عبير بامفلح
كاتبة وصحفية سعودية في مجال الثقافة والفنون
الحديث عن الألماس يضفي شعورًا بالرفاهية والحياة المنعمة، فهو الحجر الأغلى على الإطلاق ورفيق البدايات السعيدة ورمز الحب والأصالة والسلطة والجمال، لكنه أيضًا يحمل وجهًا مظلمًا جعله مستحقًا للقب "ألماس الدم".
في عام 1990 بدأت الحرب الأهلية في سيراليون، وإن كنت تسمع اسم هذه الدولة لأول مرة فهي تقع على الساحل الجنوبي الغربي لغرب إفريقيا. تُعدّ سيراليون منتجًا رئيسًا لعدة معادن وعلى رأسها الألماس، فاسمها على قائمة أكبر عشر دول منتجة للألماس في العالم. أثناء الحرب الأهلية كانت الجبهة الثورية المتحدة تُهرّب الألماس مقابل الأسلحة التي تستخدم ضد المدنيين، في واحدة من أكثر حركات التمرد وحشية في التاريخ الحديث. ومن هنا أصبح يطلق على تجارة الألماس التي تغذي الحروب لقب "ألماس الدم" أو "الألماس الدموي".
تتبّع جريج كامبل في كتابه ألماس الدم "Blood Diamonds" تجارة الألماس من حين استخراجه في سيراليون حتى وصوله إلى الأسواق العالمية، بكل ما تحمله هذه الرحلة من أحداث وتداعيات وسياسات أسهمت في تأجيج الحرب، وجعلت هذا البلد الغني بالمعادن من أشد دول العالم فقرًا.
بدأ كامبل كتابه بمشهد مروع، كنت أنوي أن أبدأ به مراجعتي للكتاب، لكني ارتأيت أن أمهد لكم قبل أن أضعكم أمام هذا المشهد. يقول:
فقد إسماعيل يده في عام 1996 بضربتين سريعتين من فأس. هو لا يستطيع تذكر الألم لكنه يتذكر أن مجموعة من المراهقين أمروه تحت تهديد السلاح أن يضع معصمه على جذع خشبي يقطر دمًا. جيرانه حوله يتأوهون محاولين إيقاف تدفق الدم. لم يحاول إسماعيل أن يستجديهم وإنما وبكل هدوء نزع من إحدى أصابع يده اليسرى الخاتم المعدني الذي صنعه له ولده ووضعه في جيبه. كانت تلك آخر مهمة أدتها يداه.
كان الجميع يعرف أن من يسيطر على الألماس سيسيطر على الحرب، لذا تقاتلت الفصائل المتمردة من أجل السيطرة على معاقل الألماس وأهمها مدينة كويدو. كانوا يداهمون مناطق متفرقة، يبترون أيدي الناس ليمنعوهم من استخراج الألماس وليبثوا الرعب في قلوبهم. كان يُخطف الأطفال والمراهقين ويُدربون على أشد الأعمال وحشية ثم يضمونهم إلى جيش المتمردين ويسخرون الرجال لاستخراج الألماس، إضافة إلى القتل العشوائي وتدمير القرى. أدت تلك الصراعات إلى قتل نحو 75 ألف شخص ونزوح أكثر من ثمانين بالمئة من السكان، وعانى أكثر من ثلث السكان من عاهات جسدية.
استطاع كامبل في كتابه أن يضع القارئ في قلب المشاهد المروعة، وأن يرسم صورًا من الحياة اليومية الصعبة في سيراليون، بداية من الطقس الرطب الذي يسهم في تفشي الأمراض وخسارة الأرواح، إلى انعدام البنية التحتية، فالمياه الجارية محدودة والكهرباء متوفرة فقط لمن يستطيع شراء المولدات، وفي المقابل تنتشر البطالة والجهل والمخدرات.
بطبيعة الحال لم تكن الحرب هي السبب الوحيد وراء تدهور الأوضاع وإنما كانت المرحلة الأسوأ في تاريخ سيراليون. هذا الألماس ظل نقمة على سكان سيراليون منذ اكتشافه في عام 1930. حينها كانت المنطقة تحت الاستعمار البريطاني الذي عقد اتفاقًا مع شركة سيلكشن المحدودة لاحتكار استخراج الألماس. بعد استقلال البلاد عام 1961 استخدمت عائدات الألماس لإثراء أعضاء الحكومة ونخبة رجال الأعمال المقربين، وكانت تستحوذ عليه شركة تعدين الألماس الوطني، وهي مشروع مشترك بين الحكومة وشركة دي بيرز. انسحبت شركة دي بيرز من المشروع عام 1984 لأنها لم تكن قادرة على تقييد تهريب الألماس. في نهاية الثمانينيات فقدت الدولة السيطرة تمامًا، وأصبح يُهرّب كل الألماس ويتداول تقريبًا في سيراليون بصورة غير قانونية. يستطيع أي شخص باستخدام مجرفة ومنخل الوصول إلى الألماس الرسوبي الراكد في مستنقعات الغابات المطيرة، لدرجة أنه أصبح يتداول وكأنه عملة ورقية.
