د. محمد فايع عسيري*
مراجعة في كتاب: الآخر بين الشاشة والرواية
العلاقة بين الأدب -خاصة الرواية- والسينما علاقة وطيدة حدت بكثير من الإنتاج السينمائي إلى الاتكاء على المنجز الروائي في صناعة كثير من الأفلام والمسلسلات، ومنذ مطلع القرن العشرين برزت هذه العلاقة إلى العيان، وأسهمت في إثارة مجموعة من القضايا المتعلقة بفلسفة تلقي الفنون التعبيرية بين المقروء والمشاهد، وانقسمت آراء النقاد والمتابعين بين مؤيد لهذا التبني ومعارض له، وبينهما فريق ثالث ناء بنفسه ليحلل ويقارن كيفية تشكّل وعرض القضايا بين المقروء (الرواية) والمشاهد (السينما) محاولًا استكناه المستقر والمتغير عندما تحوّل التعبير من المكتوب إلى المشاهد. ومن القضايا المهمة التي حاولت معالجة عرض الموضوعات بين الرواية والسينما هي قضية تشكّل صورة "الآخر". وأطروحة "الآخر أولًا" في الفكر المعاصر هي أطروحة تثير الثنائيات التي قامت عليها فكرة الدراسات المقارنة خاصةً بعد تحديد الذات والآخر في سياق معين؛ فمثلا سياق الثنائية الجندريّة؟ (امرأة ورجل)، أو ثنائية جهويّة (الشرق والغرب)، أو ثنائية عرقية (أبيض أسود) وهكذا. غير أنه من الاختزال المخل اعتقاد أن هذه الأمثلة هي كل ما تمثله مفهوم الآخريّة؛ فثنائية الذات والآخر في الوقت المعاصر صارت تطلق على مجموعة من الكيانات المعقدة والمتشابكة، مثل الهويات الاجتماعية، والقوميات، والوطنيات، والانتماءات.
وكتاب الآخر بين الشاشة والرواية هو محاولة الفريق الثالث لفهم كيفية تشكل شخصية الآخر (غير العربي) وحضورها بين الرواية والسينما العربية. ينقسم الكتاب إلى أحد عشر فصلًا بالإضافة إلى المقدمة، ويمكن تصنيفها إلى أربعة محاور؛ حاول الفصلان الأول والثاني معالجة ثنائية الشرق والغرب أو الأنا والآخر، بينما تركّز الحديث في الفصلين الثالث والرابع على حضور الأجنبي في السينما العربية عمومًا، مع تركيز على مناقشة فكرة عقدة الخواجة (عمر، ٢٠٠٨: ٧٠٥) وتمثلاتها في أطوارها الأربعة. أما الفصول من الخامس إلى التاسع فقد ذهبت إلى استعراض تفصيلي لحضور بعض صور الآخر: اليهودي، الأمريكي، اليوناني، بل وحتى النوبي! بينما تمحض الفصلان العاشر والحادي عشر للحديث عن دور الأجنبي/ الآخر في السينما المصرية خاصة، وكذلك عن ولع أهل صناعة السينما بالارتباط بالآخر الأجنبي في واقعهم المعيشي بغض النظر عن تصويرهم في الرواية أو السينما.
إن الخط العام لحضور الأجنبي في السينما المصرية بدأ معتدًّا بحضور الأجنبي بوصفه جزءًا من كيان المجتمع المصري، بينما قامت الرواية على تشكيل صورة الآخر في بيئته في بادئ الأمر على أيد الكتاب الذين ابتعثوا إلى أوربا لينقلوا صورة إيجابية عن الغرب وخاصة المرأة الغربية، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم. أما بعد حرب أكتوبر 1973م فقد تحركت هذه الصور لترسم شخصية سلبية عن الآخر (الجاسوس مثلا)، واستعرت حدة هذه الصور السلبية أكثر بعد التشويه الذي ناله العرب في السينما الأمريكية وبعد أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١م كذلك.
