عبدالله الدحيلان
يتفق غالبية النقاد والمهتمين بالسينما الإيرانية على تميزها بخصوصية واضحة في تقديم ذاتها بصورة جلية رغم ما يغلفها من ظروف وتحديات، وتبرز تلك الخصوصية في الاتكاء على الشأن الداخلي بتفاصيله كافة، عبر الغوص في دهاليز المهمشين وعوالمهم الدقيقة، إضافة إلى استحضار التحولات المفصلية والتاريخية بصفتها جزءًا من هوية لها تركيبتها وتاريخها الثري. إن تواطؤ صناع الأفلام الإيرانيين على إبراز هذه الملامح وتقديمها للجمهور المحلي والعالمي في قالب إبداعي مشوق حوّل السينما من وسيلة من وسائل الترفيه إلى مرآة تعكس حياة الإيرانيين فعليًا، ولذلك سافرت بهم حول العالم وقدمت ثقافتهم المتنوعة، تمامًا كما يرونها هم لا كما تراها المركزية الغربية التي تعمد على التنميط واختزال إرث الشعوب المختلفة عنهم، ومن بين هؤلاء المخرجين الذين كان لهم دور ملحوظ في تقديم الهوية الإيرانية والمساهمة في انتشارها عالميًا هو المخرج أصغر فرهادي الحائز على جائزتي أوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية، الذي سنسلط الضوء على مسيرته وأهم المحطات التي ساهمت في بلورة هذا الاسم حتى عُدّ أحد أهم رموز السينما المستقلة في بلاده.
شرارة البدايات المعتادة
عندما ولد فرهادي عام ١٩٧٢م في مدينة أصفهان لم يكن ينحدر من عائلة فاحشة الثراء أو ذات حظوة اجتماعية أو سياسية، بل نشأ وعاش في بيت متواضع من بيوت الطبقة الوسطى الإيرانية، وهناك أطل برأسه ليشاهد البيئة التي ستكون مجمل أعماله نابعة من تناقضاتها وتفاصيلها. في ذلك المكان حرص على الوقوف على منابع عرض ومشاهدة السينما وسط رؤية دينية محافظة، إذ عاش طفولته والثورة الإيرانية لا زالت على صفيح ساخن من الأحداث والتحولات المفصلية، فداخليًا يسيطر تيار ديني بعينه بزمام التشريع والتنفيذ، وخارجيًا هناك جبهة مفتوحة تدور بها رحى معركة استمرت نحو ثماني سنوات، وصولًا إلى إقليم مضطرب يصعب التكهن بمآلاته ونتائجه. بحسب عدد من الحوارات لفرهادي، فإن هذه الأجواء ساهمت في خلق رؤية معينة اتكأ عليها لاختيار السينما بصفتها النافذة التي سيعبر عن طريقها عما ترسب في ذاكرته من حصيلة زاخرة بالأحداث والحكايات، لذلك كانت البداية في التميز في اختيار مسار قلة سالكيه ألا وهو التمثيل، ففي صغره مارس هذه الهواية في المدرسة والحارة وفي المناسبات الدينية، حتى بدأ ممارسة العمل السينمائي في منتصف الثمانينيات الميلادية بجمعية الشباب السينمائية، فكانت حصيلته ستة أفلام قصيرة ومسلسلين نُفذا لصالح التلفزيون الوطني. بعد هذا كله وجد المخرج الصغير نفسه قد بلغ من العمر ما يلزمه الاختيار بأن تكون تلك الهواية التي يحب إلى مجال دراسته وتعليمه، فالتحق في المرحلة الجامعية بكلية الفنون الجميلة في (جامعة طهران).
بهذه الخطوة خرج فرهادي من الحيز الضيق لحارة يعرف الناس فيهم بعضهم البعض، ضمن مدينة أثرية ضاربة جذورها في عمق التاريخ، إلى رحاب مدينة مكتظة ترحب بالوافدين للعمل وتسابق الخطوات من أجل اللحاق بركب مجالات التقدم الصناعي والتقني، وسط حصار واستنزاف لم يتوقف منذ ١٩٧٩م. هذا المشهد، جعل شخصيته تنصهر ضمن هذا الضجيج لينكب على تعليمه ويتفوق به، فواصل دراسته العليا في التخصص ذاته لكن في جامعة (تربية مدرس) في العاصمة.
