أفنان المبارك
عضو هيئة تدريس في السنة الأولى المشتركة- جامعة الملك سعود
نُشر كتاب Of Woman Born "مولودٌ من امرأة" عام 1976، و هو من تأليف الشاعرة الأمريكية والمنظرة النسوية أدريان ريتش. يتناول الكتاب مفهوم الأمومة بشكل موسع، ويفرق بين معنى الأمومة كمؤسسة وكخبرة فردية، كما يُعدّ أحد أهم الكتب المؤسسة في مجال الدراسات الأمومية والنسوية. يتخلل الكتاب سردًا ذاتيًا فيه نصوصًا وصفية وتأملية تحوي مقتطفاتٍ من يومياتها الشخصية، إضافة إلى تحليل نقدي مرتبط بالصورة الشاملة المتعلقة بالسياق الاجتماعي والسياسي. أحد أهم ثيمات الكتاب هو التفريق بين تجربة الأمومة نفسها -أي علاقة المرأة بأطفالها– ومؤسسة الأمومة، وتقصد بذلك النظام السياسي والاجتماعي الذي يحدد دور المرأة ويضعها في قوالب محددة. كذلك تستكشف الكاتبة التقاطع المعقد بين هوية الأمومة وهوية المرأة الفردية، وقضايا متعددة، مثل: ربط هوية الأنوثة بالإنجاب، ونقد السلطة الذكورية في المؤسسات الطبية. كما تدعو إلى إعادة تعريف مفهوم "الأمومة" لتمكّن النساء من إعادة تعريف هوياتهن بعيدًا عن الأدوار التقليدية المرتبطة بالنوع الاجتماعي.
غضبٌ و عطف Anger and Tenderness
كما يتضح من عنوانه، يناقش الفصل الأول شعور الغضب وعلى النقيض منه شعور العطف والحنان. تقتبس الكاتبة نصوصًا من يومياتها وتعلق عليها بشكل نقدي. تتأرجح اللغة بين التعبير بغضب واستياء، وبين البوح العاطفي الصادق. ففي بداية الكتاب تقتبس نصًا سرديًا ذاتيًا من أحد يومياتها.
"يجلب أطفالي معاناة استثنائية وبديعة لم أذق مثلها قط. إنها معاناة متناقضة: هذا الشعور القاتل الذي يتأرجح بين استياء مرير مصحوب بحساسية عالية، وبين الحنو والرضا الهانئ"
"هذه الحساسية المتزايدة يمكن أن تكون مبهجة –منعشة-ومربكة، ومرهقة في آن واحد"
يعبر النص عن الإحساس الخام الذي تحاول الكاتبة إيصاله، فهناك الملل والاستياء والإحباط بسبب العجز عن استيفاء متطلبات الأبناء، الذي يُشعرها بأنها "وحش من الأنانية" و"اللاتسامح". وفي الوقت نفسه تكتب:
"أحيانًا، أذوب لفرط جمالهم الذي لا يقاوم، وضعفهم الآسر لأجد نفسي أحب قوتهم وعفويتهم ولطفهم و أثق بها. نعم أحبهم ، و هنا تكمن المعاناة: في ضخامة و حتمية هذا الحب "
يكشف هذا النص عن ازدواجية مشاعر الأم، والصراع الداخلي الذي تولده الأمومة، فهي علاقة مركبة ذات أبعاد متعددة بطبيعتها الرعائية والاعتمادية. كما يشير إلى الإدراك المرعب لحتمية الانتهاء " الموت وحده هو من سيحررنا من بعضنا البعض".
تكتب ريتش في سياق آخر:
"لكن ما أعرفه جيدًا أنني ولسنوات عدة لطالما اعتقدت أنني لا بد أن لا أكون أمًا لأحد، فأنا أدرك احتياجاتي بحدة، و أعبر عنها بعنف، و كأنني كالي(1)، أو ماديا(2)، أو أنثى الخنزير التي تأكل أطفالها(3)، أو وحش نيتشه"(4).
رغم إشارة الكاتبة في مواضع أخرى إلى أن حياتها صارت ممتلئة وغنية بوجود الأبناء، إلا أنها لم تستطع أن تخفي حقيقة أن وجودهم قد انتزع منها ما تُعدّه أمرًا أولويًا في حياتها: وجود مستقل وحر! و هذا التوق الشديد للحرية والاستقلالية يتعارض مع هوية الأمومة.
ثم تحلل ريتش الغاية الأسمى من الأمومة؛ الشعور بأنك مستحق للحب رغم عدم "استيفاء" الشروط الأساسية التي تتطلب منك أن تكون أمًا بمُثل المجتمع. تعترف ريتش أنها ليست أمًا مثالية كما أنها شديدة الانتقاد، ورغم ذلك يحبها أطفالها؛ فهذه العلاقة روحانية وأخلاقية تتجاوز الحقوق والواجبات.