الحديث عن الألماس يوجب الحديث عن شركة دي بيرز، التي خصص لها كامبل جزءًا من الكتاب تحدث فيه عن تاريخ هذا الغول الذي احتكر السوق لسنوات طويلة. تطرق إلى الحملات التسويقية التي حولت الألماس إلى ما يسمى بتجارة الرومانسية، وتحدث أيضًا عن السياسات التي اتبعتها الشركة لتحافظ على سعر الألماس بما في ذلك السماح بتداوله بطرق غير مشروعة ومنظمة في الوقت نفسه. وهنا قد نتساءل عن السبب الذي جعل أسماء معروفة تورط نفسها في تجارة غير قانونية؟ يقول كامبل في كتابه: إن سعر الألماس المهرب يعادل 10% فقط من سعر الألماس القانوني.
يتولى السكان المحليون مهمة استخراج الألماس مقابل أسعار زهيدة, كما يستخرجه الرجال المسخرون لدى المتمردين. ينتقل بعد ذلك إلى أيادي التجار الصغار من جنسيات متعددة. قد يُقبض عليهم من المجموعات الحكومية ولكنهم يستطيعون استصدار شهادة تثبت أنه مرخص بمبلغ مالي. يجد هؤلاء التجار طريقة ما لتهريبه خارج البلاد، وأشهر أساليب التهريب تلك هي بلع الألماس. استوقفتني قصة امرأة فقدت عينها فاستبدلتها بعين زجاجية، وكانت تُهرّب الألماس داخل عينها الزجاجية. ينقل المهربون الألماس خارج سيراليون إما عبر الحدود إلى البلاد المجاورة، مثل: ليبيريا وغينيا ويُسجل بصورة قانونية وكأنه استُخرج من تلك البلاد، أو يُرسل إلى بلاد يُصقل فيها، مثل: الهند أو بلجيكا، لتنتهي رحلته في نيويورك أو لندن أو مناطق أخرى من العالم. لم يركز الكتاب فقط على تهريب الألماس في سيراليون وإنما سافر خارج حدودها ليكشف أن تجارة الألماس تغذي صراعات أخرى في مناطق مختلفة من العالم. يستخدم الألماس أيضًا في التبادل التجاري لسلع غير قانونية مثل المخدرات، كما يستخدم في تدوير الأموال مشبوهة المصدر.
خفف من وطأة طرح الكتاب استعانة كامبل بقصص وشهادات مختلفة من السكان المحليين والمهربين وحتى المتمردين. كما أسهم أسلوبه الصحفي أيضًا في سهولة تتبع المعلومات والأحداث، فجريج كامبل هو صحفي أميركي مستقل، كتب لعدد من المنشورات وحاز على أكثر من عشرين جائزة صحفية ولديه أيضًا عدة مؤلفات. ومن وحي هذا الكتاب أُنتج فيلم سينمائي بعنوان مقارب "Blood Diamond" من بطولة ليوناردو دي كابريو. حاز الفيلم على عدة ترشيحات لجوائز الأوسكار لعام 2006. تمنح مشاهدة الفيلم فكرة عامة عن مفهوم "ألماس الدم" وتداعيات الحرب الأهلية في سيراليون، لكنه مطروح من وجهة نظر الأجنبي المنقذ على عكس الكتاب الذي يغوص في أحوال سيراليون ويطرح تفاصيل عدة حول الموضوع.
كان كامبل يقول إن الحل لوقف تهريب الألماس هو إنهاء الصراعات. في عام 2002 أي بعد عقد من الزمان، انتهى الصراع في سيراليون لكن الصراعات ما زالت قائمة في إفريقيا وأماكن عدة حول العالم. في عام 2003 وقعت العديد من الدول على مخطط تنظيمي لوقف تدفق الألماس الممول للصراعات "عملية كيمبرلي"، لكن هذه الاتفاقية لم تنهي هذه الأزمة. يرى كامبل أن على المستهلك أن يطلب الشهادات التي تثبت منشأ الألماس، مع ذلك يقول إنه من الصعب تتبع رحلة ألماسة تتنقل بين عدة أياد حتى تصل إلى وجهتها الأخيرة في خاتم أو قلادة نقتنيها.
نشر جريج كامبل كتابه ألماس الدم عام 2002 واليوم تلجأ حكومة سيراليون إلى الاستثمار الأجنبي في مجال التعدين، وما زال سكان مناطق الألماس يسخرون حياتهم من أجله بمقابل بسيط، وما زال يباع بثمن بخس للماركات العالمية التي ستبيعه بمبالغ باهظة جدًا.
Comments