظلت مختلفة عن الأمومة الفطرية من حيث جوهرها القائم على الروح والغريزة، قدم الفيلم مقاربة أمومية آلة، وكأني ألمح غزالة حي بن يقظان التي قامت بدور الرعاية الأمومية لكن غزالة حي أصبحت آلة، فبعد ثنائية الإنسان والحيوان أصبح لدينا الآن مثلث الآلة والحيوان والإنسان.
الأمومة الكونية:
تصبح روز الأم الكونية فهي أم كل شيء وهي تجسد عنصر النماء الأنثوي في الطبيعة على الرغم من آليتها، ويظهر هذا التطعيم الكوني عبر أمرين مهمين، الأمر الأول: حين ساعدت كل الحيوانات في الغابة في فصل (الشتاء) وجمعتهم جميعًا في العش (المأوى)، الأمر الثاني: ظهور النبات على سطح جسدها الآلي فهي واهبة للخصوبة الأرضية وللحقول وللحيوانات ولكل ما هو حي.
ولعلي أختم هنا بما كتبه أبولونيوس الرودسي:
ظهرت المعجزة في وقتها المناسب
طرحت الأشجار ثمرًا لا عدّه، واشتعلت الأرض
تحت الأقدام بأعشاب طرية، نزولًا عند إرادتها.
وتركت الحيوانات البرية أكنانها وأو جارها.
وخرجت تهز ذيولها
ولكن الآلهة صنعت معجزة أخرى(5)!
الآلة الأم الكونية
1- فريدريك كابلن وجورج شابوتييه، الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية، تر: ميشيل نشأت، شفيق حنا، مؤسسة هنداوي، ٢٠١٥م، ص٤١.
2- يُنظر: مارك بيكوف وجيسكيا بيرس، العدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات، تر: فاطمة غنيم، أبو ظبي، دار كلمة، ط١، ٢٠١٠م، ص١٥٠.
3- يُنظر: فريدريك كابلن وجورج شابوتييه، الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية، ص١٢٧.
4- فريدريك كابلن وجورج شابوتييه، الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية، ص٥٠.
5- م.ف. ألبيديل، سحر الأساطير: دراسة في الأسطورة، التاريخ، الحياة، تر: حسان ميخائيل إسحاق، ٢٠٠٨م، ص٣١٨.
طرح جميل بورك لك جهدك ، اتمنى أن لاتتعرى الأفكار البشرية حتى لاتصبح هناك حروب دموية لا أنسانية هههههه