top of page
  • سياق

المقال - شعريّة الأشياء:من الذات العارفة إلى الذات العازفة

أ.د. سعود بن حامد الصاعدي*


"والغافل مَنْ ظنَّ الأشياء هي الأشياء"

–– محمد الفيتوري


ظلّ التصوُّفُ يتعاهد السلوك منذ نشأته على أيدي النسّاك الأوائل، حيث المقولات التي تنحو منحى الزهد، فكان أصحاب السلوك يطلقون العبارات التي هي أشبه بالتوقيعات، لكنها لم تكن توقيعات بيانية اجتلبت من أجل البلاغة؛ وإنما سيقت من أجل أن يتمثّلها السالك في الطريق، ومن أبرز هذه العبارات عبارة الحسن البصري التي يقول فيها واصفًا الموت: "ما رأيت يقينًا لا شكّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت" (الجرجاني، دلائل الإعجاز: ٦٠٤)، وغير هذه المقولات كثيرٌ مما تترك الأثر الممتد في سلوك الأفراد الذين يتلقّون مثل هذه الشذرات الوعظية والسلوكية، وربما انخرطوا في هذا السياق من القول فأنتجوا الشذرة تلو الشذرة، والعبارة تلو العبارة.

وقد ظل البيان الصوفي على هذا النحو يتمثّل أقواله أفعالا وسلوكًا إلى أن تفلسف، فصار خطابًا نظريًّا تأويليًّا، فنحا به التأويل إلى بناء عالم من الرموز والمقولات ذات المستوى الفلسفيّ، إلى أن بلغ التأويل ذروته على يدي ابن عربي الذي اكتمل تحت نظره خطاب العرفان، بعد تراكم معرفيّ وعرفانيّ أفضى إلى جدل واسع حول هذا الخطاب الذي تحوَّل إلى نظام معرفي متكامل له أفقه الخاص ومنظومته التأويلية المختلفة عن منظومة البيان العربي في التأويل وفقًا للشروط البيانية التي قرّرتها مدرسة البيان، سواء في جانبها الأصوليّ كما عند الشافعيّ، أو في جانبها الكلامي كما عند الجاحظ، وهما مؤسسا نظريّة البيان، من طريق ثنائّية الفهم والإفهام (الجابري، تكوين العقل العربي: المقدمة، ما البيان؟).

ولمّا كان التصوّف معنيًّا بالسلوك من جهة، والتأويل من جهة أخرى، فقد انعكس ذلك على لغة خطابه التي صارت أقرب إلى لغة الشعر منها إلى أية فن آخر من فنون القول، كفنون النثر من خطب ورسائل وأمثال سائرة، لكنها من وجه آخر تقترب كثيرا من التوقيعات الأدبية التي كانت تذيَّل بها الرسائل الديوانية في طلب الحاجات من السلطان أو ولاته على الأمصار.

ومن هذا التزاوج بين الشعر بكثافته المجازية والتوقيعات بطبيعتها الحياتية وايجازها يمكن لنا أن نقف على سمت البيان الصوفي في شذراته ومقولاته؛ ذلك أنّ أوّل ما نلحظه على هذا البيان هو محاولة شعرنة الواقع بالسلوك، والاقتراب من شعريّة الأشياء باللغة الرامزة أو ذات الكثافة التعبيريّة، وهاتان السمتان في الخطاب الصوفي عمدة هذه الشعريّة التي نلحظها في لغة المتصوّفة بدءًا من النسّاك الأوائل إلى تأملات ابن عربي وكتابات النفّري في مواقفه ومخاطباته (النّفّري، المواقف والمخاطبات).

وعندما نؤكّد على الشعريّة في هذا السياق فليس بالضرورة أن يتعلّق الأمر بالشعر بمفهومه الاصطلاحي، وإنما المراد من ذلك أنّ التصوّف نظر إلى العالم نظرة جماليّة تنطلق من رؤية كليّة ترى في العالم مرآة ذات ظلال وأبعاد وامتداد يفضي إلى امتداد، وهذا ما نقل الخطاب الصوفي من مدار الشرع إلى مدار الشعر؛ كما جعل الخطاب الصوفيّ خطابًا شعريًّا لا شرعيًّا، فكان بذلك موردًا للأدباء أكثر مما هو موردٌ؟ للفقهاء، وصار أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشريعة، على أنّ ذلك لا يعني عدم الجدوى كما لا يعني الحطّ من قيمته البيانية والأخلاقيّة، فهو في هذا السياق موردٌ سخيٌّ ومنهلٌ عذبٌ وأفق جمالي يمكن الإفادة منه في تهذيب السلوك وصقل اللغة الجماليّة وإعادة النظر إلى قيمة الشّعر في بناء الذات الإنسانية تمهيدًا وتوطئة لإعادتها إلى أفق الجمال الرَّحب في فضاءات البيان القرآنيّ البليغ.

