أمجاد الغامدي
باحثة في الأدب العربي والنقد بجامعةِ جدة، كليَّة اللُّغات والتَّرجمة.
كان انبهارُ الإنسان بالطبيعةِ مشعلَ الفكر الإنساني الذي قاده إلى مجالستها والنبش والنظر فيها، بذلك يخرجُ من العالمِ المادي نحو عالمٍ ثقافي رمزيِّ يوازيهِ ويُثريه إيمانًا منه بوجود قوةٍ عظمى -متمثلة في الله سبحانه- خلف كل الموجودات صغيرها وعظيمها؛ مما يؤهِّلها لاستحقاق النظر، ويفتح هذا الشَّكلُ التواصلي الإنساني مع العالم بابًا لموضعةِ القيم الجماليَّة في إطار المنفعة.
جذب جمالُ الأحجار الكريمة الإنسانَ لمحاولة الكشف عن سرِّها ونسج الحكايات والأساطيرِ حولها، فعلاقة الإنسانِ مع الحجارةِ تنقَّلت بين علاقة مكانية باتخاذه الجبال مأوى والصخور، وعلاقة أداتية للدفاع عن النفس وإشعال النار، إلى علاقةٍ بين عبد بمعبود انتقى لهُ ما استحسن من الأحجار، وهو انتقاءٌ يُخضع حتى المعبود لمبدأ الجمال، فـ"العرب لم يعبدوا كل صنف من الحجر، بل ما استحسنوا من الحجارة وما أعجبهم منها، ومعظم تلك الحجارة المختارة كانت بيضاء اللون"1 كما رَبط العربي قديما الأحجار القريبة منه التي ظنّها تحت سيطرتهِ بالنجومِ والكواكبِ البعيدةِ عنهُ كنوعٍ من التجسيد والإيمان بترابُط العالم وكُلِّيته. فوقائع الحياة اليوميَّة وتعاملاتها حتى يومنا هذا "تشهدُ أن مظاهرَ عمل الإنسان ووعيه منذ بداياتها الأولى ذات علاقة بالمشكلة الجماليَّة"2.
ويمكن الزعم بأنّ العلاج بالأحجارِ الكريمةِ علاجٌ بالجمال والتوهُّج، وهما خاصيَّتان تبعثان الشعور بالحياة والرغبة فيها، فيبدو العلاجُ بالأحجارِ علاجًا رمزيًا يتحققُ استجابةً لغريزةِ البقاءِ واستجابةً للدِّلالة الرمزيَّة لهذه الأحجارِ، وحين تسمَّت بالكريمة لتميُّزها عن غيرها وندرتها، ويمكن تعليل التسمية أيضًا لكونها تُكرِم الإنسانَ المتحلِّي بها بالمكانةِ واستحسان النَّاس واستيهام العافيَة، ومن ذلك مثلًا، أنّ البيروني أخضع الزُّمرد للتجربة، ووضعه أمام الأفعى، يقول سعيد الغانمي: "كالأفعوان إذا لاقى زمردةً... فانساب خوف ذهاب العين والبصر" ففشل الحجر في صرفها3.
فالحديث ليس حول قدرتها الفعليَّة على الشفاء -بما تحمله الكلمة من أبعاد نفسية- وإنما قدرتها بوصفها رمزًا على استدعاء تجليات الشفاء وتقريبه.
وربما سوَّغ إيمان الإنسان بالقوة الشفائية للحجارة؛ لكونه جزءًا من الطبيعة المكوِّنة لها، وعليه أعارَ الإنسان انتباههُ للحجر أو الشجر أو غيرها من مظاهر الطبيعةِ لا ليرى الصفات الموضوعيَّة لها؛ وإنما ليرى تأثيرها النافع أو الضار بالنسبة له هو عندما يلامسها، فيصبح للأشياء إمكانات خفية تؤثر فيه، وكل شيء بالنسبة لوعيه يمكنه التحوُّل إلى شيء آخر واستعارة صفات شيء آخر، مما يولّد خيالات لا نهائية وحرّة تشهد عليها الأساطير والحكايات التي ابتدعها الوعي البشري في وحدته البهيجةِ مع الطبيعة، فالعالم كائن حي مترعٌ بالتقلبات الغريبة؛ وهذا ما شكل الخطوة الأولى والعظمى على طريق إدراك العالم روحيًا ومعرفته في كنهه4.
تحضر الأحجار الكريمة في أوصاف الجنة، من حُليِّ أهلها وبيوتها وحورياتها، وهي دارٌ لا شقاء فيها، والولع والإيمان بالحجارة الكريمة وشبه الكريمة ارتبط بالولع بالجمال وإمكانية تحقق التشافي بما هو جميل من جهة، والإيمان بمنفعة الجمال من جهةِ دخول كثير من هذه الأحجار في علاج الأمراض، إما بعد سحقها أو باستخدام منقوعها أو بوضعها على الجزء المتضرر من جسم الإنسان أو بتعليقها كتميمة أو بحمل مواليد كل برج/شهر الحجر المرتبط بأفلاكهم ليحفظ عليهم الصحة.
كما اعتاد المصريون القدماء ارتداء الأحراز والتمائم المتشكِّلة من الأحجار الكريمة للوقاية من الأمراض وعلاجها، كرأس ابن آوى الذي اعتقدوا أنه يفتح الطريق في الصحراء، كما يجد الإنسان -برأسه- طريقه في الآخرة فصنعوه من العقيق5، وقيل من خواص العقيق الأمان في السفر.
