جوليا برانش Julia Branche
ترجمة إبراهيم الثاني
مراجعة: أ. سمر المزيد ود. سماهر الضامن
"ما فائدة السينما عندما تأتي بعد الأدب؟ " جان لوك غودار
استهلال
احتفالاً باليوم العالمي للكتاب، وفي محاولة للإجابة على سؤال غودار المربك قصديا (أعلاه)، أردت أن أستعرض العلاقات المتعددة التي تربط بين الأدب والسينما.
اليوم العالمي للكتاب هو احتفال عالمي للكتب والأدب معترف به من قبل اليونسكو ، وفي رادينس Raindance، كل يوم هو احتفال بالأفلام والسينما. ولذا فإن اليوم العالمي للكتاب هو مناسبة مثالية للمقارنة بين الأدب والسينما؛ الشكلين الفنيين المتداخلين بشكل معقد بحيث يشكلان مصدر إلهام لبعضهما البعض ، فضلا عن أن كلاهما يخلق لجماهيره عالما خياليا بلا حدود.
قد يكون من الصعب أن تحصي عدد الأفلام العظيمة أو الأفلام السيئة المقتبسة من كتب، سواء من كلاسيكيات الأدب مثل Dangerous Liaisons (١٧٨٢) للكاتب شودرلوس دي لاكلوس والمحول إلى فيلم للمخرج ستيفن فريرز في عام ١٩٨٨, أو القصص القصيرة مثل الطيور The Birds (١٩٥٢) للكاتب دافني دو مورييه التي حولها المخرج ألفريد هيتشكوك في عام ١٩٦٣ إلى فيلم، وخصصت أحدى فئات جوائز الأوسكار لأفضل نص سينمائي مقتبس من عمل روائي أو قصصي، بعد ظهور العديد من النماذج السينمائية المقتبسة من أعمال أدبية.
ومع ذلك، فإن الأعمال الفنية التي تظهر على الشاشة ليست معتمدة كليا على الأعمال الأدبية المكتوبة، إذ تبتكر بعض الأفلام أسلوبها الأدبي/الفني الخاص من خلال التركيز على حياة مؤلف مشهور أو من خلال اعتماد خط سينمائي معتمد على اتجاهات أو حوارات أو تعديلات للوصول إلى الهدف الغني الأدبي أو الشعري المنشود. هنا خمسة أمثلة عن كيفية خلق العوالم الخيالية في السينما والأدب من خلال توظيف الكلمات والصور! فعندما تجتمع السينما بالأدب، فإننا نتصور، ونتخيل، ونحلم أكثر!
1 مشكلة التكييف adaptation
عند الحديث عن السينما والأدب، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو مسألة التكييف . والتكييف هو، في الواقع، ممارسة حساسة للغاية، لا سيما عند تحويل عمل أدبي كلاسيكي له قاعدة جماهيرية عريضة ومحبوب من قبل قرائه إلى عمل سينمائي.
يوضّح الروائي جوزيف كونراد في مقدمة روايته زنجي السفينة نرجس The Nigger of the Narcissus (١٨٩٧): "إن مهمتي التي أحاول تحقيقها، هي أن أستخدم قوة الكلمة المكتوبة، لأجعلك تسمع، وتشعر، وقبل كل شيء: ترى!". خلال القراءة، نتخيل غالبا عالمًا خياليًا يتكون من أفكارنا وتفسيراتنا الخاصة، وعندما يقوم المخرج بتحويل رؤيته الخاصة لعمل أدبي إلى فيلم، فإنه لن يتطابق تمامًا مع رؤيتنا. وهنا تأتي خيبة الأمل... أو المفاجأة!
جول وجيم (١٩٦٢) للمخرج فرانسوا تروفو: أسلوب أدبي على الشاشة.
