ريناد العريني
باحثة في الأدب المقارن بجامعة الملك سعود
التهويدة لحنٌ لا تجيد صياغته سوى حناجر الأمهات التي تتهادى في جُنح الليل؛ لتُطمئن الطفل الصغير الذي يخفت بكاؤه شيئًا فشيئًا حين تلتقط أذنه الضئيلة نَغَمات أمه الحانية، ورغم كونه مشهدًا بسيطًا مألوفًا في كلّ بقاع الأرض إلا أنه مشهدٌ مُحمّلٌ بالمعاني والمضامين الشّعورية والاجتماعية واللغوية، مما يستدعي الوقوف والتأمل في تفاصيل ذلك المشهد المغمور بالعواطف، والتقاط الدلالات الضمنية التي تحكيها لنا التهويدات باختلاف اللغات التي صيغت بها، والثقافات التي انطلقت منها، والأصوات التي ترنمت بها. في هذا المقال أسعى إلى التعريف بالتهويدة وتبيان سماتها والدوافع الكامنة خلف تشكّلها ومضامينها الظاهرة والمُضمرة، وأثرها في الطفل، باستعراض نماذج شتّى للتهويدة في مختلف الثقافات.
أغاني المهد باختلاف مسمياتها -التهويدة، والهدهدة، والليلوّة- هي لونٌ من ألوان الأدب الشعبي الشفهيّ، مستقرّها الذاكرة ومخزنها الأفئدة، وللحناجر والألسنة دور نقلها وتناقلها جيلًا بعد جيل، ومما تتسم به وتمتاز هو كونها مجهولة المصدر، لا يُعرَف لها مؤلفٌ أو مُلحّن، كأنما هي تنبع من نبع الأمومة المشترك الفيّاض؛ لتنسكب في آذان الرّضع حيثما كانوا، وتلك سمتها الثانية فهي ذائعة لا تجهلها حواضن الأمّهات ولا يخلو من صداها مهادُ طفل؛ واسعة الانتشار والتداول لا سيما ما استقرّ منها في ذاكرة الأدب الشعبيّ، فهل منّا من لم تطرق مسامعه "دُوها يا دُوها" أو "يالله تنام يالله تنام"؟ ولا ريب في أن هذا الانتشار يفضي إلى إحداث تغييرات في تلك التهويدات من زيادةٍ أو نقصان؛ نتيجةَ تواترها الشفهيّ، فقد تختلف كلماتها من بيئةٍ إلى أخرى مع بقاء رتمها والحفاظ على لحنها ومقاطعها الرئيسة.
تتسم التهويدة أيضًا بأنها كأيّ منتجٍ ثقافيّ تحمل خواصّ بيئتها وعصرها؛ ولذا كانت التهويدات العربية متعددة اللهجات متنوعة الألفاظ رغم اتفاقها في كثيرٍ من مضامينها، وبمجرد النظر في كلمات التهويدة وعباراتها يمكن التوصل إلى الثقافة والبيئة التي وُلدت فيها، بل وحتى أنها قد تكشف في طيّاتها ملامحَ ثقافية، ومواقف مُجتمعية، كالاختلاف بين استقبال المولود الذَّكر والمولودة الأنثى في المجتمعات العربية على سبيل المثال، ففي التهويدة المصرية تغني الأم لمولودها الصّبي: "لمّا قالوا دا ولد.. اتشدّ ظهري واتسند.. لما قالوا دي بنيّه.. هدوا سقف البيت عليّه"، ويظهر في هذه التهويدة بجلاء النظرة المجتمعية إلى المولود بعين الفخر والاعتزاز في حين تقابلها نظرةٌ أخرى ملؤها العار والهوان للمولودة، غير أن من الطريف المُعجِب ملاحظة شكلٍ من أشكال السجال الذي تقوده ألحان الأمهات، ففي التهويدة المقابلة تُغنّي الأم التي رزقت بمولودةٍ: "لما قالوا دي بنيّه.. أنا قلت يا ليلة هنيّة.. ولما قالوا دا غُلام.. أنا قلتُ يا ليلة ظلام"، وهنا تخرج التهويدة عن كونها مجرّد وسيلةٍ لطمأنة الطفل وإنامته إلى كونها صوتًا قد يحاول تكريس الآراء المجتمعية أو صوتًا يسعى إلى مقاومتها وتغييرها.
