د. محمد شفيق الإسلام
ترجمة: د. محمد البركاتي*
في مقابلة ثرية بالنقاشات النقدية والترجمة الأدبية أجراها الدكتور محمد شفيق الإسلام، الأستاذ في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة شاه جلال للعلوم والتكنولوجيا، بمدينة سيلهيت ببنغلاديش، مع البروفسور محمد عبدالقيوم، الأكاديمي البنغلاديشي والمترجم للعديد من الأعمال الأدبية البارزة إلى اللغة الإنجليزية, بدأ الحوار كالتالي:
أود أن أبدأ بالسؤال -كيف بدأ اهتمامك بالترجمة؟ أخبرنا باختصار عن مصدر إلهامك لبدء هذه الرحلة في عالم الترجمة؟
كانت الترجمة بسبب احتياج شخصي فكما تعلم، ولدت ابنتي في أستراليا ونشأت في معزل عن ثقافتنا الأم وكانت معي في كل سفرات عملي في أستراليا وماليزيا وسنغافورة والولايات المتحدة. هذا ساعدها على تطوير حس التعددية الثقافية لديها ولكن لكل شيء ثمن بالطبع، فقد فقدت الاتصال بلغتنا وثقافتنا مع الأسف. هذا كان السبب الرئيس الذي جعلني أقبل على الترجمة، حيث أردت أن أترجم لأفضل كتابنا، أولئك الكتاب الذين نشأت معهم في طفولتي، حتى تتمكن صغيرتي من القراءة والتعرف على نفسها من خلال العالم البنغالي ومن خلال الخيال. لذلك، في أصل الأمر، أنا أترجم لها ولجيل البنغاليين في الغربة. السبب الآخر هو أنني أردت نشر كلاسيكياتنا البنغالية للقارئ العالمي، فنحن لدينا العديد من الكتاب الكبار لا يعرف منهم خارج مدار الثقافة البنغالية إلا القليل مثل رابيندراناث تاقوري، . من هنا اشتعلت شرارة الدافعية والرغبة في إخراج هؤلاء الكتاب من مساحة المحلية الصغيرة لعالم أوسع وأكبر.
أنت باحث ومحرر ومترجم وأستاذ للأدب الإنجليزي، تقوم بالكثير من الأعمال في وقت واحد، ولديك عدد كبير من المنشورات العلمية البارزة، كيف يمكنك التنقل بين مجال إلى مجال آخر في وقت واحد؟ هل تواجه أي تحديات عندما تنتقل من نوع من المهام إلى آخر؟ وما خطة عملك اليومية؟
قد يكون مبهجًا أن أقوم بمهام متعددة في وقت واحد، لكن في الواقع، أنا لست كذلك أبدًا ولا أستطيع القيام إلا بمهمة واحدة في كل مرة. تعدد المهام في نظري أمر يخص الآلات كأجهزة الكمبيوتر وتقنياتها. في نظري أننا عندما نقوم بأداء عدد من المهام في وقت واحد فإن الدماغ يفشل في التركيز، ونستغرق وقتا أطول لإنهائها ونرتكب أخطاء أكثر. لذا فإنني عندما أقوم بالتدريس، أحب أن أعطي كل ما لدي للتدريس، فأستثمر طاقتي كاملة في التواصل مع الطلاب. ولكن، عندما أكون خارج الفصل الدراسي مركزًا على إنجاز مشروع بحث أو ترجمة، فإنني أحب أن أنغمس فيه مهما طال الوقت للانتهاء منه. عقلي لديه قدرة محدودة، وهو ما يسميه علماء النفس "سعة الذاكرة العاملة"، لذلك إذا حاولت حشر الكثير من الأشياء في هذه الذاكرة في وقت واحد، فإن بعضها يبدأ في السقوط أو التلاشي. ربما الاستثناء الوحيد هو عندما أعمل على مهمة تعاونية ككتابة فصل في كتاب مشترك.
أما بالنسبة لروتيني اليومي، فإني أركز بشكل أفضل في الليل عندما يكون لدي مزيد من الوقت لأختلي بنفسي فأيام الأسبوع مليئة بالأمور التي تتجاذينا يمنة ويسرة من مهام تدريس واجتماعات واستشارات طلابية، وكتابة تقارير، ومن الصعب الدخول في وضع الكتابة في وجود هذه المشتتات لذلك أقوم بمهام الكتابة الإدارية من تقارير وغيرها في النهار وأجعل الليل للترجمة وكتابة البحوث.
