د/ هناء عبدالحفيظ جان
أستاذ مساعد الأدب الإنجليزي في جامعة الملك سعود
لا تغيب شخصية الأم عن أطياف الأدب وفضاءاته، ففي المكانة ذاتها المميزة التي تحتلها الأم في واقع الحياة، يأتي التجسيد الفني المعبر الذي يصوره الكتّاب والروائيون للأم في أعمالهم التي تناولتها، وقد عكست العديد من الأعمال الأدبية صور الأمومة بأبعادها ورموزها المتعددة من العطاء والتربية والحنان والحب غير المشروط. كما تناول الأدباء شخصيات الأمهات من زوايا مختلفة تتفاوت ما بين الملائكية والمثالية، والكفاح، والصراعات الشخصية، والاضطرار أحيانًا لمجابهة الواقع ومحاولة التكيف مع ضغوط الحياة والمجتمع. ففي الأدب العالمي نجد روايات ومسرحيات وقصصًا، قدمت نماذج خالدة للأم في كل مكان وزمان بكل ما تمثله من قيم. ومن أبرز الروايات العالمية التي تناولت موضوع الأمومة -على سبيل المثال لا الحصر- الرواية الروسية "الأم" لمكسيم غوركي، ورواية "نساء صغيرات" للأمريكية لويسا ماي ألكوت، و"حليب أسود" للكاتبة التركية إليف شافاك، و"أرجوك اعتني بأمي" للكاتبة الكورية كيونغ سوك شين، ورواية "باولا" للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي. حيث سجّل الإبداع الإنساني صورًا عديدة ملهمة للأم والأمومة لتبقى الأم في الأدب والفن كما هي في الحياة الواقعية رمزًا لكل ما هو جميل ونبيل.
المقاومة بالكتابة
في رواية "باولا" للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي تتجلى الأمومة والرعاية كمحورين رئيسين ينسجان خيوط السرد. الرواية التي تأخذ شكل مذكرات شخصية بدأتها الليندي كرسالة كتبتها إلى ابنتها عند دخولها في غيبوبة جراء مرض الاضطراب الأيضي (البيرفيريه)، حيث أرادت إيزابيل أن تجد ابنتها باولا عندما تفيق ما يذكرها بهويتها وماضيها وما قد فاتها أثناء فقدانها للوعي. تبدأ الأحداث في مستشفى بإسبانيا حيث ترقد باولا. وبذلك تمتد رواية "باولا" لتشمل تأملات عميقة في الحب والألم والأمل والصمود والهوية، فهي ليست مجرد رواية متخيّلة إنها تجربة واقعية مريرة مكتوبة بقلم أم مكلومة استمرت ترعى ابنتها مع عجزها عن مساعدتها. فمن خلال أسلوبها الأدبي الغني، تنجح إيزابيل الليندي في نقل تجربة إنسانية عميقة حيث تجعل القارئ يتفاعل مع المشاعر المعقدة التي تعيشها الأمهات في الصراع مع أعتى المخاوف التي قد تواجهها أي أم وهي فقد ابن أو ابنة. فالليندي تقدم العمل بأسلوب حميمي وشخصي يربط بين الذكريات الشخصية والمعاناة الإنسانية عمومًا.
تكتب إيزابيل ولا تفيق باولا فتقرر الاستمرار في الكتابة واستعراض ماضيها، وتاريخ أسرتها، وتاريخ التشيلي بأسرها لتموضع محنة باولا بين كل ما عانته إيزابيل وأسرتها وما عاناه شعبها؛ وذلك لإحساسها بأن كل المحن التي واجهتها في طريق حياتها الطويل "لم تكن إلا أعدادًا قاسية من أجل هذه التجربة" (ص 345). أرادت أن تواجه المرض، وربما أرادت مواجهة الفقد المرتقب، بسرد تفاصيل حياتها وحياة أسلافها. من خلال مخاطبة باولا، الابنة النائمة في سبات أبدي. تعكس الرواية مشاعر الأمومة العميقة لأم تحاول بكل ما أوتيت من كلمات التمسك بابنتها وهي ترى الحياة تذوي فيها يومًا بعد يوم، حيث تمنح الأمومة الكاتبة القوة والثبات وتعكس في الوقت نفسه ضعفها وهشاشتها. فالكتابة لباولا مكنت إيزابيل الليندي من احتواء ألمها ومقاومة عجزها عن مساعدة ابنتها، ليكون القلم السلاح الوحيد الذي تعرف استخدامه، وسيلتها بوصفها كاتبة وأم جريحة في التنفيس عما تشعر به، فهي تعترف بقولها: إن "الكتابة تريحني، بالرغم من أنها تكلفني الكثير، لأن كل كلمة هي أشبه بجمرة حارقة، فهذه الصفحات هي رحلة لا رجعة عنها في نفق طويل لا أرى له مخرجًا" (ص 355). فحياتها تتجسَّد حين ترويها، وذاكرتها تثبت بالكتابة.