من هذا المنطلق، ووفقًا لهذا التصوّر الجمالي، في نقل الشعر من حيّز اللغة المجرّدة إلى حيّز السلوك، ومن فضاء العلامات إلى فضاء المعالم، تبرز أهميّة الشعريّة الصوفيّة في النظر إلى الأشياء نظرًا مختلفًا يحتفي بدلالاتها الكليّة، وإيماءاتها الشذريّة، كما ينصت إلى كلامها في الصمت وإلى صمتها في الكلام بحثًا عمّا وراء ثنائية الصمت والكلام من جدليّة شعريّة ألمح إليها عبد القاهر في قوله البديع عن الحذف: "فإنَّك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبن"(الجرجاني: ١٤٦).

وبالنظر إلى التجربة الصوفية، في مستواها النصّي قولا وكتابة، نلحظ أنّها احتفت بشعريّة الأشياء، كالذات والكائنات، وشعريّة السلوك في موضوعاتٍ كالحبّ والإنصات والحكاية (منصف، أبعادالتجربة الصوفية: الحب، الإنصات، الحكاية)، وفي هذه الموضوعات يكمن جوهر الشعر بوصفه تأمّلا في الوجود، على المستوى الوجودي، أو على المستوى الإبداعي.

وقبل الولوج في هذه الأبعاد التي صنعت الشعريّة الصوفية نلفت إلى أنّها لم تقتصر على التصوٌّف بوصفه رؤية للحياة أو سلوكًا فاعلا في التجربة اليومية، وإنما تجاوز ذلك إلى التأثير في الشعريّة العربية لاحقا حين تحوّل النصّ النثري إلى قصيدة نثر، وتحوّل المجاز في القصيدة الشعرية إلى مجاز كونيّ شمل أكثر تجارب الشعراء من خارج العرفان الصوفي، ما يشير إلى أنّ الخطاب الصوفي وجد قيمته فنيًّا في الفضاء الشعري، فصار بذلك خطابًا شعريًّا لا شرعيّا.

ومن هنا فسيكون تناول هذه المقاربة بين المسارين مزدوجًا بين الشعر والتصوّف للكشف عن هذا التعالق النصّي في سياق التجربة الإبداعية.

ففيما يخصّ الذات الإنسانية تحتفي التجربة الصوفية بالإنسان بوصفه ذاتًا عارفة، تتفاعل مع الوجود من خلال كائناته بوصفها علامات ورموزًا، وباعتبار الوجود فضاء يحتوي على هذه العلامات والرموز التي يعيشها الصوفي ويعايشها من خلال التمثّل، أي أنّه يعبر من خلالها، وهذه المرحلة مرحلة عبور لا تعبير، فهو لا يعبّر بها فحسب، وإنما يعبر داخلها طلبًا للمعرفة من خلال الكشف الذي لا يصل إلى منتهاه ولا يبلغ مداه.

وبذلك فالذات العارفة لدى الصوفيّ هي المدخل في التجربة الشعريَّة إلى الشاعر بوصفه متأملا لا منشدًا، فهو يتأمّل العالم بخيال شاعر تستحيل لديه الأشياء إلى كائنات شعريّة، فيصبح سلوكه قصيدة قبل القصيدة.

وفي هذا الصدد نقرأ كثيرًا من الشعراء الذين عدُّوا أنفسهم، أو تقنّعوا بالقناع الصوفي ممثلا في الذات العارفة، كما نجد ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، عند شعراء معاصرين مثل أحمد بخيت وجاسم الصحيح ومحمد يعقوب ومحمد عبد الباري، وغيرهم ممّن وجدوا في التعبير الصوفي إمكانًا للعبور إلى الذات العارفة، وبتعبير أقرب إلى الشعر الذات العازفة.

