هيئة التحرير
مضى العام الهجري 1445، وكأنّ أوله كان على مرمَى حجَر من آخره! هكذا تقاس المسافة القصيرة -زمنية كانت أم مكانية-، برمية الحجر، إذ مهما تمتدّ اليد بالحجر لترميه بعيدًا عنها سيظلّ قريبًا منها دانيًا. هذا القُرب الذي جعل من الحجارة موجودًا ثقافيًا دائمًا حول الإنسان، يشاركه في أحواله المتغيرة وأعظم أحداثه البشرية قاطبة، فيكون بطلًا لتلك الحكايات حقيقيّها ومُتخيّلها؛ فحجارةٌ من سجّيل تنزل عقوبة لأولئك الذين اقتربوا من قُدس الأقداس (الكعبة المكرّمة) التي بنيت على حجارة نزلت من الجنة، لتظل آية من آيات الله الأبدية. وأحجار ترتصف متمثلة لبشر وشخوص من زيف الخيال فترفَع منزلة إلهية عليّة، تذبح عندها القرابين، وتدار حولها الطقوس، فتتلبس الإنسان بخيالات وأوهام الأساطير.
وكم شكّل الحجر من ذاكرة الإنسان، حتى صار صفحة كتابه الأولى عندما نقش عليه ورسم، فدوّن عليه أسراره وحروبه وأحزانه وآلامه، بل واتخذه شاهدًا على قبره ليخبر العابرين بأنه كان هنا يومًا ما. ولعلّ اتصال الحجر بقدحة الشرر الأولى كان سببًا في جعله حِمل (سيزيف) الثقيل، وباب مغارة علي بابا المتحركة بقوة الكلمة، وهو الذي استجاب لصوت الإنسان فردّد صداه في عمق الوديان وبطون المغارات. وهو ذاته الذي فتنه بلمعانه، وأدار رأسه بألوانه حتى كرّمه البشر فجعلوا (الأحجار الكريمة) كنزًا من الكنوز التي تراق لأجلها دماء الأبرياء والشياطين. وسيقت حولها علوم الزيف مرات، وحقائق العلاج مرات أخرى. ولأنّه الثابت الذي بهر الإنسان بطول بقائه غير آبه بصروف الزمن وتغيّر الأيام ظنّ بعض البشر بأنّ رمية حجر وخطّه على الرمل المتحرك يمكن أن يبوح بسر الزمن ويكشف غيب المستقبل بعرافة وتبصير.
إنه خيال الإنسان الذي رأى في الحجر ما لم يره العِلم، فتسرّب إلى الحكاية والشعر والفلسفة وسائر الفنون، واعتيادية وجوده هذه آن لها أن تزول، فيتكشّف شيء من فرادة هذا الموجود ويعاد النظر في جماليته المغيّبة، ولذلك وغير ذلك، ترسل سياق في هذا العدد النظر أبعد من مرمى الحجر، فتقدّم لكم أقلامًا تقرأ الحجر وما وراء الأحجار، ابتداء من وجودها الحضاري وتاريخها الثقافي في المكوّن البشري الواعي واللاواعي، عبر مقالين في ذاكرة الأحجار الكريمة، وعطش الحجارة، ومقال يحكي بمسبار نقدي خاص غير مكرور عن الحجارة والإنسان، ولأنّ الفنّ رسالة الإنسان الخالدة يأتي (الموزاييك) لغة خلود حجرية عجيبة في تشكيل. والأحجار في الأدب البولندي يكون موضوعًا للترجمة في هذا العدد. وأمّا السلالم فتصعد لحديث عن خرافات الاستشفاء بالحجارة وحقائق العلاج بها، ولا يمكن أن يفوت سياق الكشف عن الوجه الآخر لتجارة الألماس عبر مراجعة فنية لـ(ألماس الدم)، وغير ذلك من طرح متنوع في نحت مصطلح وحوار حول الأحجار وأسئلتها وإجاباتها المحتملة.
إنها سياق بين يديكم مقاوِمة للتحجّر، متدفقة كالماء المتفجّر من الحجارة، لكنها أيضًا هادئة قوية كالقطرة التي تفلق الصخرة العتيدة، متراقصة كحصوات تلقيها يد طفل مشاغب ليعكر صفو البركة الراكدة بحلقات نغمية على صفحة الماء، فتأمّلوا معنا هذه اللوحات (الحجرية) وسجّلوها شاهدًا على فكر الإنسان الحيّ.
Comments