استعرض الكاتب في الفصلين: الأول والثاني الرؤى الأربعة التي قدمها الناقد المغربي جميل حمداوي حول نظرة الرواية العربية للآخر، وهي: الانبهارية، والحضارية، والسياسية الحقوقية ثم العدوانية. وقام المؤلف بعدها بتصنيف معظم الروايات التي صدرت في تلك الفترة تحت هذه الرؤى الأربعة، وأشار إلى أن ما يمايز حضور الآخر في الرواية عنه في السينما هو أن الذات في الرواية ترحل إلى الآخر بعكس الآخر في السينما فهو الذي غالبا ما يكون ضيفًا لا مستضيفًا. إن هذا الاختلاف في طبيعة المكان أسس لنظرة عدوانية تجاه الآخر؛ لأن الآخر لن يترك بلده المتطور إلا لمصالح وطنية متنوعة. ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الكاتب أشار أيضًا إلى أهمية السياق التاريخي في رسم صورة الآخر بين الرواية والسينما إلا أن العوامل التي تتدخل في رسم صورة الآخر معقّدة في الإنتاج السينمائي أكثر منها في الرواية؛ فالرواية تقوم على مؤلف واحد بينما الفيلم السينمائي تتعاون في إنتاجه مجموعة كبيرة من الأجهزة ذات العلاقة، ولكل واحد منها توجهاته وأهدافه؛ لذا قد يحصل نوع من التغيير عند تبني أحد الأعمال الروائية سينمائيا.
وفي الفصلين الثالث والرابع يستحضر الكاتب طرح الدكتور رشيد العناني في كتابه المنشور باللغة الإنجليزية حول تمثيلات العرب للغرب ومواجهاتهما في الرواية العربية: Arab Representations of the Occident: East-West Encounters in Arabic Fiction حيث يرسم لنا أطوار تشكل عقدة الخواجة (الأوربي، الأمريكي) في الرواية العربية التي بدورها انعكست على حضوره في السينما؛ فالاحتكاك بالآخر/الخواجة في بادئ الأمر كان مشوبًا بتوجس أن يكون الآخر جاسوسًا أو مخبرًا حتى وإن لبس قناع السائح والباحث والتاجر. وهذا التوجس يقل تدريجيًّا مع مرور الزمن وكثرة التواصل مع الآخر ليصبح خطابًا يمدح الآخر ويدعو إلى تقليده والإفادة منه كما وجدناه في أطروحات الطهطاوي والشدياق وطه حسين، ثم يظهر الخطاب الذي يؤكد على ثنائيات التمايز بين الغرب عن الشرق، مثل المادة والروح، والعلم والإيمان كما ظهر جليًا في رواية "قنديل أم هاشم". وأما بعد عام النكسة ١٩٦٧م فقد صعدت موجة تمجيد الغرب/الآخر على حساب خطاب الاعتزاز بالذات/ الأنا خاصةً عند التركيز على موضوعات معينة، مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير. ولعل من طريف ما يذكر هنا أن الأطوار الأولى تزامنت مع احتضان الأجنبي/ الآخر للسينما في مصر مما كان له تأثير كبير على ظهور الآخر في السينما وكأنه جزء من النسيج الاجتماعي لمصر.
أما الفصول من الخامس إلى التاسع فقد خصصت لعرض مجموعات من صور الآخرية، فصورة اليهودي ظهرت في أجواء خوف وغربة وتوجس من المجتمع المصري، وكان العربي يصوَّر على أنه مجنون ومتهور وزير نساء بالإضافة إلى بطش المصري (الفرعوني) باليهودي (بني إسرائيل). وقد تزول الغرابة بعض الشيء إذا علمنا أن بعضًا من هذه الأفلام كانت تصنع من قبل بعض الشخصيات اليهودية التي غفلت عن أن اليهود هم جزء من مكونات المجتمع المصري؛ فبعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين حاولت السينما والرواية تقديم صورة عدائية عن الصهيوني، وفي مرات أخرى متسامحة مع اليهودي. وكثير من الاستنتاجات ذكرها المؤلف استنادًا على بعض نتائج كتاب اليهود والسينما في مصر والعالم العربي؛ لكاتبه أحمد رأفت بهجت. أما الآخر الأمريكي فحضر في الرواية والسينما بعد منتصف القرن العشرين رمزًا للخلاص وحلمًا للهروب؛ فالسينما المصرية سعت بفضل المخرج المصري الكبير يوسف شاهين إلى محاولة تجسير العلاقة بين العربي/ الذات والأمريكي/ الآخر تزامنًا مع هجرة كثير من العرب إلى أمريكا إلا أن الآخر الأمريكي في هذه المرحلة يحضر إلى العالم العربي بدلًا من الذهاب إليه كما كان الحال مع الآخر الأوروبي. وبعد موقف الحكومة الأمريكية من دولة إسرائيل تحوّل الخطاب السينمائي والروائي إلى خطاب مناهض ومعاد، يستخدم استراتيجيات "الكتابة ضد المركز" فيصوّر الأمريكي بالإرهابي كما صور الأمريكي العرب بالإرهاب، كالذي نجده في فيلم "الآخر". إن أمريكا -في الشاشة- في الآونة الأخيرة لم تعد أرض الحلم، وإنما أرض الكوابيس الممتلئة بالفجور والزور، بل إن أوروبا ظهرت قريبة في الطباع وفي الروح للعرب أكثر من أمريكا، وكل ذلك يمكن ربطه بالسياقات التاريخية التي ظهرت فيها هذه الأفلام والروايات. أما اليوناني والنوبي فلم يظهرا في الشاشة إلا مسالمين منغمسين في حياة الشعب المصري العادية ومحترفين بعض المهن التقليدية. هذا الحضور المسالم العادي لم يعكس عمق التاريخ الفكري الذي تحمله الثقافة اليونانية؛ لأنهم ببساطة لم يكونوا على عداء مع الدول العربية كما ذهب إلى ذلك عبد الغني داوود في دراسته صورة اليوناني في السينما المصرية، كما أنه لم يتعمق في تشكيل صورة النوبي الذي يشكل تراثًا مصريًا عميقًا.