مدافعًا عن العرب!
يُعدُّ فيلم "ارتفاع البريد" البداية الحقيقية للمخرج الذي نعرفه الآن، وفيه شذ فرهادي عن طوق السينما المستقلة التي رسم ملامحها في أعماله التي ذاع صيتها في جمعية الشباب السينمائية، حيث قرر أنه جزء من حدث عالمي يستوجب منه أن يتحدث بلغة الكاميرا ليقول إن ما خلفته أحداث الحادي عشر من سبتمبر من تبعات كان فيها الكثير من ظلم للعرب وتشويه صورتهم. كان ذلك بعد عام من استهداف الطائرات لبرجي مركز التجارة الدولية في منهاتن، لكن سرعان ما عاد المؤلف والمخرج ليقفز بخفة عام ٢٠٠٣م بين الدوائر الفنية التي يُجيد ويحب، فكان ذلك في فيلم "الرقص مع الغبار"، الذي تحضر فيه شخصية فرهادي التي تستهدف السؤال الأخلاقي في أعمالها، فكان الفيلم يتمحور حول ضغوط هائلة تنصب على رجل بسبب سلوك أم زوجته، فيضطر مكرهًا لتطليقها لتدخل بعد ذلك في دوامة من المغامرات والتحديات لكسب قوت يومها.
وفي العام التالي، كتب وأخرج فيلم "المدينة الجميلة" الذي يسرد مأزق حكم الإعدام وأثره عندما يصدر في فتى مراهق بسبب خطأ غير متعمد، ما يتسبب في قلب حياته رأسًا على عقب. حصد هذا الفيلم عدة جوائز من مهرجاني الفجر السينمائي ووارسو السينمائي الدولي عام ٢٠٠٦م، وعبر فيلم "الأربعاء الأخير" الذي تصور أحداثه عين عاملة منزلية ترصد كل ما يجري في المنزل، فتكشف أسراره الأسرية وتأخذ في تتبع الزوج لمعرفة سلوكياته، فقد حصد الفيلم جائزة هوجو الذهبية لمهرجان شيكاجو السينمائي الدولي، وبعد ثلاثة أعوام رشح فيلمه "عن أيلي" لجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية، لكنه لم يفز، ومن هنا بدأت حكاية أصغر فرهادي مع جوائز الأوسكار!.
ياسمينة الأوسكار
تدور أحداث فيلم "انفصال نادر وسمين" حول زوجة تطلب من زوجها الخروج من الوضع الاقتصادي الخانق الذي تعيشه البلاد، وذلك عبر الهجرة لدولة أجنبية وبداية حياة جديدة هناك، يسهم هذا الطلب في تعكير الصفو بين الطرفين، خاصة وأن بينهما طفلة إضافة إلى رعايته لأبيه المريض. تتوتر العلاقة بين الطرفين بعد رفع الزوجة دعوى طلاق في المحكمة فتقرر الخروج من المنزل، في هذه الأثناء يجلب الزوج خادمة لرعاية ابنته ووالده، التي تخيب ظنه وتظهر عدم اهتمامها بهما، فيطلب منها مشافهة ترك المنزل فترفض ذلك مفضلة البقاء لكسب المال، فيخرجها من بيته عنوة حتى دفعها وسقطت على الدرج، لتذهب إلى الشرطة وتتهمه بالتحرش والضرب وإجهاض جنينها، فتتشوه سمعة الزوج ويدخل في دوامة من الصراع بالمحاكم، فتكسب زوجته دعواها وترحل مع ابنتها عن البلد، فيما تتنازل الخادمة عن اتهامه بتعمد إجهاض الجنين، ويبقى الزوج وحيدًا يرعى والده.
