top of page
سياق

سلالم | سردية الموسيقى

فاتن ماجد البليهشي

باحثة دكتوراه في الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز



إن الجدال حول أساس الموسيقى، الذي يتلخَّص في تبنِّي فريق من علماء الأعصاب الإدراكية والطبِّ النفسيِّ أن ثَمَّةَ أساسًا موسيقيًّا في الدماغ يولَد به الإنسان، بينما رأى فريق غير ذلك، ودحَض متبنِّي الفكرة حُجَج المخالفين بعدد من الأدلَّة والبراهين لا يَسَع المقال تفصيلها، وتتلخَّص في استنادهم إلى الطبِّ الحديث بتكنولوجيته المتطوِّرة في كشف صورة الدماغ الحيِّ، وارتباط الموسيقى بكلِّ خلية عصبية به، فهم يستندون على مبدأ أن الدماغ خُلق مجهَّزًا لاستقبال الموسيقى وإنتاجها، كما خُلق مجهَّزًا لاستقبال اللغة وإنتاجها؛ لكن هذا التجهيز خامل في الخلايا العصبية، وما أن يُصيب خللًا في موطن اللغة في الدماغ، يبدأ المرضى في تطوير الأساس الموسيقيِّ في الدماغ، وتتحسَّن قدرتهم على التواصل الموسيقيِّ؛ بل حتى إنتاج الموسيقى في بعض الأحيان بنوتاتها المعقَّدة، كما سجَّل الدعم السريري للفرضيات حالاتٍ يَحدُث فيها ظهور لموهبة موسيقية عقب سكتات دماغية، أو أشكال تَلَف أخرى في المخِّ، هذا الإنتاج ما هو إلا استدعاء من الدماغ، وآخَرون قد يُصابون بالعمى الموسيقيِّ إثْرَ إصابات حادَّة في القِشرة الجَبْهية، فتبدو لهم الموسيقى كضجيج قَعْقَعة القدور والْمَقالي، ليس بمقدور الدماغ فكُّ شفَراتها، وفَهْمها؛ مما أنتج عددًا من النظريات حول التكيُّف التطوُّريِّ للموسيقى، والتطوُّر الجينيِّ لها، ونظرية الانتقاء الطبيعيِّ، التي افترضت جميعها أن الاستخدام الموسيقيَّ للموسيقى قبل خمسين ألفَ سنة، مختلِفٌ سببًا وغاية عن الاستخدام الموسيقيِّ لها في الأزمنة الحاضرة، وتُعَدُّ أساسًا لا نشاطًا استعراضيًّا، فارتبط بالدافع الفِطريِّ للبقاء والتكاثر، وصحبت التراتيل الدينية، والسِّحر والشَّعْوذة، لذا؛ هم يفترضون أن الموسيقى إرثٌ جينيٌّ موجود لدى البشر، ويتطوَّر بتطوُّر العوامل المستجدَّة عليه؛ مما جعلها تَخرُج من إطار الحاجات إلى إطار العواطف.

إن الموسيقى باستخدامها الحاضر من حيث هي أداةٌ لإيصال أفكار معيَّنة، ليست جيِّدةً مثل اللغة؛ ولكنها أفضل من اللغة من حيث هي أداة لإثارة المشاعر والعواطف، والمزج بينهما، وهذا يُحيل إلى رِدَّة الفعل المنطقية حول علاقة التكامل العامَّة بين الأدب والموسيقى بأنها علاقة كلمات تغنَّى، تَصحَبها الموسيقى، وما تمدُّ به الأدب الرقمي من فاعلية؛ لكن التساؤل الأهم يكمن حول فاعليتها في السرد المكتوب.

تشترك الموسيقى مع الأدب في مخاطبتها النفسَ والوِجْدان، ويختلف تلقِّي العاطفة من شخص لآخَرَ؛ ولكن المشترَك بينهما هو التمييز بين العاطفة الصادقة والميوع العاطفي (sentimentality)، الذي يقوم على مغالاة الشعور الاعتياديِّ، أو الأقلِّ من الاعتياديِّ، فما هو إلا خداع لفظيٌّ أو موسيقيٌّ، يقوم على الكذب الشعوريِّ من أجل التكسُّب الماديِّ، وهذا يفسِّر عدد الأوبرات التي أُلِّفت إلى نهاية القرن السادس عشر، فوجدوها بين عشَرةَ آلاف، وعشرين ألفَ أوبرا، ومن هذا العدد تَعزِف دور الأوبرا في أوروبا وأمريكا وأستراليا واليابان، وبعض البُلدان الأخرى، نحو ثلاثمائةٍ سنويًّا لا أكثر، ومن هذه الثلاثمائة ليس هناك من الأوبرات التي تحظى بالتَّكرار المعاوِد والقَبول الاجتماعيِّ سوى خمسين أو ستِّين أوبرا.