مؤلف الكتاب هو محمد رفعت، صحفي، وروائي شغل منصب نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر، وهو عضو جمعية كتاب ونقاد السينما. ونظرًا لهذه الخلفية المعرفية، جاء الكتاب على طريقة الصحفيين في التخفف من الشروط العلمية في التحليل والاستشهاد، والإكثار من سرد المعلومات. وعلى الرغم من تساهل الكاتب في المنهج وإطلاقه مصطلحا السيرة والرواية إطلاقًا تبادليًا -ما يبدو مقبولًا وفقًا لطريقة الكتابة الصحفية-، إلا أنه لا يمكن تجاوز الأخطاء في تسمية أسماء بعض عناوين ما أورد من الروايات.
ومما تميز به الكاتب قدرته على تزويد القارئ بمادة وفيرة وكافية جدًا في مجال السينما، فنحن نجده لا يتوقف عند فيلم أو فيلمين من أجل الاستشهاد على صورة من صور الآخر؛ بل نجده ينطلق في سرد مجموعة كثيرة من العنوانات السينمائية مع تفصيل ممل لبعض المعلومات المتعلقة به، مثل المخرج والممثل وأسماء الشخصيات وسنة الإنتاج، هذا الأمر جعل الكتاب يركز تركيزًا أكبر على العرض التاريخي بدلًا عن العرض التحليلي، هذا مع ربطه تشكيل صورة الآخر وإنتاجه سينمائيًا بالسياقات التاريخية والسياسية الفكرية التي أنتجته.
ركز الكاتب كثيرًا على الإنتاج السينمائي ولم يعقد مقارنات متزامنة بين الأفلام التي صورت الآخر والروايات التي قامت بذات الدور، بل قام بفصلها في أماكن متفرقة من الكتاب، يستثنى من ذلك مقارنته لـقنديل أم هاشم ليحي حقي والأيام لطه حسين مع الأفلام التي أنتجت عنهما. فهو يذهب إلى أن دلالة العلامات الرمزية في رواية قنديل أم هاشم، مثل الرقم سبعة والتخصص في طب العيون ضعفت عندما انتقلت إلى الشاشة؛ لأن المشاهد قد لا ينتبه لها بعكس القارئ. إضافة إلى ذلك تركيزه على الإكثار من استشهادات الأفلام الحديثة وإغفاله التام لكثير من الإنتاج الروائي الذي كتب بعد فترة الستينات خاصة ما كتبته رضوى عاشور وصنع الله إبراهيم وعلاء الأسواني.
ومن الملاحظات اللغوية في الكتاب طول الجمل التي تجعل القارئ أحيانا يفقد تسلسل الأفكار، بل وحتى فقدان أفكار الكاتب وتلاشيها مع أفكار من يستشهد بهم.
وما قد ننتهي إليه في هذه المراجعة هو أن هذا الكتاب -الصادر عن دار المعارف عام ٢٠١٥م في مائة واثنين وخمسين صفحة من القطع المتوسط- يعدُّ محاولة جريئة لتجسير الهوة بين المقروء والمشاهد عبر موضوع جدلي كان وما يزال يشغل حيزًا كبيرًا من تفكير الإنسان المعاصر، خاصة مع تطور وسائل التقنية التي جعلت من حضور الآخر حضورًا جوهريًا وأساسيًا في تشكيل رؤيتنا عن ذواتنا وعن العالم من حولنا.
*مراجعة: د. محمد فايع عسيري. أستاذ الأدب المقارن المساعد بجامعة الملك عبد العزيز، جدة، المملكة العربية السعودية. أكاديمي سعودي مهتم بدراسة صورة الآخر/ الشعوب في الأعمال الأدبية
صدر له باللغة الإنجليزية كتاب صور أمريكا والأمريكيين في أعمال غازي القصيبي ٢٠٢٠م.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
コメント