وقد تطورت ممارسة الطب عبر التأثير العربي الواسع لتشمل تقديم علاجات غريبة يبرز فيها دور الجواهر، وماثلت قوة الإيمان بدورها قوة الإيمان بالأجرام السماوية6، فجعلوا لكل برجٍ سماويٍ مجموعة أحجار تؤثر بالصحة والخير في مواليده، فمن الأبراج النارية (الحمَل) ومما له حجر الدم الذي يوقف نزف الدم، ومن الأبراج الترابيَّة (الثور) وله الفيروز الذي يحفظ السعادة بين الزوجين، ومن الأبراج الهوائية (الجوزاء) وله الياقوت الذي يعطي الكُتَّاب منهم فصاحةَ اللِّسان، ومن الأبراج المائية (السرطان) ومما له الزمرد الذي يمنحه الحظَّ الوفير7.
ويرى أحد علماء الهنود "فيجايا كومار" أنّ ميزة الأحجار الكريمة في قوتها المغناطيسيَّة وقدرتها العلاجيَّة بواسطة ما ينبعث منها من إشعاعاتٍ وما تحدثه من توازن بين الجسم والروح8، كأن جسم الحجر الترابي الأصل نموذج مصغر لجسم الإنساني الترابيّ.
ويهبُ الياقوت صاحبه مهابة وأبَّهة وينبل في أعين الناس، ومنقوعه يحمي من أرواح السوء ويقوي القلب ويمنع نزيف الدم إذا عُلِّق، كما العقيق ومن تختم بالعقيق سكنت روعته عند الخصام9 فلا يتسرَّع ويُسيء.
والألماسُ خاصٌ بالملوك لشرفه وهو من السموم القاتلة حيث تخرق قطعة صغيرة منه جوف الإنسان، ويمتاز بتعرُّقه عند احساسه بالطعام المسموم، أما الفيروز فيقوي البصر ويجلوه ولا يصيب المتختم به آفة من قتل أو غرق ويُغني المتختِّم به، ويسمى الفيروز أو الفيروزج حجر الغلبة والجاه تفاؤلًا به؛ لأن معنى اسمه بالفارسيَّة النَّصر10، وفي حين أن الخسارة تورِّث الهوان، اتُخذ حجر الجمشت حافزًا للنصر عند الإنسان العربي القديم الذي زين به آلات الحرب وأسلحتها، وإذا طُرح منه قطعة في الكأس قوى الدماغ11.
والزبرجدُ يورّث لبسه حسب التيفاشي العفاف ويشرح الصدر12، أما اللؤلؤ فينفع في خفقان القلب من الخوف والجزع ويدخل في أدوية العين ويذهب البرص ويُسكن ماؤه الصريع كما يحسن الوجه ويفرح القلب13، واللافت أن "يُرجع الشعراء في بلدان عديدة أصل اللؤلؤ إلى الدموع- دموع الملائكة، وحوريات الماء، والفاتنات والمخلصات والمتفانيات"14، وتماسُّ اللؤلؤ مع الدُّموع دلاليًا ينبّه إلى التطهُّر والتشافي بالبكاء.
ومن عُلِّق عليه البلور لم ير منام سوء، وحجر القمر الذي يشبه لونه القمر، يُعالج الكلى ويصرف الوسواس ويمنع الخفقان ويُطمئن المفزوعَ ويجمع شمل المحبين ويقرب بينهما15، وكثيرًا ما ارتبط القمر بالسهر والشكوى من الفقد.
هذه الأحاسيس التي تُعطيها الحجارة عائدةٌ لكونها تشعر أيضًا، ولشعورها وجهٌ متمثل في المسخ والإيقاف، ووجهٌ متمثل في الشفاء والمعونةِ حين يكون جميلًا.
وبين كل هذه الأساطير، ظنّ العربي قديمًا، وغيره من الأمم، أنّ لهذه الأحجار قدرات مختلفة، بقي من آثار هذا الظن مادة وفيرة لحبائل الشعوذة، ووسائل الحيلة على عقول تخيّلت الجمال إكسيرًا للشفاء وإن لم تشفَ به. وكأنّ سرّ الجميل يفتن حتى سقم الأبدان.
خان، محمد عبد المعيد، الأساطير والخرافات عند العرب، سوريا: منشورات وزارة الثقافة، ط4، 2007، ص107.
غاتشف، غيورغي، الوعي والفن دراسة في تاريخ الصورة الفنيَّة، الكويت: عالم المعرفة، د.ط، 1990، ص12.
البيروني، أبو ريحان محمد بن أحمد، الجماهر في الجواهر، إيران: شركة النشر العلمي والثقافي، ط1، 1995، ص272.
غاتشف، غيورغي، مرجع سابق، ص20.
ينظر: عقيل، محسن، موسوعة الأحجار الكريمة المصورة، لبنان: دار المحجة البيضاء، ط1، 2007، ص158.
كونز، جورج فريديرك، وستيفنسون، تشارلز، كتاب اللؤلؤ، الإمارات: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ط1، 2012، ص42.
ينظر: عقيل، محسن، مرجع سابق، ص163-164.
عقيل، محسن، مرجع سابق، ص168.
ينظر: البيروني، أبو ريحان محمد بن أحمد، الجماهر في الجواهر، إيران: شركة النشر العلمي والثقافي، ط1، 1995، ص154، والجميلي، السيد، الأحجار الكريمة، مصر: مكتبة مدبولي، ط1، 1999، ص47، 81.
ينظر: البيروني، سابق، ص276-277.
الجميلي، السيد، مرجع سابق، ص106، والبيروني، مرجع سابق، ص308.
الجميلي، ص51-55.
إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، ج2، مؤسسة هنداوي للنشر، ص91، والأبشيهي، مرجع سابق، ص390.
كونز، جورج، وستيفنسون، تشارلز، مرجع سابق، ص61.
الجميلي، ص115-148.
Comentarios