وإذا أرادوا أن يذكروا أروع عشْرِ أوبرات بينها، فلا بدَّ أن تكون أربعًا من أوبرات موتسارت التي تتصدَّر هذه القائمة؛ فإن أوبراه (دون جيوفاني) قامت عليها المؤلفات لتفسير براعتها، فما الذي جعلها تحظى بالقبول والذهول غير صدقها العاطفي؟ والسبب ذاته يفسِّر الانجذاب لموسيقى بيتهوفن ذات النداء الدمويِّ الْمُدوِّي الذي يخاطب ما ورا الحواسِّ، فيقضُّ النفس من رضاها عن نفسها؛ ليجعلها تفكِّر، وتنهش الألم، لا تلعب على أوتار السعادة، وتبحث عن السلام والرضا، فارتقى شأنها، وارتفعت موسيقاه على الحدود البشرية، وأصبح الإنجليز خلال الحرب العالمية الثانية يحتضنون موسيقاه أيَّما احتضان، متجاهلين أنه ألمانيٌّ، وأنهم في حرب ضَروس مع ألمانيا؛ لأنهم أدركوا أن موسيقاه تجعل البشر متواضعين إزاء كراهيتهم، مثلما تجعل البشر متواضعين أمام الطبيعة، فلا يدمِّرونها هذا التدميرَ الفظيع الذي نشهده اليومَ، والعاطفة الصادقة هي المتحكِّمة فيمن يبقى ويمتدُّ أثره، وفيمن يَزول ويختفي.

"ومن حُسن حظِّ الإنسانيات والفنون أيضًا: أن تِلالًا بينها تَذرُوها رياح الأيام، فلا تبقى سوى القِمم"، وها هي قِمم المعلَّقات شامخة بصدقها العاطفي، صامدة أمام الدراسات، لا تَهلِك مهما كَثُر دارسوها، فهذه القِمم العُلا من الأدب والموسيقى تدخل في باب الفلسفة العميقة للعقل والروح، كلَّما دُرست وسُمعت، تُعطي أكثرَ، مساعدةً على التفكير، كما يساعد فكر أفلاطون وأرسطو لمضاء التفكير، حتى لو وُجد جانب مغاير للقناعة والصواب فيها.

(الموسيقى والسرد): في الوقت الحاليِّ ليس ثَمَّةَ علاقةٌ -على حدِّ علم الكاتبة- بين السُّلَّم الموسيقيِّ: (دو، ري، مي، فا، صو، لا، تي، دو)، وبين السرد المكتوب لا الرقمي، ولو أن ذلك غير مستبعَد على عقول إبداعية استطاعت أن تدمج بين الفنون، وتتجاوز النصَّ الروائيَّ بتداخل التشكيل كما فعلت رجاء عالم، ولأن اختصاص هذه المقالة بالسرد المخطوط كتابةً؛ تُجمِل الكاتبة عددًا من العلاقات بين الموسيقى والسرد، التي في أصلها (أسباب) تجعل السرديِّين بوعيٍ أو بلا وعيٍ يستعينون بالموسيقى في سردهم، وأوَّل هذه الأسباب يُجمَل فيما لا يمكِن كتابة تحلُّ محلَّه الموسيقى؛ كرواية (الدود) لعلوان السهيمي التي شُحنت بخطاب السُّلطة المجتمَعية عالي الحِدَّة، كشفت بطلها في نهاية المطاف أن السُّلطة السائدة ليست سُلْطةَ مجتمَعٍ فحسبُ؛ بل إنها سُلطة فكرية تنشأ عنها، جعلته هو أيضًا ينقاد لها، فتُضجِّر نفرًا من مجتمعه؛ ولكنه أدرك ذاك عندما شعر بأن الدود سيَنهَش جسده عندما اقترب من الموت، وكأنه يلوم قوَّة سُلطة الخطاب الفكريِّ الذي جعله ينشأ شابًّا مغيَّبًا عن الحقيقة، كارهًا لمجتمعه، يُبغِض سُلْطته، السُّلطة التي جعلته ينشأ حاملًا فكرة أن الشباب سيُضطهَد لفساده وضلاله، وأن المرأةَ ستُقهَر لقلَّة دينها، ونقص عقلها، والطفولةَ ستُسلَب، ورجال الدِّين هم من سوف يتجبَّرون على المجتمع تحت شعار التديُّن والإصلاح، هذا كلُّه ليس إلا فكرًا نشأ عليه البطل، جَعَله يُصارع من أجل تحقيق ذاته وإثباتها، بالهروب إلى الرذائل؛ ليعبِّر من خلالها عن حُرِّيته ومُخالفته لقِيَم مجتمَعه، التي كان يراها تسلُّطًا وجبروتًا؛ بقصد الاضطهاد لا غيرُ، وهذه هي طبيعة النفس البشرية عندما تَشعُر بالخطر، تُقاوِم من أجل ذاتها، وهذا ما دفع فارسًا للمقاومة في الاتِّجاه الخاطئ؛ من أجل الخلاص، ولم يُدرِك حينها أنه كان يحمل سُلطة فكر سابق إلا بعد فَوَات الأوان.