هذه هي الحكاية التي كتبها وأخرجها أصغر فرهادي عام ٢٠١٢ وحصدت ٣٠ جائزة في مختلف مهرجانات العالم، كان أهمها جائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية والدب الذهبي لأحسن فيلم في مهرجان برلين السينمائي الدولي، في سابقة هي الأولى أن يجمع فيلم إيراني هاتين الجائزتين في ذات العام.
بعد خمسة أعوام كتب وأخرج أيضًا فيلم "البائع" الذي تدور أحداثه حول زوجين يقررا الانتقال لأحد المنازل، وهناك تتعرض الزوجة لاعتداء، ما يتسبب في دخولهما في دوامة من الصراع النفسي والازدراء الاجتماعي، إضافة إلى عجز الشرطة عن الوصول للجاني، ما يدفع الزوج للبحث عنه بنفسه عبر العلامات والدلائل التي كانت ترشده إليها زوجته، فيتوصل إليه ليجده رجلًا كبيرًا يعاني عدة أمراض، ولم يهتم الزوج بالانتقام منه وتصفيته كما ظن الجاني، لكن حرص أن يجعله يعترف بفعلته المشينة أمام زوجته وأبنائه، وهذا ما لم يقوى على فعله، فما أن رآهم أمامه حتى تهاوى وسقط أرضًا. فاز الفيلم بجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية، مضيفًا بذلك إلى رصيد المخرج الإيراني إنجاز جديد يؤكد موهبته وجدارته بالمكانة التي وصل إليها، ومع ذلك ليست كل الطرق معبدة!.
السارق والسارقة
أيصبح السارق بطلًا؟ حول هذا التساؤل تدور أحداث فيلم أصغر فرهادي الأخير "بطل"، حيث يتعلق رجل سُجن بسبب ديون مالية بقشة علقته به شريكته بعد خروجه المؤقت لعدة أيام ليرى أسرته ويعود للسجن مجددًا، حيث وجدت حقيبة مليئة بالعملات الذهبية وعرضت عليه فكرة سداد ديونه ليخرج بصورة نهائية ويلتم شملهما، إلا أنه بعد أن وافقها قرر التخلي عن الفكرة وعقد العزم للبحث عن صاحبة الحقيبة. السجن يتلقف الحدث ويبرزه إعلاميًا للتغطية على سوء ما يدور فيه من خدمات وصيانة، فضلًا عن تزايد عمليات الانتحار بين الموقوفين، ما يحول الموقوف إلى بطل في عين المجتمع، لكن تمارس شبكات التواصل الاجتماعي دورها في التشكيك في كل الأخبار والأحداث، ويتحول السجين من فاعل للخير إلى منافق يتكسب من فعلته لكسب تعاطفهم، فينتهي الحلم سريعًا ويعود لزنزانته ليقضي بقية محكوميته.
اللافت في هذا الفيلم أنه وضع المخرج الأوسكاري في خانة المتهم والمشكك في صدقه، تمامًا كما حدث مع بطل الفيلم، إذ اتهمته إحدى طالباته بأنه سرق فكرة فيلمه من فيلم لها بعنوان: "كل الرابحين كل الخاسرين"، وهذا ما نفاه فرهادي، إلا أن محكمة إيرانية أقرت بسطوه على فكرة طالبته، ما يعني احتمالية أن يجد نفسه خلف القضبان في حال عدم قدرته إعادة ما جناه الفيلم من إيرادات، ليكون كبطل فيلمه رحيمًا مسجونًا بسبب ديون مالية، فيما يتداول أنه في حال المصادقة على الحكم فإنه سيلوذ للإقامة في فرنسا أو أي دولة أخرى.
لعل هذه ليست نهاية أصغر فرهادي، لكنها بلا شك وصمة سترهق كاهله فيما تبقى من مسيرته التي يعول عليها الشيء الكثير، وذلك بتقديم مجموعة من الأعمال المتقنة والإبداع المستوحى من البيئة الإيرانية.
Comentários