يمكن من خلال استخدام بعض التقنيات السينمائية إخراج الصور الذهنية لقراء الكتب وتحويلها إلى صور حية على الشاشة. على سبيل المثال، يتناسب أسلوب الموجة الفرنسية الجديدة لـفيلم جول وجيم السينمائي مع الأسلوب الأدبي المستخدم من قبل الكاتب هنري بيير روشيه في الرواية الأصلية؛ فهو حاد، تغلب عليه الجمل القصيرة، متأرجح ديناميكيًا، ويعبر عن الحرية الشخصية في الحب ونمط الحياة الفردي. وهنا، يتطابق الفيلم مع أسلوب الكتاب من خلال عدة تقنيات مثل عدم التطابق والتغييرات السريعة للمشاهد والطريقة غير المعتادة للتصوير التي تتناوب بين اللقطة العكسية واللقطات الطويلة.
جول وجيم قصة صداقة بين البطلين، لكنها تحكي أيضًا قصة حبهما مع كيت (كاثرين في الفيلم، بطولة جين مورو). في أحد المشاهد، نجد أن كاثرين على علاقة مع جول، لكنها تلتقي بجيم وهي ترتدي ملابس رجل، وتصور العلاقة من خلال مشهد ركض رمزي فوق جسر باريسي. عمل تروفو على تحويل كلمات روشيه، وقام بتصوير الانطباع الذي يمكن للقارئ الخروج منه على شكل مشهد سينمائي. في هذه الحالة بالذات، تتوافق اللغة السينمائية للفيلم مع اللغة الأدبية للكتاب، مما يجعل جول وجيم من أهم الكلاسيكيات الأدبية.
غاتسبي العظيم The Great Gatsby (٢٠١٣) لـ باز لورمان (Baz Luhrmann): عندما يكون الفيلم بعيدًا عن الكتاب.
هل يستحق الأمر حقًا مقارنة كتاب بالعمل المقتبس منه؟ لا شك أن من الأفضل الاحتفاظ ببعض الكتب غير القابلة للتكييف السينمائي بعيدًا عن المستثمرين، لأننا نحبها لدرجة عدم رغبتنا برؤية عمل سينمائي لها. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يعتبر تحويل الأدب إلى السينما بمثابة عمل فني فردي. على سبيل المثال، دعنا نقتبس من مقطع فيديو قناة Now You See It "فيلم مقابل الرواية: ما الذي يجعلهما مختلفين؟" بدءًا من الدقيقة الثانية و٤٦ ثانية، حين وازن الراوي مشهد غاتسبي العظيم لباز لورمان بالمشهد الأصلي في كتاب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد.
في المقطع ، ستلتقي الشخصية الرئيسية غاتسبي مع ديزي لأول مرة بعد سنوات من انفصالهما وحبهما الشاعري. وفي الفيلم، يستأجر غاتسبي بستانين، ويشتري المئات من الزهور والزينة التي تشغل مساحة المنزل بأكمله. وإضافة إلى تمثيل دي كابريو، فإن الصور المرئية توظف كوسيلة لتجسيد قلق غاتسبي. أما في الرواية، فهناك خادم واحد فقط ، ولم تُحضر أي زهور، ووُصف خوف غاتسبي من مقابلة حبيبته السابقة مرة أخرى باستخدام جملة حادة، ولكنها ذات مغزى: "في وسط بركة ماء، كان يقف غاتسبي-شاحباً كالموت- ويحدق بعيني بانفجاع.".
يتم التعامل في هذه الحالة بالذات مع الزمان والمكان على نحو مختلف في الفيلم مقارنة بالكتاب، ولكنهما ينقلان نفس المقصد والمعنى. وعلى الرغم من أن الفيلم قد لا يتبع أسلوب فيتزجيرالد، إلا أن باز لورمان يخلق عالمًا جديدًا بالكامل وتفسيرًا لحياة غاتسبي وشخصيته. ولهذا فإن الخيار السينمائي الفريد الذي قام به باز لورمان هو استخدام الموسيقى المعاصرة للموسيقى التصويرية. وهذه المفارقة التاريخية هي ما يميز الفيلم عن الكتاب، لكنها تعطي أيضًا بُعدًا أصليًا للفيلم.