الحبّ المؤلم
ليس أقسى على الأم من أن تشهد موت قطعة منها. عانت الليندي من تقبل فكرة أن باولا قد لا تستيقظ أبدًا. ولعل أكثر ما يميز وصف الليندي لمشاعر الأمومة هو ذلك التناقض في المشاعر التي تثيرها هذه العاطفة. تدخل الأم في رحلة من الألم والمعاناة، حيث تُعبر الليندي عن مشاعر القلق والخوف التي تراودها كأم عند مرض أحد أبنائها، وكيف أن الحب يمكن أن يتحول إلى ألم عميق عندما يُهدد هذا الحب بفقدان من نحب، فتكتب: "هل يمكنني أن أعيش من أجلك؟ أن أحملك في جسدي لتستمري في الوجود؟ ... أن أكون أنت، أن تحيي وتشعري وتنبضي فيّ... أن أمّحي، وأختفي لتأخذي مكاني يا ابنتي" (ص 484). تكسب الكاتبة مشاعرها لابنتها بعذوبة وحنان مستعرضة لحظات طفولتها وصباها وكل خصالها المميزة والجميلة، ثم تلوم نفسها على ما أصاب ابنتها متسائلة إن كان عليها التصرف بطريقة أخرى أو ربما نقلها لمستشفى آخر، ولا تلبث أن تتحول إلى وحش ضارٍ تحارب بشراسة وبلا تردد, وتكون على استعداد للتضحية بحياتها راضية لو كان ذلك يمنح ابنتها دقائق إضافية تحياها على الأرض حتى ولو من خلال الذكريات والحكايات، وتستمر في مشاغلة الموت حتى لا يجد طريقه إلى باب باولا.
قوّة الأمومة
تتّخذ الليندي من الكتابة وسيلة لإحياء إرث ابنتها وماضيها وتخليد اسمها للأبد في رائعة أدبية ولدت من معاناة أم. تشكل علاقة الأم بابنتها محور الرواية فتكتب الليندي عن القوة الهائلة لمشاعر الأمومة والحب اللامتناهي للأم حتى في أحلك وأشد الظروف ضراوة. القلب الذي يستمر بالعطاء والحماية والمقاومة حتى وإن تخلى ويئس الجميع. تتجول الليندي وتأخذنا معها في ذكرياتها، وحياة أسرتها عبر الأجيال، تعرضها للنفي من بلدها، معاناتها ومأساة شعبها، وخلال الرحلة تحاول تمرير ذكريات تجربتها العاطفية كأم تحاول استيعاب فكرة رحيل فلذة كبدها فيمتزج الماضي بالحاضر، والفرح بالمعاناة، والأمل بالخوف في ضوء من التأمل الفلسفي ومحاولة إيجاد مبرر لما أصاب باولا. تواسي الليندي نفسها وكلّ أم ثكلى بأن "النساء منذ عصور لا ترقى إليها الذاكرة يفقدن أبناءهن، إنه أقدم آلام البشرية وأكثرها حتمية. ليست الأم الوحيدة، فجميع الأمهات تقريبًا يمررن بهذه التجربة، تتحطم قلوبهن، ولكنهن يواصلن الحياة لأن عليهن مواصلة حماية الأبناء المتبقين وحبهم" (ص 434). وتسرد الرواية قصصًا من حياة إيزابيل الليندي، وتصف كيف أن الأمومة تتطلب تضحيات كبيرة وتروي كيف أن حياتها الشخصية والمهنية تأثرت بشكل كبير بمرض ابنتها، وكيف أصبحت جميع أولوياتها تدور حول رعايتها. هذه التضحيات تتجاوز مجرد الرعاية الجسدية لتشمل أيضًا الدعم النفسي والعاطفي، حيث تحاول إيزابيل أن تكون قوية من أجل باولا، رغم ما تمر به.
الذاكرة والهوية
تتناول الرواية أيضًا موضوع الأمومة بين الذاكرة والهوية وكيف أن تجارب الأمومة تتداخل وتتشابك مع الهوية وهي صفة متوارثة ومتجذرة. فمن خلال استرجاع الذكريات، تستعرض الليندي لحظات من طفولة باولا مبتدئة بلحظة حملها وكيف أن تلك اللحظات بينهما شكلت هويتيهما التي تعززها التجارب المشتركة. وتستعرض الليندي طفولة باولا كما رأتها في السادسة، والخامسة عشرة وفي العشرين، وفي فستان الزفاف. فتستخدم الذكريات كمصدر للثبات في الأوقات الصعبة حيث تتحول إلى قوة دافعة لإبقاء باولا حية في ذاكرتها للأبد. تجربة الليندي مفعمة بالحب برغم المصاعب. تسرد اللحظات الخاصة بينها وبين باولا من لحظة ولادتها وحتى مرضها وأخيرًا وفاتها سردًا عميقًا يعكس عمق العلاقة بين الأم وابنتها وهي علاقة متنامية متواصلة عبر الأجيال، تتجلى في تاريخ الأسرة حيث إن رعاية الأم لأبنائها ليست مسألة بيولوجية فحسب، وإنما هي انعكاس لعلاقة تؤصلها جذور ثقافية وتاريخية عريقة، إذ نجد أن أرواح جدات إيزابيل وباولا ميمي وغرانا والتانا وتأثيرها يحوم حول إيزابيل وباولا، ونجد أم إيزابيل الليندي حاضرة معها في مدريد تقيم معها بالفندق نفسه تعتني بها وتشاركها الألم والحسرة وقضاء الأيام فيما أسمته بممر الخطى الضائعة بجوار وحدة العناية المركزة حيث ترقد باولا، وتقول إيزابيل عن أمها "إنها أطول حب في حياتي، بدأ يوم حملت بي وما زال مستمرًا طوال نصف قرن. وهو كذلك الحب الوحيد غير المشروط" (ص 76). إيزابيل الأم التي تكتب لابنتها وعنها، تكتب أيضًا عن علاقتها بأمها مما يعزز الدور المتجذر للأمومة.