ومن الذات العارفة، أو العازفة، تصوّفًا وشعرّيَّة، ننفذ إلى الخيال الذي يتقاطع فيه التصوّف مع الشعر، وإن اختلفت الغاية، حيث يسلك الصوفي طريق الخيال الوجودي، من منظور ابن عربي، بحثًا عن أحوال وكشف يتجاوز به الواقع إلى مقامات يترقّى بها، منطلقًا قبل ذلك من الخيال السيكولوجي، أو ما يسمّيه ابن عربي الخيال المتّصل في مقابل الخيال المنفصل، "وقد سُمِّي الخيال الوجودي منفصلا، لأنّه لا يرتبط بالإنسان، وإنما يتجاوزه إلى كلّ العالم بمراتبه وكائناته الروحية والماديّة على السواء" (منصف: ٢٦).

وبصرف النظر عن الرؤية الصوفية التي لها نظامها المعرفيّ، كما سلف في مطلع المقالة، فإن هذا التصوُّر صالحٌ لأن يكون مدخًلا إلى شعريَّة السلوك، أو شعريَّة الأشياء، حيث تتحوَّل الذات العارفة من سياقها الصوفي إلى السياق الشعريّ، أي إلى ذات عازفة، كما تتحوَّل أشياء العالم إلى رسوم وعلامات يتلقّى من خلالها الشاعر العالم، كما يتلقّى الصوفيُ عالمَ الأشياء باعتبارها "كتابة كونيَّة كبرى ينبغي اكتشاف أسرارها" (منصف: ٢٧).

وهنا تبدأ لحظة اللغة، في مستواها الإبداعي، حين يتجاوز الشاعر اللغة باعتبارها حالة تعبير، لتصبح في نظره حالة عبور، عبور إلى أشياء العالم، إلى كائناته ومكنوناته، وهي الحالة التي يتّحد فيها الشاعر بلغته ليتجاوز الارتباط بالأشكال إلى الارتباط بجوهر الشعر، حين ينفذ إلى أسرار اللغة الشعريّة من خلال تجربته مع الكائنات في العالم الخارجيّ.

وحين يبلغ الشاعر هذه المنزلة مع لغته تتحوَّل الأشياء في طريقه إلى كائنات شعرية، وتأخذ لغته بعدًا وجوديًّا، بحيث تعبّر عن مواقفه ومخاطباته، بتعبير النفري، لا عن معانيه فحسب، فالمعاني في هذه المنزلة هامش على التجربة وليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود أن يصبح العالم في لغة الشاعر حالة وجد ووجود، وبذلك يصبح شكل اللغة هو مضمونها ، بل يبلغ الأمر أن تصل الكتابة الشعريّة إلى حالة من حالات العزلة التي تتحول فيها الذات العارفة إلى ذات عازفة، بمعنى العزوف لا العزف هذه المرَّة، حيث تترقّى من العزف الذي يلتزم في البدء بالأشكال والأوزان مراعاة للمتلقّي في الطرف الآخر، إلى العزوف بمعنى الانقطاع عن المتلقّي الآخر والانكفاء داخل التأمّل الذاتي من طريق اللغة: الإنصات إلى ما تقوله اللغة الشعريّة عن الأشياء التي تسكنها وتعبّر عنها بوصفٍ شديد التركيز، ومفارقات غاية في التضادّ، وفي هذه المنزلة يخلع الشعر الوزن ويسكن لغة الأشياء، أي أنّه يتجاوز حالة التعبير إلى حالة العبور من العلامات إلى المعالم.

وحسبنا أنّ نقف هنا مع بعض الشذرات التي تحمل سمات الشعريّة من داخل مقولات الزهّاد والنسّاك من أهل التصوُّف، لكنّها فيما نرى تتجاوز شعريّة اللغة إلى شعريّة السلوك، أو شعريّة الأشياء، وأولى هذه الشذرات، شذرة تمثّل هذه الحالة السلوكية في صيغة لغويّة أكثر لصوقًا بالشعر، ولنسمّها هنا "شذرة الذات"، وهي مخاطبة يوسف بن الحسين الرازي إلى الجنيد: "لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنّك إن ذقتها لا تذق بعدها خيرًا".

فالتعبير هنا تعبير شعريّ، بمنظور لغوي، لكنّ جوهره سلوكيّ لا تعنيه طريقة التعبير إلا من حيث هي حالة عبور إلى التحذير من الركون إلى الذات والاعتماد عليها والإعجاب بها، وتلبية رغباتها، ولكن كلّ ذلك طُوِيَ في عبارة عالية الكثافة: "لا أذاقك الله طعمَ نفسك".