فالتهويدة إذن تنطلق من جوف الأم لغايةٍ رئيسة هي أن يخلد صغيرها إلى النوم، وتتحقق تلك الغاية بما تمنحه التهويدة من دفءٍ وطمأنينة، ذلك أنها غالبًا تكون ذات لحنٍ رتيب، وكلماتٍ متكرّرة مدارها حثّ الصغير على النوم، ويتزامن مع غنائها الرّبت على كتف المولود برفق وهدهدته بين ذراعي والدته، إلا أن هذه الغاية الرئيسة ربما تُخبئ خلفها دوافع شعورية أو غير شعوريّة تتكشف عند تفحُّص معاني التهويدة، إذ تعبّر فيها الأم عن مشاعرها أو رغباتها وتطلّعاتها، وأحيانًا عن خوفها وقلقها وهو ما يجعل بعض التهويدات تنوء بشيءٍ من الصور المُخيفة، كما يحضر فيها ذكر المخلوقات الغريبة والمُفزعة؛ ففي تهويدة إسبانية شهيرة يذكر مخلوق "كوكو" وهو شبحٌ يشبه الوحوش يخطف الأطفال في ظلمة الليل، ونظائره كثيرة في عدد من التهويدات من مختلف الثقافات، منها التهويدة الروسية الشهيرة المُعنونة بـ "نم الآن"، ومن كلماتها: "الليل الصامت يُخفي كلّ شيء.. ها هو ذا يتسلّل من ورائك.. وسوف يمسك بك"، فخلف هذا الشكل من التهويدات التي قد تكون مدعاةً للاستغراب والتّعجب يختبئ قلب الأم المضطرب والغارق في الخوف على صغيرها ما يحدو بها إلى هدهدته بهذه الكلمات.
غير أن أكثر أشكال التهويدة شيوعًا هو شكلها اللطيف الذي يمتلئ بالكلمات المُشرقة والسعيدة؛ تعبيرًا عن محبة الأم وتطلّعاتها وآمالها المعلّقة على طفلها، فيحضر تمنّي صحته وقوته ونمائه، كما في التهويدة الرومانية "يا طفلَ أمّك الصغير.. أتمنى أن تكون قويًّا"، ويحضر تمنّي صلاح المولود واستقامته الدينيّة كما في التهويدة اللبنانية "يا الله تنام ريما.. يا الله يجيها النّوم.. يا الله تحبّ الصلاة.. يا الله تحبّ الصوم"، ويحضر تمنّي مجده ومنفعته، كما في التهويدة الصينية "يا بنيّ حين تكبر.. ستكون عونًا للبشر"، ويسبق هذه الأمنيات والآمال عادةً تعبيرٌ رقيق تنسجه الأم من ظلال محبتها الوارفة لصغيرها فتترنم بتدليله واستلطافه ومحبّته، وهو ما تُفتتح به كثيرٌ من التهويدات.
وممّا قد تعبّر عنه الأم في هدهدتها لطفلها الاشتياق والحنين للأب الغائب عن أسرته، فتكسو التهويدة نبرةٌ حزينة، كما في تهويدة شجيّة من جنوب إفريقيا تُخاطب فيها الأمّ صغيرها لتطمئنه بأن والده سيعود، كما لو كانت تطمئن ذاتَها فتقول: "فلتهدأ يا صغيري.. سيعود بابا حين الغروب.. ستدلّه على بيتنا النجمة.. تلك النجمة التي تُضيء طريقَه.. الصغار يكبرون لكنّك لا تدري يا حبيبي.. الصغار يكبرون لكنك لا تراهم".
وعلى كلٍّ، فإن التهويدة بصورها المتعددة ودوافعها المختلفة وأشكالها المتنوّعة تظلّ رافدًا معرفيًّا مهمًّا وأوّليًّا للطفل الصغير، بما قد يستقي منها من المفاهيم والقيم، وبما تسهم به من إثراءٍ لقاموسه ذي الكلمات المعدودة، وهو أمرٌ أثبتته الدراسات التي بحثت دور أغاني المهد في الثّراء اللغوي للطفل، وما يتبع ذلك من آثار؛ إذ اللغة عماد الفِكر، وكلّما زادت حصيلة الطفل اللغوية زاد تمكّنه من صياغة أفكاره والتعبير عنها، ولا يقف أثر التهويدة عند ذلك، بل إنها أيضًا تنمّي ذوق الطفل الأدبي وحسّه الفنيّ، وتعلّمه النّغَم والغناء والتعبير الشاعريّ، وفي ذلك تقول آن ديڤريز: "التهويدة هي مبدأ الشعر في حياةِ كلّ فردٍ منا، بل وربما في تاريخ البشرية جمعاء".
Comments