"يغمرني أطفالي بمحبة بهيجة من حين لآخر وأجد أن هذه المحبة تحقق متعة جمالية لدي وذلك في مراقبة هذه الكائنات الصغيرة المتغيرة. تُشعرني بأنني محبوبة رغم طبيعة العلاقة الاعتمادية، كما تشعرني أنني لست أمًّا غير طبيعية وشديدة الانتقاد على الرغم من كوني كذلك".
أنجبت ريتش أطفالها الثلاثة في سن صغيرة، وقد واجهت صعوبة في رعاية أطفالها وتربيتهم، فقد أعيق تقدم مسيرتها المهنية لتجد نفسها منغمسة في الحياة الأسرية وأعمال المنزل، لم تتمكن ريتش من التوفيق بين هويتها كأم وهويتها ككاتبة وشاعرة "الشعر يوجد حيث لا أكون أمًا لأحد، حيث أوجد كنفسي" بل كان هذا الدور تهديدًا لهويتها الفردية واستقلاليتها. على الرغم من كل هذه التحديات، فقد قامت بالدور المطلوب منبهرة بقدرتها على فعل ذلك مع الحفاظ على علاقة جيدة بأطفالها.
"لا أعرف كيف تمكنا من الانتقال معًا من طفولتهم المضطربة وأمومتي المضطربة إلى اعتراف متبادل بأنفسنا وببعضنا البعض. ربما كان هذا الاعتراف المتبادل -المتأثر بالتقاليد الاجتماعية والظروف- موجودًا دائمًا بين الأم والرضيع عند أول اتصال بالثدي".
إن ما يولّد شعور الغضب بنظر الكاتبة ليس طبيعة الأطفال البريئة، بل بسب التوقعات المجتمعية الحادة و "اللاإنسانية" من الأمهات. قد تشعر الأمهات بالإحباط والاستياء بسبب المسؤوليات الهائلة، والوحدة والصعوبات التي ترافق شعور العزلة الاجبارية للأمهات، والتوق للتواصل مع البالغين والقيود المفروضة بسبب طبيعة المؤسسة الأبوية، والحرمان من الاحتياجات الجسدية الأساسية، مثل: النوم والراحة.
بالنسبة لريتش فإن الشعور بالغضب يعني التحسر على الجهد والوقت الذي أزهق في تلبية التوقعات الاجتماعية، الذي سبب تشوهًا و تلاعبًا في هذه العلاقة بين الأم والطفل، التي تعد المنبع النبيل والأصيل للحب.
وفي المقابل فإن الكاتبة تتعمق في شعور العطف وتكتب عنه بتفصيل بديع. هذا الارتباط العاطفي العميق متأصل في الحب والرعاية، كما تُعدّه الكاتبة قوة إيجابية وقوية و معززًا للعلاقة الأمومية.
وجودهم بحد ذاته هبة عظيمة: تلك الحيوية، و الفكاهة، و الذكاء، و اللطف و حب الحياة .. تتدفق مراحل حياتهم المختلفة إلى حياتي
أيضًا تناولت الكاتبة أزمة الهوية التي قد تتعرض لها الأم، فهي تواجه صراعًا داخليًا بين ذاتها الفردية وذاتها الأمومية، بين واجباتها تجاه الأبناء و حقها تجاه نفسها، بين تلبية احتياجات الطفل وتطلعاتها الشخصية. ثم فصّلت في حالة الاغتراب التي قد تشعر بها المرأة تجاه جسدها وروحها. إن الأمومة بالنسبة للكاتبة بوابة تجاه الذات، تكتشف المرأة فيها نفسها، وتعيد النظر في هويتها الشخصية. ثم استحضرت طفولتها الخاصة، وعلاقتها المتوترة مع والدتها التقليدية، والمشاعر المتناقضة التي تعتري العلاقة.
"أن تحاصر بأمواج من الحب و الكراهية، بالغيرة حتى من طفولة الطفل؛ بالأمل والخوف من أن يبلغ الرشد؛ التوق للتحرر من المسؤولية، المرتبط بكل جزء من كيانها"
"شعور الحماية البدائي و الغريب، كاللبوة التي تدافع عن شبله عندما يهاجمه أو ينتقده أي شخص، ومع ذلك لا يوجد من هو أقسى عليه مني!"
إن هذا الحديث الشفاف والصادق يكسر الصورة النمطية المبسطة والمثالية للأمومة، كما يدعو إلى نظرة أكثر تفهمًا وتعاطفًا لحياة الأمهات، وبالتالي إضفاء طابع أكثر إنسانية على الأمومة بدلًا من تقديسها.
The Sacred Calling النداء المقدس
بالنسبة للأمهات، فإن خصخصة المنزل ليست عجزًا وضعفًا فحسب، بل أيضًا وحدة يائسة.
أدريان ريتش
تناولت الكاتبة أيضًا ممارسة الأمومة من منظور تاريخي واجتماعي، حيث تتبعت تطور مفهوم الأمومة عبر العصور، كما استعرضت الضغوطات والقيود الاجتماعية التي تفرض على النساء من أجل القيام بدور الأم، وانتقدت هالة القداسة التي تحيط بالأمومة وتصويرها بشكل مثالي.