ومثل ذلك تعبير الحسن البصري بشذرة الموت التي في صدر المقالة:" ما رأيت يقينًا لا شكّ فيه، أشبه بشكٍّ لا يقين فيه، من الموت"، فالتعبير هنا شعريٌّ يستند على فنّ بلاغي جمالي هو العكس والتبديل، ولكنه محاولة عبور إلى فهم الموت وإدراك مفارقته الوجوديّة، والموت هنا هو ما يصنع الحدث الشعريّ، بتعبير الناقد السعودي محمد العبّاس -في سياق مقاربته قصيدة النثر من جهة التعاطي مع الحدث اليومي- (العباس، شعريّة الحدث النثري: ٢٥)، أي أنّه ليس لغة في النصّ، وإنما حالة وجود ملغزة أنتجت هذا التعبير الشعريّ في شذرة الحسن البصريّ.

وأخيرًا ما نجده عند ابن عربي في رؤيته الكليّة للعالم رؤية أقرب إلى الشعريّة، حيث العبور داخل عالم من الخيال، والتعبير عنه بلغة المجاز الكوني، كما في وصفه للكون بالشجرة (ابن عربي، شجرة الكون)، ولعالم الوجود بالخيال (مفتاح، مشكاة المفاهيم: ٢٥)، وكما في شذراته في فصوص الحكم.

على هذا النحو وصل الشعر إلى أعتاب قصيدة النثر ليتجوهر من خلالها في لغة الأشياء متجاوزًا الوزن والإيقاع إلى وقع الكلمات في النفس والقلب بما يحدثه من كشف عن شعريَّة الكائنات واكتشاف للغة الأشياء.

بهذا التصوُّر يمكن اعتبار التجربة الصوفية جسر عبور إلى اكتشاف الشعريّة العربية بدءًا من تعميم المجاز و تحويله إلى مجاز كوني في أفق نصّ فسيح هو نصّ العالم، إلى شعريّة الأشياء، متمثّلة في اليومي والآنيّ، مع تجريد الشعر من الأشكال والأوزان ليكون تجربةً حياتية في صيغ لغوية يعبّر عنها قاسم حداد بقوله:"سيّد شكل الذي لا شكل له"(العباس، شعرية الحدث النثري: ١٦)، وهي اللحظة التي يصل فيها الشعر إلى حالة يعي فيها ذاتَه، فلا يعود في حاجةٍ إلى شكلٍ يستندُ عليه ولا إلى حدٍّ يحْبِسُهُ في إطار، وهذه هي طبيعة الشعريّة التي تنصت بسكونِ طائرٍ إلى ما تقوله الأشياء في عالم الوجود.


المراجع:

  • ابن عربي، محيي الدين، (١٩٨٥)، شجرة الكون، الإمارات، دار القلم للنشر والتوزيع.

  • الجابري، محمد، (٢٠٢١)، تكوين العقل العربي، ط١٥، لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية.

  • الجرجاني، عبد القاهر، (٢٠٠٤) دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود شاكر، ط٥، مصر، مكتبة الخفاجي.

  • العباس، محمد، (٢٠٠٧)، شعرية الحدث النثري، لبنان، مؤسسة الانتشار العربي.

  • النّفّري، محمد، (١٩٨٥)، المواقف والخطابات، مصر، الهيئة المصرية للكتاب.

  • مفتاح، محمد (٢٠٠٠)، مشكاة المفاهيم: النقد المعرفي والمثاقفة، المغرب، المركز الثقافي العربي.

  • منصف، عبد الحق، (٢٠٠٧)، أبعاد التجربة الصوفية: الحب، الإنصات، الحكاية، المغرب، أفريقيا الشرق.


*أستاذ البلاغة والنقد بجامعة أم القرى، له مجموعة من النتاجات العلمية والإبداعية، منها: تأويل النصّ (2008)، وصناعة البيان (2013)، والبلاغة الكونيّة: (2020)، وفي الشعر: ديوان "حلم له طعم البلاد" (2013)، و"ما قاله الماء لليابسة" (2019)، وفي السرد: رواية: "الساحلي"(2015)، وحصلت على جائزة أبها في عام 1438هـ، ورواية: "عين شمس" (2017)، و"ثالثة الأثافي"(2023)

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa







٢١٠ مشاهدات

Commentaires


bottom of page