2 المؤلف على الشاشة
النجم الساطع Bright Star (٢٠٠٩) لجين كامبيون: جون كيتس الرومانسي
يُعد المؤلفون موضوعا متكررا في الأفلام. وفي الواقع، حين تتعامل السينما مع الأدب، تستطيع غالبا توضيح نمط حياة الكاتب أو ما كان عليه في الماضي. بعض المؤلفين في الأفلام هم شخصيات خيالية غير حقيقية، مثل الإخوة كُوِن في فيلم بارتون فينك Barton Fink (١٩٩١)، وهناك أيضاً كتاب حقيقيون ، مثل فيرجينيا وولف في فيلم الساعات The Hours (٢٠٠٣) لستيفن دالدري.
لنأخذ مثال النجم الساطع لجين كامبيون الذي يكشف عن الحب المستحيل للشاعر جون كيتس مع فاني براون في القرن التاسع عشر الإنجليزي. رغم أنه ليس فلما مقتبسا ، إلا أن الفيلم يركز على السنوات الثلاث الأخيرة لكيتس قبل وفاته، إذ يلتقي كيتس بفاني براون، ويقعان في الحب لكنهما يواجهان اختلافات اجتماعية وصعوبات في الارتباط. وعندما تسوء حالة كيتس الصحية يقوم أصدقاؤه بإرساله إلى ساحل البحر البريطاني ثم إلى إيطاليا من أجل العلاج. وعلى الرغم من المسافة، يواصل الثنائي الكتابة لبعضهما البعض والاعتراف بحبهما.
يجلس كلا البطلين بجوار نافذة, ونسمع صوت كيتس يهمس أثناء عرض رسالته إلى فاني. وحتى لو كانا بعيدين عن بعضهما البعض جسديًا، فإنهما يُجمعان معًا من خلال الشعر وتسلسل المشاهد، ثم يظهر التلاشي المتراكب فوق الكلمات المكتوبة على الورق، وكيتس وهو يفكر في البحر. يمكن للمرء أن يفكر في رومانسية الرسم، وأيضًا في الشعر: مواضيع الحب والمعاناة والمسافة والتأمل والطبيعة مختلطة على الشاشة. أخيرًا، امتدت يد فاني ببطء ورشاقة فوق حقل زهرة بنفسجية، مجسدًا فكرة كيت عن العيش كفراشة.
الحنان في شعر كيتس يتجسد من خلال التصوير السينمائي الرائع الذي حصل على جائزة "أفضل تصوير سينمائي" في جائزة الفيلم البريطاني المستقل في عام ٢٠٠٩. وفي الواقع، يمكن أن تكون الأفلام بمثابة تكريم للأدب وأبطاله.
3. الواقعية الشعرية: نوع جديد
ميناء الظل Port of Shadow (١٩٣٨) للمخرج مارسيل كارنيه.
ولد في الثلاثينيات والأربعينيات نوع سينمائي جديد في فرنسا: الواقعية الشعرية. وكما يشير الاسم، فإن السمة الرئيسية لهذا النوع الجديد هي ربط أسلوب الحوار الشعري برؤى الواقع الاجتماعي ومواقفه. بعبارة أخرى، يمجد مخرجو أفلام الواقعية الشعرية الطبقة العاملة والشخصيات المناضلة من خلال جعلهم يتحدثون بشعرية غنائية. وفي واقع الأمر، كان الشاعر الفرنسي جاك بريفيرت هو كاتب الحوار المفضل في هذا النوع. تؤدي الحوارات دورًا مهمًا في هذا النوع، كما يوضّح المقطع التالي. يصل جان -الهارب من الحرب العالمية الأولى- إلى لوهافر، ويخطط للهروب من البلاد، لكن خطته تتغير عندما يلتقي بفتاة صغيرة تدعى نيللي، مثقلة بأعباء الماضي ولها عيون زرقاء بنظرات عميقة. يصل إلى لو هافر، ويذهب لتناول القهوة، ويلتقي مع أشخاص عشوائيين. أعدت المشاهد في مساحة عامة، واستخدمت الإضاءة المستوحاة من الأسلوب السينمائي التعبيري.تبدو الحوارات في الفلم بسيطة، لكنها مؤثرة، خاصة عندما يشرح أبطال الفيلم رؤيتهم للحياة أو الحب. تجمع الواقعية الشعرية بين أفراد الطبقة الدنيا المثقلة بالحياة ممن يواجهون ويتشاركون أجزاء شعرية من المحادثة.
