هيئة التحرير
دورة أخرى من سياق اكتملت، ووصلت الرحلة وقفتها الأخيرة بعد محطات تنقلنا فيها بين تجارب وموضوعات كانت أشبه بسياحة ثقافية، رافقنا فيها الإبل وعدنا للتاريخ ودوزنّا العود، وسافرنا مع الخيال، وتأملنا الأحجار، وأشدنا بالرعاية، وأخذنا حتى استراحة للنوم. الآن نصل إلى محطتنا الأخيرة في هذا الموسم من نشرة سياق، ويطيب لنا أن نودع قراءنا الأعزاء مع روائح الطيب. تقول أمثالنا في الجزيرة العربية: ما عقب العود قعود! هكذا أردنا في سياق أن نترك شمعة الرائحة العطرية مشتعلة، ونلملم أفكارنا على نوتات العود وروائح البخور الذي يشمه القادمون والمغادرون في مطاراتنا، وصار مكونًا من مكونات هويتنا ومصدرًا من مصادر سعادتنا..
"أخلاقيات الرائحة" مصطلح بدأ ينمو بشكل مثير للاهتمام في الدراسات الأدبية والثقافية المعاصرة، ففي حين تقدر بعض المجتمعات ثقافة التطيب والتعطر عند الإقبال على الناس وتحبذ الدخول على الجماعة برائحة طيب فواحة، تعيب مجتمعات أخرى الحضور الفج للروائح وتُعدّه سلوكًا عدائيًا حتى إن كان عطرًا أخاذًا اقتناه الفرد من أجود متاجر الطيب أو أرقى الماركات العالمية، وهو ما يعرف بسياسات الرائحة.. لكن ماذا تعني الرائحة للمجتمعات والأفراد؟ كيف تحضر الذاكرة والصور الشمية في الأدب أو تتمثل في الفن؟ وما مدى اتساع المعاجم أو ضيقها في مختلف الثقافات بالمفردات التي تحيل على اللغة أو تعبر عنها؟ هل تشبه اللغة المراتية الهندية من هذه الناحية لغة الإنجليز مثلًا؟ وفي سياق الاستعمار الذي جمع بين هاتين الثقافتين في مرحلة تاريخية، كيف كانت علاقة المجتمعين على صعيد الرائحة؟ ماذا عن المجتمعات الأمريكية بتعددها وتنوعها؟ هل لسياسات الرائحة دور في تصميم العلاقات ضمن حالة سياسات الهوية الراهنة؟ نسعى في هذا العدد من سياق لتأمل بعض هذه الأسئلة، ونترك البقية لقراء سياق لأخذها إلى مستويات أخرى من البحث والتفكير.
تفتتح الدكتورة رانية العرضاوي العدد بمقال ظاهراتي يعطس له القلب لما دغدغ أنوفنا، وتكتب نوف السماري في تشكيل عن كيمياء اللون والرائحة، وفي سلالم تكتب ضياء محمد عن الرائحة في الأدب مقالًا يتأمل الرائحة؛ بوابة الحواس إلى عالم النص، ويتوغل محمد جمعة في صورة الرائحة والروح من خلال قراءة في رواية العطر والفيلم المقتبس منها، كما تكتب الدكتورة غزال الحربي عن ثقافة الرائحة في الأدب الأمريكي، وفي الضفة الأخرى تراجع هناء جابر ثيمة العطر وتداعيات الذاكرة في كتاب الرائحة: أبجدية الإغواء الصامتة. مقالات تؤصّل لمداخل حول دراسات الرائحة وسياساتها ومعجمها الأدبي، فافتحوا حواسكم وأنوفكم وتقبلوها كما تتقبلون مبخرة العود وهي تدور بين الحاضرين وتعبق في الأجواء؛ أمرر هذه المبخرة بين أيدي أعضاء فريق التحرير الاستثنائي الذي عمل على مدار عام كامل بذات مستوى الحماس والإبداع؛ مجموعة أشعلت مواقد الفكر في "سياق" فلم تعبق إلا بأنفاس المسك والهيل والطيب. شكرًا لفريق سياق الفاخر بمن فيهم فريق الدعم الفني؛ شكر لا ينتهي لهيئة الأدب والنشر والترجمة للدعم الذي مكننا من الاستمرار طوال عامين.. وشكرًا للقراء الذين رافقونا في هذه الرحلة..
طيب الله أنفاسكم وقلوبكم..
Comments