ومن ثَمَّ تكون الرواية قد كشفت عن مستويينِ للخطاب: مستوى يختصُّ بالسُّلطة المجتمَعية، ومستوى يختصُّ بما هو مكتنَز في عقولنا من ثقافتنا.

هذه الأفكار في أغلبها لم يصرِّح بها السرد صراحةً؛ بل جاءت على شكل ومضات يُترَك تفسيرها وفَهْمها وتأويلها للمتلقِّي، ويتداخل عزف الموسيقى في حوارات الأبطال بعضهم بعضًا، التي تحمل (الومضات)، يصحبها العزف على الآلة الوترية (العود)، لذا؛ ما لا يُقال صراحةً في السرد، يُقال ضِمْنًا في الموسيقى، خاصَّةً أن هذه الرواية نُشرت عام (٢٠٠٧م)، في وقت ساد فيه جبروت حملات الإصلاح، لذا؛ دُسَّت الومضات في الموسيقى، إما بكلماتها أو بوجودها في لحظة الصمت عن الكلام عزفًا.

ويتفرَّع من هذا الاتِّجاه المختصِّ بفَهم المعاني الضِّمنية فَهْمُ الشخصيات داخل السرد ذاته، عندما تعبِّر عن ميولها ونزعاتها من خلال ما تميل إلى الاستماع له من الموسيقى، ويُفيد ذلك في الدراسات المقارنة، فعندما يتمُّ دراسة رواية (حياة) لدافيد فاغنر الألماني، لن تُعطيَ قراءة سطحية للشخصيات قيمةً دون الوقوف على ما يميلون إلى الاستماع إليه، خاصَّةً أن الموسيقى صَحبت البطل في أغلب استرجاعاته.

إن فَهم الشفرات الموسيقية المرسَلة في السرد العربيِّ والأجنبيِّ على وجه الخصوص يُساعد على إثراء الثقافة الموسيقية لدى المتلقِّي أيضًا.

وثاني الأسباب التي تجعل السرد يلجأ إلى الموسيقى: علاقتُها المعقَّدة ديناميكية الدماغ. 

إن رواية (رقصة أم الغيث) لعبد الرحمن العكيمي، التي جاء فيها استرجاع لممارسة شعبية اختفت قبلَ أكثرَ من ثمانين سنةً، وتتضمَّن وَهمًا وغناءً وأصواتًا تعلو حول جبال الركب في وادي الراقصات في العلا؛ لتصدع بالجبال، فينزل الغيث، هذا الوهم والغناء والأصوات المصاحبة هو نوع من التنفيس؛ أي: التعبير للتخفيف من آثار شدَّة الشحِّ والجوع الذي اعترى الصحراء في ذلك الوقت، فالأصوات المصاحبة تعمل ديناميكيًّا في الدماغ؛ للإيهام بفاعليتها فيزيائيًّا؛ لتنزل الأمطار. 

غناءٌ ورقص متواصل مكوِّنًا دَوِيًّا يعلو في الجبال، ينشر على الوادي هذا الصوت المتكامل في حدِّ ذاته، يَدخُل في إطار الموسيقى البشرية الشعبية. 

إن الاستعانة بالموسيقى الشعبية في الرواية وطقوسها واعتقادهم بها، يترك للمتلقِّي مساحة يتأمَّلها، تُثير عددًا من التساؤلات حول ما إذا كانت دُمْيَة أم الغيث التي يصنعها النساء بأيديهن للغناء لها والرقص معها في وادي جبال الراقصات في لحظة وهنهن ويأسهن، لها قدرةٌ على إنزال الغيث؟ أم أن دويَّ الأصوات التي تعلو حول الجبال فتصدع بها، فتتمايل جبال الراقصات في اعتقادهن في انسجام تامٍّ تتَّصل بمسألة فيزيائية تُنزل الغيث؟ أم هي مسألة ديناميكية عقلية تتعلَّق بإشباع العقل بالتعبير من خلال الموسيقى البشرية وسماعها، ترنُّ بين الجبال؛ ليعودوا بعدها لممارسة حياتهم الطبيعية، وكأن الشحَّ ارتوى، والجوع قد أُشبع، فما هي إلا مسألة وقت وينزل الغيث دون علاقة للموسيقى البشرية به؛ ولكن العقل ارتبط بديناميكية هذا الاعتقاد؛ أي: كلَّما أُشبعت الحاجة للتعبير، والحاجة للسماع، ارتوت الأنفس لا الأرض، وهذا لبُّ علاقتها في السرد وارتباطها ديناميكيًّا في العقل باعتقادات لا يحتمل السرد تفسيرها.