رابط آخر بين السينما والأدب هو تلك القدرة على خلق نوع جديد على الشاشة يستخدم أدوات أدبية مثل الشعر. وفي هذا الصدد، فإن أطفال الجنة Children of Paradise (١٩٤٥) لمارسيل كارني هو مرة أخرى مثال رائع آخر للواقعية الشعرية.
4. حياة شعرية على الشاشة
باترسون Paterson (٢٠١٦) للمخرج جيم جارموش
عندما تلتقي السينما بالأدب، فإنها تمثل أيضًا على الشاشة ما يعنيه الأدب للناس، وما يعنيه بالنسبة إليهم بشكل يومي. هذا ما يتعامل معه جيم جارموش في فيلمه الأخير باترسون (٢٠١٦) إذ إن شخصيته الرئيسة باترسون (آدم درايفر) شاعر يعيش في باترسون، نيو جيرسي، ويستلهم من الشاعر الشهير ويليام كارلوس ويليامز. يتتبع الفيلم ببساطة رتابة أسبوعه الذي يتشاركه مع صديقته التي تؤدي دورها (كلشيفته فراهاني)، رسامة ومغنية وصانعة كعك ملهمة. .
يكشف الفيلم عن حبكة غير موجودة، إذ يصبح العادي مصدرًا للإبداع. وفي المقطع يؤدي باترسون مهامه اليومية: يقود حافلة بينما يتخيل القصائد. وباستخدام تقنية التلاشي، يضع جارموش أشعار باترسون جنبًا إلى جنب مع تخيلات رحلته. كل التفاصيل مهمة، مثل التوائم الذين يرتدون نفس الملابس خلال عبور الطريق، أو الشلالات التي يعجب بها كل يوم قبل العمل وبعده. باترسون ليس فقط سائق حافلة، إنه شاعر ينظر إلى الحياة، ويتأمل تفاصيلها، ويحولها إلى قصائد غنائية. إنه يصنع الفن من الأشياء الصغيرة في الحياة اليومية. يمثل فيلم باترسون دعوة إلى النظر إلى العالم على نحول مختلف، بعيون شاعرية تملك قدرة إيجاد التفاصيل الصغيرة، لتبقى مرسومة في أعيننا ولا تصبح عرضة للإهمال والنسيان.
الخاتمة
في حين تحتاج الكتب إلى جمل، فإن على الأفلام إعداد صور ملموسة عبر الشاشة؛ لتجعلنا نشعر بالسينما ونحس بها. تحتاج السينما أن "تعرض" أكثر مما تفعل الكتب، على الرغم من أنهما يرويان القصة نفسها. ومع ذلك، فإن العلاقة بين هذين الشكلين الفنيين لا حدود لها؛ إذ يتعاملان مباشرة مع الصور وعالم الاحتمالات. وليس التكييف هو الطريقة الوحيدة للربط بين الكتب والأفلام، بل -كما وضحنا- يمكن أن تشكل الأفلام دعمًا أو تكريمًا للأدب من خلال الأدوات الأسلوبية والسينمائية المتنوعة.
يا لها من مناسبة جيدة لقراءة/مشاهدة الكلاسيكيات مرة أخرى!
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Commenti