ترى الكاتبة أنه لمن المجحف افتراض أن الأم هي المسؤول الأول عن الأطفال من ناحية الرعاية اليومية، أو الاهتمام بصحة الأطفال وملابسهم، وسلوكهم في المدرسة، وذكائهم، وتطورهم العام، كما أنه من غير العدل أن تحمل مسؤولية الإخفاق في حال كانت الظروف غير مثالية. فالأم غالبًا ما يُتوقع منها أن توازن بين الأدوار المتعددة وتحمل العواقب الاجتماعية لأي تقصير حتى وإن كانت تقوم بدور المعيل الوحيد للأسرة.
أيضًا ذكرت أن مفهوم "البيت" يُعدّ حديثًا نسبيًا تشكل بعد الثورة الصناعية بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ففي الماضي كان نظام الأسرة الممتدة شائعًا، أي أسرة موسعة تشمل الأجداد والأحفاد والأعمام والعمات والأخوال والخالات وغيرهم من الأقارب للأب وللأم. وفي حال كانت الأسرة متضامنة ومتماسكة فإن هذا الشكل الأسري يوفر دعمًا اجتماعيًا وعاطفيًا، حيث كان يتشارك الأفراد الأدوار والمهام والمسؤوليات. إضافة إلى ذلك، فإن المجتمعات التقليدية -البدائية والريفية- تتميز بروابط قوية بين الجيران والأصدقاء، مما يعزز الشعور بالتضامن والتعاون الاجتماعي. ثم ذكرت الكاتبة كيف أن طبيعة العيش في خمسينيات القرن الماضي على سبيل المثال كانت أكثر خفة وحيوية. ففي السابق كانت البيوت متلاصقة، والشوارع مزدحمة، والعلاقات الاجتماعية وثيقة مع أهل الحي والجيران. كما توجد في بعض الأحياء ساحات مشتركة للعب ينطلق فيها الأطفال للعب بحرية تحت أنظار المشاة والجيران. كان من الشائع أن تترك الأم طفلها عند جارتها لمدة ساعة، وأن يتنقل الأطفال بين بيوت بعضهم البعض. لقد أتاح نمط الحياة هذا أيضًا للأمهات فرصة للاستمتاع برفقة عفوية وغير متكلفة. أما في العصر الحالي وبعد الانتقال إلى الضواحي والمنازل الكبيرة المنفردة (الأكثر خصوصية) زادت العزلة ومحدودية التفاعل مع الجيران، وقد أحدث هذا التغيير تأثيرًا سلبيًا في حياة النساء الأمهات وفاقم الشعور بالعزلة والحصار داخل المنزل.
تقترح الكاتبة إذن أن يُعاد النظر في شكل الأسرة النووية الحديثة -أي الوحدة الصغيرة التي تتكون من امرأة ورجل وأطفالهما- يكون فيها الرجل هو المعيل، و المرأة ربة المنزل ومقدمة الرعاية ومستهلكة السلع ومن توفر الدعم العاطفي للرجال والأطفال. "الأسرة" تعني حقًا "الأم" التي تتحمل الجزء الأكبر من تربية الأطفال التي تمتص أيضًا الإحباط والغضب الذي قد يجلبه الزوج من العمل. كما أن فصل ميدان العمل عن البيت كان له تداعيات عميقة على أدوار النساء، فقد أصبح البيت حيزًا منفصلًا يرتبط بالنساء وتربية الأطفال مما عزز من عزلة النساء وتهميشهن الاجتماعي. "الفصل التام بين ميدان العمل وميدان تربية الأطفال أحدث إخلالاً وأضراراً بكلا الأم وطفلها".
أخيرًا بالنسبة لريتش الأمومة ليست مجرد ممارسة تحدث "داخل المنزل"، أو نمط حياة، بل مفهومًا وقضية ذا تاريخ وأيدولوجيا. هذه الفكرة شكلتها القوى السياسية والاجتماعية على مر التاريخ، وهي مؤثرة في كل فرد في المجتمع، بدءًا من الأمهات أنفسهن إلى أطفالهن وآبائهن. تدعو ريتش إلى تشريح مفهوم الأمومة وإعادة النظر في تعقيداتها من أجل تقديم خطاب أكثر تعاطفًا وفهمًا للتجربة الأمومية.
1- إلهة الموت والوقت الهندوسية. غالبًا ما ترتبط بالجنس والعنف ولكنها تُعدّ أيضًا شخصية أم قوية ورمزًا للحب الأمومي.
2- أسطورة يونانية قديمة عن الأم التي قتلت أطفالها انتقامًا من زوجها.
3- في إحالة إلى توصيف الكاتب الايرلندي جيمس جويس الذي شبَّه مدينته "دبلن" بـ "أنثى الخنزير التي تأكل أبناءها".
4- ربما المقصود هنا مقولة نيتشه: "من ينازع وحوشًا يجب أن ينتبه جيدًا ألا يتحول إلى وحش".
コメント