أين تجد الترجمة الأدبية مقارنة بالكتابة الإبداعية والكتابة الأكاديمية؟
أعتقد أن ثمة علاقة تبادلية مشتركة تجمعها فهي جميعًا تنتمي إلى العائلة ذاتها وتخدم القضية نفسها. أي تفكير في أنها متباينة ومن المغالطة أن نظن أنها متباينة. صحيح هناك درجة من التنافس بينها، كالأشقاء الذي يعتقد كل منهم أنه متفوق على الآخر، لكن في نهاية الأمر، يعتمد كل منهم على الآخر ويساعد بعضهم بعضًا للنجاح. يمكن للكتّاب أن يكونوا حساسين ويحبوا أن يربت عليهم النقاد ولكنهم سرعان ما تتلاشى هذه اللطافة عندما يتلقون مراجعات لاذعة لمؤلفاتهم. شاول بيلو، مثلا، وصف النقاد ذات مرة على أنهم "ستالينيون" قاصدًا بذلك لويس ميناند ووصفهم جون أوزبورن بأنهم كلاب يأكل بعضهم الآخر. ومع ذلك، يعتمد الكتاب على النقاد بقدر ما يعتمد النقاد على الكتاب، وكان صموئيل جونسون على حق عندما قال: "أفضل أن يوجه إليّ الانتقاد بدلا من أن لا يلتفت إلى عملي أحد، لأن أسوأ شيء يمكن أن يمارس ضد المؤلف هو أن نلتزم الصمت عن أعماله" (سومرز). وبالمثل، يعتمد المترجمون على ردود الفعل الإيجابية من النقاد وتقييمهم التفسيري بمجرد وصول العمل إلى السوق. يمكنك أن تقول إنها مثل بتلات زهرة الأوركيد الثلاث، ولن تكتمل الزهرة بدونها جميعًا.
عندما تقرر ترجمة كتاب، هل تقرأ النص بأكمله أولا؟ وهل تقرأ كتابات النقاد عنه؟
نعم، أقرأ النص بأكمله، غالبا أكثر من مرة، قبل وضع القلم على الورق، وعندما أقرأ فأنا لا أقرأ لجمع الحقائق الأساسية وحسب ولكن لكي أحيط بالمعاني المستنبطة الضمنية في النص. عندما أترجم نصا أدبيا، أحاول أن أسكن هذا النص فأستحوذ عليه طيلة الوقت الذي أعمل فيه لكنني لا أقرأ للنقاد لأن تجربتي مع النقد لم تكن إيجابية مع الأسف. ففي عصر تصنيفات الجامعات الذي نعيشه، يتعين على كل أكاديمي كتابة عدد معين من المقالات ليحقق مؤشر الأداء السنوي الخاص به مما جعل الكثير من الإنتاج النقدي متواضعا، ويكتب من أجل متطلبات الوظيفة فقط. مثل هذا النشر القسري ليس لديه الكثير ليقدمه لتقييم النص. ومع ذلك، قد يكون هناك نقد جيد يستحق القراءة، لكن بشكل عام، لا أشعر أنني مضطر لقراءة النقد أثناء ترجمة النص، سواء كانت قصة قصيرة أو قصيدة أو كانت مقالا أو رواية.
هل إستراتيجياتك أو تقنياتك في ترجمة القطع الأدبية موحّدة دائمًا، أم تتحول من إستراتيجية أو أسلوب إلى آخر بحسب اختيارك للنصوص؟
إستراتيجيتي الدائمة في الترجمة هي أن أبقى "مخلصًا" للمؤلف والنص. لكنها تصبح إستراتيجية مرنة عندما يتطلب النص ترجمة دينامية أو اصطلاحية عند الضرورة، فالترجمة ليست عملًا لغويّا محضًا بل هي عمل تتداخل فيه الثقافات المتعددة، إذ إن المترجم لا ينقل النص فقط من اللغة الأولى إلى الثانية ولكنه ينقله من ثقافة إلى أخرى. لذلك، في بعض الأحيان يجب أن يراعي المترجم التعابير الاصطلاحية عند ترجمة كلمات وعبارات وتعابير معينة، ويعتمد تقنيات أخرى مثل التحويل والإضافة والتعويض أو الحذف وتقليل الكلمات لجعل الأمور مفهومة لقراء اللغة المستهدفة. وفي خضم هذا كله، يجب ألا يحاول المترجم المساومة على النية الحقيقية للمؤلف أو غرض النص. المترجمون في نظري بناة الجسور بين الشعوب والثقافات، وهذا يتطلب درجة معينة من المرونة من جانب المترجم، والترجمة ليست عملية إعادة خلق للنص يحتاج المترجم فيها لترميم النص أو تجديده -أو ما يسميه درايدن "المحاكاة". إذن، باختلاف المؤلفين واختلاف النصوص، يتعين على المترجم تعديل تقنياته (Techniques) -التي أعدّها مختلفة عن طريقة الترجمة Method- وفقًا لما يتطلب النص فالالتزام باستخدام التقنيات نفسها لكل نص يكبّل الـمترجم كثيرًا.
