top of page
  • سياق

تشكيل: نصٌ مبصور لنصٍ منصوص



نوف السماري

فنانة تشكيلية


بين تقاطعات الأدب والفن التشكيلي، يطل المعنى مُتمثلًا ربما بينًا غير مستتر بين سرد الخيال وحرف صورته، ونظرًا لمحاولات الإنسان أبد الدهر في ابتكار الأساليب لوصف وُجوده واختلاجاته بكل الطرق الممكنة عما يواجه من تجارب وعما تترك بداخله أثنائها وبعدها، وفي اكتشاف الاتجاهات المختلفة بين مواقف الكاتب والشاعر والرسام تأتي صناعاتهم بصورة متقاطعة؛ لتشكل نقطة التقاء، أو ربما خطوطًا متوازية بين الصورة والحرف استكمالًا لمفهوم أريد التعبير عنه حول ذلك المعنى المترامي بين مسافات الحياة. وعند الشعر خاصة والأدب بالمجمل، هناك صورة خيالية تترك لقارئها خواص كثيرة لتصورها، ومن هنا تأتي فكرة اقتران النص بالصورة الفنية، إذ توجد تجارب لافتة تأتي في سياق أدبي فني حيث يرتص الحرف بجملة نصه جنبًا إلى جنب مع خطة من الأشكال اللونية الفنية، لتتحول من نص حرف إلى نص صورة.

 

في الأدب المقارن يحدث ذلك الانتقال بين تعبيرين لفكرتين متوازيتين في مساحتي عمل، سواء في قياس اللغة أو الباعث الثقافي لذلك أو حتى المصوغ الفني بكل معطياته وتفاصيله، ولو تأملنا النص الأدبي كصورة متباينة مع الرسومات التشكيلية المقابلة لها أو المتقاطعة معها، فإن التساؤل الذي سيحضر هو: هل هذا التناص الفني يأتي كمقارنة بين معطيين يخدمان الفكرة نفسها من عدة أوجه ليأخذ المتلقي نحو اكتشاف أوسع للمعاني؟ أم أنه يقدم بصيغته الفريدة كإضافة فنية تحسب لكلا الصانعين أكثر من اقتصاره على أنه ثراء أدبي؟

 

أحد النماذج المتميزة لهذه الظاهرة بنظري، الذي يُعدُّ من الأعمال الفنية التصويرية في مجال اقتران النص والصورة، ممثلًا فن التصوير الإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي، هو عمل "مقامات الحريري ومنمنمات الواسطي". حيث كتب المقامات أبو محمد القاسم الحريري، وكان يعرف بجمال مفرداته وبديع كلامه المقفى، متفوقًا في التركيب اللغوي وسحر الأداء في الشعر، لا سيما في العبارات أو الأشطر القصيرة التي لا يتجاوز عدد كلماتها الخمس. وقد أضيف إلى النص المكتوب في هذا المؤلف رسومات تصويرية رسمها الفنان العباسي يحيى الواسطي الذي يُعدُّ أهم رسامي أواخر العصر العباسي، كما يُعدُّ مؤسس فن المنمنمات، وقد اشتهر كثيرًا بهذا الفن. ويُعدُّ هذا العمل أول عمل تصويري لفنان عربي يعرف باسمه. كان الواسطي مثقفًا واسع الاطلاع، وفي هذا السياق كان قد ترجم الصور الذهنية إلى لوحات زينت المقامات الخمسين بمئة منمنمة من رسوماته، وعند تأملها سنجدها بخطوطها السوداء وألوان شخوصها تعكس شيئًا من الحس الفني ﻭالملاحظة الدقيقة التي تتجلى في صناعة وﺷﻐﻒ ﺍﻟﻮﺍﺳﻄﻲ وهو يعكس الحكايا والعِبر والتعابير، حتى لحركات ﺍﻟﺸﺨﻮﺹ المذكورة في المقامات الشعرية. وعلى سبيل المثال في (المقامة الدينارية) نجد هذا النص:





 "ثم بسط يده. بعدما أنشده وقال: أنجز حر ما وعد. وسح خال إذ رعد. فنبذت الدينار إليه. وقلت: خذه غير مأسوف عليه. فوضعه في فيه. وقال: بارك اللهم فيه! ثم شمر للانثناء. بعد توفية الثناء. فنشأت لي من فكاهته نشوة غرام. سهلت علي ائتناف اغترام. فجردت دينارًا آخر وقلت له: هل لك في أن تذمه. ثم تضمه؟ فأنشد مُرتجلًا. وشدا عَجِلًا:



تــبًــا لـــه مــن خــادع مــماذق أصــفر ذي وجــهين كــالمنافق

يــبدو بــوصفين لــعين الــرامق زيــنة مــعشوق ولــون عــاشق

وحــبــه عــنــد ذوي الــحــقائق يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق

لــولاه لــم تــقطع يــمين سارق ولا بــدت مــظلمة مــن فــاسق

ولا اشــمأز بــاخل مــن طارق ولا شــكا الممطول مطل العائق

ولا اســتعيذ مــن حــسود راشق وشـــر مــا فــيه مــن الــخلائق

أن ليس يغني عنك في المضايق إلا إذا فــــر فــــرار الآبـــق

واهــا لــمن يــقذفه مــن حــالق ومــن إذا نــاجاه نــجوى الوامق

قــال لــه قــول المحق الصادق لا رأي فــي وصلك لي ففارق




تُعرض المخطوطات والمنمنمات الأصلية في المكتبة الوطنية في مدينة باريس



في عام 1321 ظهر كتاب دانتي أليجيري بملحمة "الكوميديا الإلهية" التي تُعدُّ من أهم الملاحم الشعرية في الأدب الإيطالي، تحتوي الملحمة الشعرية على نظرة خيالية مستعينة بالعناصر المجازية حول تخيلات الآخرة بحسب الديانة المسيحية وماتنطوي عليه فلسفة القرون الوسطى، و كان لها أثرها في الكثير من الأدب والشعر بعد ذلك، ومن الشعراء الذيين تعلقوا بذلك الكتاب وصنع شيئًا في محاولة إتمام خيال المعنى، كان الشاعر الإنجليزي ويليام بليك الذي اشتهر أيضًا بحبه لرسم المنمنمات، وحيث يُعدُّ الخيال اللاهوتي والروحانية الدينية أيضًا أحد أبرز معالم شعره و أعماله. في سنوات بليك الأخيرة، وتحديدًا في عام 1824، كلفه صديقه الفنان جون لينيل بعمل رسومات لكتاب الكوميديا الإلهية، ورغم امتداد القرون على صدور الكتاب لم يشكل عائقًا لبليك وقد عمل نحو 100 رسمة، وقد أرسل لصديقه لينل ليخبره:

"أنا متعلق جدًا بدانتي لدرجة أنني لا أفكر كثيرًا في أي شيء آخر -واعتبر نفسي مدفوعًا بما يكفي إذا كنت سأعيش كما أفعل الآن "

 توفي أثناء عمله على تلك الرسومات، لذا فإن تلك الصورة، المستوحاة من نهاية ثلاثية دانتي، تظل رسمًا غير مكتمل من تقديم ويليام بليك: 




HELL, CANTO 1   

 Struggling with terror, turned to view the straits    

    That none hath passed and lived. My weary frame

    After short pause recomforted, again

    I journeyed on over that lonely steep,


    The hinder foot still firmer. Scarce the ascent

    Began, when, lo! a panther, nimble, light,

    And covered with a speckled skin, appeared,

    Nor, when it saw me, vanished, rather strove

    To check my onward going; that ofttimes

    With purpose to retrace my steps I turned.



في بداية الجحيم، وجد دانتي نفسه ضائعًا في الغابة المظلمة للخطأ، حيث حُظِر طريقه إلى جبل الفرح بواسطة الوحوش الثلاثة الدنيوية: نمر الحقد والاحتيال، وأسد العنف، وذئب الطمع. ولحسن الحظ، يظهر الشاعر الروماني فيرجيل الذي يمثل العقل البشري، ويعرض توجيه دانتي في رحلته الروحية عبر دوائر الجحيم التسع. 





أُعيد إصدار الكوميديا عن دار تاشين. وتُعرض الرسومات الأصلية في متحف تيت لندن و أكثر من دار عرض حول بريطانيا.






ومن التجارب الحديثة في مجال تمازج النص المكتوب بالنص التشكيلي يأتي كتاب "النشيد الجسدي: قصائد

مرسومة لتل الزعتر" حيث كان الشاعر محمود درويش، الطاهر بن جلون، ويوسف الصائغ معاصرين الرسام العراقي ضياء العزاوي، ليعبر كل منهم بطريقته نحو حدث مأساوي في هذا العمل بدءًا من عنوانه وتجليات شيء من الهم الفني الذي كان يستولي على الفنان؛ حيث شعر درويش الذي كان يشير إلى أن تل الزعتر هو معنى النسيان، والعزاوي بتعبيره عن فاجعة إنسانية عن طريق ردات فعل الوجوه والتعبيرات لشخوص اللوحات. الأعمال مطبوعة في سلسلة أعمال عن مخيم تل الزعتر حيث يشير إليها مباشرة بفاجعة إنسانية ومحاولًا أن يعلن عن سخطه إزاء السقوط الدموي للمخيم الفلسطيني في لبنان. التكوينات جميعها في (النشيد الجسدي) تُعيد تفكيك الجسد الآدمي وتعاود تركيبه بطريقة تعبر عن العذاب شعورًا وجسدًا. يُعدُّ ضياء العزاوي نفسه مهتمًا ومولعًا بالشعر العربي، وما قدمه هنا يُعدُّ مشروعًا مختلفًا في مسار الحركة التشكيلية العربية، حيث حاول أن يعكس النص الأدبي تشكيليًا دون أن يتخلى للحظة عن لغته الفنية، ومن دون أن يكون فقط رسامًا لصور توضيحية.


أحد نصوص درويش المرفقة في الكتاب:


لا تأخذوه من الحَمَامْ

لا ترسلوهُ إلى الوظيفةْ

لا ترسموا دمه وسام

فهو البنفسج في قذيفةْ







تُعرض أعمال العزاوي في صالة ميم جاليري أبو ظبي، ومتحف الفن الحديث في الدوحة.




الحرف والرسم يشكلان معنى ثلاثي الأبعاد، وأن يقيما جنبًا إلى جنب رغم اختلاف الأزمنة واللغات والظروف، فإن ذلك يسهم حتمًا في اكتشاف معان وتفاصيل متعددة، حتى وإن سبق النص الصورة بزمن طويل. لكل منهما طرقه في ترجمة فهمه للنص ومحاولة إما استكماله وإما عكس معناه بترجمة لونية مختلفة. قيل إن الأدب هو عنف منظم نحو الكلام العادي، وبنظري أن الفن هو فكرة لا تنتهي ببنيان مرمري مرصوص بالمعنى، فإن تخالج مع النص في وعاءٍ جديد فقد يكون سُلمًا لحنيًا جميلًا ومختلفًا لمقامات المعنى.





أحدث منشورات

مقدمة العدد

هيئة التحرير هو أحمدُ عَودُ سياق! تأتي نشرة سياق في موسمها الثاني بعددها الثالث عشر طارحة بين يدي القارئ "مراجعات في الأدب المقارن"؛...

Kommentare


bottom of page