يوسف المحيميد
لا شك أن نقل النص من لغته الأصلية إلى لغات أخرى أمرٌ مهم للكاتب، سواء عن طريق الانفتاح على الآخر، أو الوصول إلى قرّاء جدد واتساع مساحة القراءة لتجربته، أو نقل عوالم وشخصيات رواياته وأعماله السردية إلى أوساط وشرائح قرائية أخرى. وكما ندرك جيدًا، فإن الأدب هو النافذة الأسمى التي يمكن عن طريقها تأمل الحكايات والحوادث والأمكنة، وتفاصيل المجتمع الذي يبدو غير مكتمل الصورة من غير الفن الروائي أو السردي بصورة عامة.
لم تكن ترجمة أعمالي الروائية أمرًا مخططًا له، ولم يكن قصديًّا، وإنما جاء عن طريق الصدفة المحضة، وذلك باختيار فصل من روايتي "فخاخ الرائحة" ضمن مختارات لخمسة روائيين سعوديين، لصالح مجلة بانيبال المعنية بترجمة الأدب العربي، التي تصدر في لندن. ومن حسن الحظ أن جرى تكليف المترجم البريطاني أنتوني كالدربانك، الذي سبق له ترجمة أعمال روائية لنجيب محفوظ، وصنع الله إبراهيم، وميرال الطحاوي وغيرهم، بترجمة ذلك الفصل من روايتي. وما إن أنجز ترجمة الفصل المتفق عليه، طلب من الناشر أن يحصل على الرواية كاملة بهدف قراءتها، وربما بعد قراءة الرواية وجد فيها ما يتفق مع ذائقته ويتماس مع وجدانه، فقرر بالاتفاق معي أن يعمل على ترجمتها، دون أن يكون هناك أي مراسلات، أو اتفاق مبدئي مع ناشر أجنبي، وهي مغامرة تُحسب له، لأن ذلك خلاف ما يجري في سوق النشر العالمي، عبر وكيل أدبي يتولى التفاوض بين المؤلف والمترجم والناشر.
تلك كانت الخطوة الأولى قبل نحو عشرين عامًا، وبعد أن نُشرت الرواية في طبعتين متزامنتين، في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفي بنجوين نيويورك، اكتشفتُ جدّية العمل المُترجَم وتعقيداته، وما يتطلبه من لقاءات عمل مستمرة ومراجعة دقيقة بين المترجم والمؤلف، ومحاولة فهم أحاسيس الكاتب ومشاعره حين كتب هذه العبارة أو تلك؛ كل ذلك بهدف نقل المعنى العميق للجُمل، وليس نقل الكلمة بالكلمة، وهذا ما عايشته مع مترجمي البريطاني كالدربانك، ومترجمي الفرنسي إيمانويل فارلت، ومترجمتي الإيطالية مونيكا روكو، وغيرهم. تلك الترجمات الجادَّة والمتميزة هي التي أسهمت في وصول العمل إلى ناشرين متميزين، وجوائز، وقراء، ونقَّاد، وجولات في تلك الدول، وهو في نظري النتيجة المهمة للترجمة: أن يصل العمل فعلًا إلى القرَّاء المستهدفين، وأن يتفاعلوا معه.
ولا شك أن ترجمة العمل الأول "فخاخ الرائحة" إلى أكثر من لغة، فتحت النوافذ للأعمال الأخرى (القارورة) و(الحمام لا يطير في بريدة) و(رحلة الفتى النجدي) وغيرها، وتعلَّمت من كل ذلك أن العالم أكبر وأوسع من لغة وحيدة، وأن القارئ مختلف بين هذه اللغات، وحتى صناعة النشر أكثر احترافية وجودة، وأن الكاتب يجب أن يكون كاتبًا فحسب، متفرغًا لنصه الأدبي، لا أن يكون كاتبًا ومحرِّرًا ومفاوضًا ومسوِّقًا كما يحدث عند النشر باللغة العربية.