هل تتفق مع من يقول إن المترجم هو أيضًا كاتب إبداعي؟ هل يمكنك التعليق بخصوص قضية التفوق والدونية للأصل والترجمة؟
جميع الكتاب مترجمون، والمترجمون كتاب أيضًا. ألم يقل جورج شتاينر ذات مرة، "كل أعمال التواصل هي أعمال ترجمة". وتؤكد هذا مارسيل بروست بقولها: "واجب ومهمة الكاتب هي ذاتها واجبات ومهمة المترجم". فالكتّاب والمترجمون يقيدهم الطوق نفسه، وهو طوق فعل الكتابة؛ فكلاهما يتعامل مع الكلمات، كلمات تسكن في سياقات الجمال، وكلا الكاتب والمترجم تمرّ عليه درجة من العفوية والعاطفة في العملية الكتابية؛ وكلاهما مبدع في ما يخصه؛ وكلاهما يحتاج قدرة وطاقة فريدة لتحويل الأفكار إلى تعابير، وخلق عالم بنسيج الكلمات. يمكنك القول بأن الكاتب والمترجم كوجهي العملة الواحدة. ويمكن النظر إلى الكتابة الإبداعية على أنها ترجمة لتجربة حياة الكاتب وشاعريته وخياله ومشاعره وملاحظاته وتصوراته وذكرياته وآرائه وصوته، تترجم لمنتج فريد هو النص. تقول مابل لي: "الكتابة ترجمة للوقائع الكامنة في النفس إلى لغة يمكن مشاركتها مع الناس". لذا، فإن هدف الكاتب هو مشاركة واقعه الداخلي مع الآخرين من خلال الكتابة، فإن المترجم يساعده فقط على العملية من خلال إعادة تغليف المنتج إلى منتج بلغة أخرى وهو أمر يود الكاتب لو أنه يستطيع القيام به لولا قيود اللغة. لذلك، فإن المترجم ييسر تداول منتج الكاتب في إطار عالمي أوسع، مما يجعله في متناول القراء خارج المجموعة اللغوية والثقافية للكاتب، وهذا يجعل العلاقة بينهم متداخلة، وتكافلية متبادلة، وأفقية وليست عمودية.
ما الذي يجعل الكتاب جديرًا بالترجمة؟
أي عمل يستحق العناء والحفظ وإعادة القراءة، وكلما تداولنا الترجمة رفعنا قدرها أكثر. لكن لكي يصبح أهلًا للترجمة، يجب أن يحرك العمل عاطفتنا ويخاطب عقولنا وأرواحنا، فيكون عملًا مكتوبًا بشكل جميل، فيه فكرة مقنعة وشخصيات لا تنسى إذا كان روائيا. أي، يجب أن تكون لدى العمل القدرة على جذب خيال من يقرؤه بلغة أخرى. إلى جانب ذلك، يجب أن يكون قابلًا للترجمة فبعض الأعمال تكتب بلهجة معينة وقد تكون جديرة بالترجمة، لكنها غير قابلة للترجمة.
ترجمة مختارة للدكتور محمد البركاتي من الحوار المنشور بالإنجليزية في دورية الأدب المقارن: شرق وغرب
*أستاذ مشارك في اللغويات المقارنة والترجمة بجامعة الملك عبدالعزيز، عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الترجمة بالمملكة. له عدد من المشاركات العلمية والبحوث المنشورة في علم دراسات الترجمة بشكل عام وفي نقد الترجمات بشكل خاص. قدم العديد من المحاضرات والمشاركات العلمية والدورات في مجال الترجمة.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
댓글