وثالث الأسباب التي تجعل السرد يستعين بالموسيقى هو الموسيقى نفسُها، عندما تتموضع في مركز تاريخيٍّ في السرد؛ بحثًا عن هُويَّة الشعوب، كما في رواية (تشيللو) لتركي آل الشيخ، التي كشفت عن ارتحالات الوتر بين الثقافات، وصوَّرت علاقة الإنسان بالموسيقى؛ كونَها جزءًا من هُويَّة الشعوب، وكونُ الموسيقى جزءًا من هُويَّة الشعوب، فإن هذا يمثِّل "عالمًا داخليًّا، أو بالأحرى هيكلًا نفسيًّا للأديب يبني عليه بُنيانه الخارجيَّ" في هيئة سردية، لذا؛ جاءت زاوية رؤية السارد من الخلف في الرواية للتناسب مع محاولة الارتقاء بالمشهد الثقافيِّ؛ لأن الرواية صوَّرت المحاولاتِ الْمَريرةَ في إثبات الذات الموسيقية، والتغلُّب على الصعوبات التي واجهتها.

    وإن كثرة تكرُّر الحدَث في كلِّ مرة أراد فيها البطل التغلُّب على اللحن الغربيِّ بلحن شرقيٍّ، ومحاولات التوقُّف، ومشاهِد الدماء، تُقابِل محاولاتِ النهوض بالموسيقى، والتغلُّب على إشكالاتها، فمشهد المرأة الملعونة الشاحبة، والطفل الشبح المحذر المتكرِّرة، كلُّها تقابِل أحداثًا تاريخية حاولت به الموسيقى الانتصار للنهوض بالمجتمع ثقافيًّا ليسجِّل لنفسه إرثًا حضاريًّا.

لذا؛ تتَّخِذ الأحداث في الرواية مسارين؛ الأول: من منظور ضيِّق، وهو تغلُّب البطل على الآلة الوترية بالعزف بها بلحن شرقيٍّ، والثاني -ويكون من زاوية أعلى-: وهو الارتقاء بالمشهد الثقافيِّ في المملكة العربية السعودية؛ لكونَ الموسيقى جزءًا من هُويَّة الشعوب، فتجسَّدت آلة التشيللو في الرواية ككِيان مساعد للبطل (ناصر)، الذي نصره في إثباته بلحن شرقيٍّ، وقد ساعدت البنية الزمانية في الرواية على إثبات فكرة ارتحال الوتر بين الثقافات.

وقد تَطُول القائمة أو تَقصُر في أسباب فاعلية الموسيقى حيويًّا في السرد، والأدب عامَّة، وتكاملها مع علم الأعصاب والطبِّ والفلَك والرياضيات والفيزياء والعلوم الإنسانية؛ بل ارتبطت بالوجود الإنسانيِّ منذ العصر الحجريِّ، وارتحل الوتر بين الثقافات على هيئات متعدِّدة، منذ أن خُطَّ على جدران المآثر، وما دلَّت عليه الاكتشافات الأَثَرية في حضارات ما بين النهرينِ (السومرية والبابلية)، والحضارة اليونانية، والحضارة الفِرْعونية، والعصور الوسطى، وعصر النهضة، يتحدَّث عن أهميتها، وكما كان الأدب يسير في اتِّجاه الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية، سارت الموسيقى في الاتِّجاه نفسه؛ لتعاون الملحِّنين مع شعراء وكُتّاب ومسرحيِّي ورسَّامي تلك الحركات الفنِّية، ومما نتج عنها من روائعَ فنِّيةٍ بَقِيَت حتى اليوم، وما يشهده القرن العشرون من ثورة موسيقية تِقْنيَّة تنهض بالموسيقى إلى الإنسانية العالمية.


 

 

 

 

 

 

 

٧٠ مشاهدة

أحدث منشورات

مقدمة العدد | دَوزنة!

هيئة التحرير يخرج المولود معلنًا عن حقه في سمعنا، يصرخ فنعلم أنه بخير وصحة جيدة، فإن وُلد في سكوت، تنامت حوله المخاوف والفحص السريع لغياب...

Comments


bottom of page