لم أكن متحفظًا تجاه تحرير نصي الأدبي في اللغات الأخرى، بل منفتحًا تمامًا على اقتراحات المحرِّرين في دور النشر الأجنبية. أتفهم جيدًا تباين اللغات، واختلاف وقعها وتأثيرها في القارئ من مجتمع ثقافي إلى آخر، لهذا تقبَّلت فكرة تغيير عنوان (فخاخ الرائحة) في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتفهمت التغيير الطفيف في عنواني (القارورة) و(الحمام لا يطير في بريدة)، فمثلًا تحويل عنوان (فخاخ الرائحة) إلى Wolves of the Crescent Moon سيجعل لها وقعًا أكبر لدى ذائقة القارئ الغربي، فالعلاقة بين المؤلف والمترجم والمحرر والوكيل الأدبي والناشر هي علاقة تكاملية، والمشاركة بينهم تنتج في النهاية صناعة نشر حقيقية، وهذا الفارق الكبير الذي وجدته بين آلية عمل الناشر الأجنبي والناشر العربي.
كما لم تكن ترجمة النص الأدبي، بالذات الرواية، أمرًا سهلًا، فأحيانًا تتغير لغة النص في أحد الفصول، وبالتالي لا بد أن يكون المترجم يقظًا، فمثلًا في نهاية رواية (القارورة) كان هناك فصل كامل حول صك الطلاق للشخصية المحورية منيرة الساهي، وكان مكتوبًا بلغة قانونية خاصة، حاول المترجم أن يستخدم لغة مماثلة أو موازية، هل نجح أم لا؟ وهل نقل دور اللغة وتأثيرها في هذا الفصل أم لا؟ هذا أمر يجيب عليه قارئ النص.
هذه التجارب والتفاصيل الصغيرة التي مرَّ بها -بلا شك- كثير من الزملاء الروائيين، عن طريق ترجمة أعمالهم، تجعلنا ندرك أن حرص الكاتب على جودة ترجمة نصه الأدبي، يعني أن يُقدّم بصورة لائقة إلى ثقافة أخرى جديدة، ويُوضع اسمه في قائمة اهتمامات القارئ الأجنبي، ففي نظري أن بقاء النص بلا ترجمة أفضل من ظهوره في ترجمة رديئة تترك أثرًا سلبيًّا لدى القارئ تجاه اسم المؤلف، تجعله يتحاشى اقتناء أي كتاب مستقبلًا لهذا المؤلف، لأن القارئ لا يعنيه ما إذا كانت المشكلة في الترجمة أم في النص الأصلي نفسه.
وفي نظري أن مستقبل حركة ترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى لغات أخرى يسير بوتيرة متصاعدة، فما يحدث الآن من ترجمة أعمال أدبية عربية مهمة يمثل قفزة كبيرة إذا ما قورن ذلك بعقود ماضية منذ ستينيات القرن الماضي، مرورًا بالتسعينيات ومطلع الألفية التي ظهرت فيها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فما يحدث الآن عن طريق ما تقوم به هيئة الأدب والنشر والترجمة، من عمل مستمر في دعم الأدب السعودي، وترجمته إلى مختلف اللغات، والزخم الذي تشهده حركة ترجمة الأدب السعودي إلى لغات عالمية مختلفة، هو جزء من انفتاحنا الثقافي نحو العالم، وإسهام في وصول صوتنا الأدبي هناك، لكنه أيضًا، سيقود إلى تحديات جديدة، لعل أهمها، ضمان مستوى عال من الاحترافية والفهم لتعقيدات صناعة النشر والترجمة، كجسر بين ثقافات العالم كلها.
وختامًا يمكنني القول عن طريق تجربتي المتنوعة في التعامل مع عدد من المترجمين الذين نقلوا أعمالي إلى لغات أخرى إنَّ نقل النص من لغته الأصلية إلى لغة أخرى ليس نزهة، بل هو عمل دؤوب يتطلب الكثير من الجهد والإخلاص والمهارة والعمل الجاد؛ لإعطاء العمل المترجَم فرصة حقيقية في الوصول إلى ثقافة مختلفة وإلى قاعدة أوسع من القراء الجدد.
Comments