الموت والخلود
بعد مرور ما يتجاوز السنة على دخول باولا في سباتها العميق، ومع تضاؤل فرص عودتها للحياة، وعندما بدأ الأطباء بمناقشة فكرة الموت الرحيم أو نقلها إلى مصحة علاجية للحالات الميؤوس منها، تقرر الليندي التي تعلمت كيفية العناية بابنتها من مراقبة ومساعدة الممرضات، نقل باولا بكل أجهزة الرعاية الطبية اللازمة إلى بيتها في كاليفورنيا لتتولى رعايتها بنفسها رافضة فكرة التخلي عنها وتركها للموت. استمرت الليندي تعتني بباولا وتقاوم للحفاظ على ما تبقى لها من جسد ابنتها وأنفاسها وإن كانت بواسطة الأجهزة الطبية ولا تتوانى في تجربة كل ما يمكن الحصول عليه من طب بديل ومبصرين ووسطاء روحيين وطب الأعشاب والطب التجانسي والتداوي الصيني والصلوات. أدركت أن باولا لن تعود ولكنها لم تتمكن من الاستسلام والتقبل وما زالت تناضل "مثل لبوة" لإنقاذ فلذة كبدها بالرغم من أن الواقع بدأ يهزمها، إلى أن زارها طيف باولا في منامها يومًا، فرأت باولا تخبرها بأنه قد حان وقت الوداع وترجوها بألا تكبلها لمزيد من الوقت وبأن تسمح لها بالرحيل. لكن الليندي التي ما زالت غير قادرة على حمل نفسها؛ لاتخاذ تدابير إنهاء الحياة لقطعة من روحها، تقرأ أخيرًا الرسالة التي كتبتها باولا التي احتفظت بها: "كشيء مقدس متصورة بأنها تتضمن التفسير الذي تتلهف إليه" (ص 480)، لتكون تلك الرسالة وصية باولا، نعيها لنفسها، وكلمات تودع وتواسي بها أسرتها ومحبيها.
تستسلم إيزابيل وتسمح لنفسها بالنحيب قائلة: “أريد أن أعاني هذا الحداد صارخة حتى النفس الأخير، ممزقة ثيابي، منتزعة شعري في قبضات، مغطية نفسي بالرماد، ولكنني منذ نصف قرن وأنا أمارس قواعد السلوك الجيد، إنني خبيرة في إنكار الغيظ وتحمل الألم، وليس لدي صوت لأصرخ.. ربما أخطأ الأطباء وكذبت الآلات ولست غائبة عن الوعي تمامًا وتلاحظين حالتي المعنوية يجب ألا أثقل عليك ببكائي.. إنني أختنق بالحزن المكبوت، أخرج إلى الشرفة فلا يكفيني الهواء لكل هذا البكاء ولا يكفيني المطر لكل هذه الدموع" (ص 484). وفي لحظة إدراك مؤلمة تعترف إيزابيل لنفسها بأنها قد ودعت بالفعل ذكاء باولا ثم حيويتها وصحبتها وأن الوقت قد حان لتودع جسدها؛ "وجاء الموت بخطوات خفيفة" (ص 487) حيث شرعت حواس باولا بالانغلاق واحدة تلو الأخرى، بدأت باولا تحتضر، دست الليندي نفسها في سرير ابنتها وشدتها إلى حضنها كما كانت تفعل حين كانت طفلة وراقبت أنفاسها وهي تتوقف والنبض يفارقها.
ماتت باولا بسلام دون صراع أو جزع أو ألم في حضن والدتها محاطة بأفراد أسرتها وأرواح أسلافها.
ماتت باولا ابنة إيزابيل الليندي، لكن أمها خلدت اسمها في عمل أدبي مميز ليكون شاهدًا على حب أم، ومقاومتها، وحسرتها، وأخيرًا تقبلها، محولة تجربتها الشخصية من ألم الفقد إلى قوة إبداعية ملهمة للتعامل مع الحزن والفقد من منظور أعمق وأشمل. وهي بذلك تؤكد على أن حب الأم نبعٌ لا ينضب.
المرجع: الليندي، إيزابيل: (باولا) ترجمة صالح علماني، دار الآداب، 2018.
Commentaires