top of page
  • سياق

المقال | الأحجار

عبدالله ناصر


ما أقدم الأحجار! إن يدًا تتحسس الحجر بأصابعها تكاد أن تتحسس الزمن نفسه. كانت الحجارة قبل ذلك مُبتلّةً كطين الوحل كما تخيل رؤبة بن العجّاج الأزمنة الأولى. 


الحجر أول سلاح عرفه الإنسان إذ لم يخطر في بال قابيل وقتذاك أن يديه يمكنهما أن تخنقان أخاه حتى الموت. سيمضي الكثير من الوقت حتى ينتبه الإنسان إلى النار الكامنة في الحجر. سيطرق ويطرق ويطرق حتى يتطاير الشرر. لا شك أن حجر الصوان هو أول قدّاحة في التاريخ. وسيجمع الحجارة ليبتني مأوى صغيرًا يلتجئ إليه، ثم يُشيِّد البيوت ويرفع الأسوار ويبتني القلاع ويصل الضفاف بالجسور الحجرية حتى يأتي ذلك اليوم الذي لا يحتاج فيه إلى جمع الأحجار إلا لتكدير صفو البحيرة، أو لتنبيه شُبّاك الحبيب المغلق. 


كانت الأحجار في الأزمنة البعيدة كلها كريمة. وهل أكرم من الرحى؟ إنما اخترع تلك التصنيفات الطبقية جشع التجار -بإيحاء من الشعراء ربما- وانطلت الخدعة كالعادة على العشاق. ألا إن حجرًا يقف على قبور من نحب لهو أغلى الأحجار.


وإذا كان الحجر رمزًا للقدم والصلابة فإنه أيضًا رمز للثقل والمعاناة. لكم تخيلت في طفولتي أن أحدب الحيّ يحمل صخرة تحت جلده. لست أنسى خطوه الحثيث مطرقًا رأسه بين أزقة الحي المتربة. كبرت وعلمت أن كلا منا سيحمل صخرته مثل سيزيف. ما إن يضعها ويعود حتى يجدها سبقته وسدّت فم الغار. علمت أيضًا أن الحدبات أكثرها لا يُرى.


للكوبي فيرجيليو بنييرا قصة قصيرة عن رجل عقد العزم على أن يلتهم جبلًا طوله ثلاثة آلاف قدم. يخرج إليه كل صباح ويشرع في مضغ كل ما يدنو من فمه لساعات متواصلة ثم يعود إلى البيت بجسدٍ منهك وفكٍّ مُتعب. وبعد استراحة قصيرة يجلس عند المدخل ويتأمل الجبل الذي أخذ يتضاءل وإن لم يبد ذلك النقصان واضحا بعد للعين المجردة. يومًا ما سيختفي الجبل ولن يُصدِّق الناس أنه وراء ذلك إذ سيعزون الأمر كله إلى اضطراب جيولوجي. 


ساقتني الصدفة مؤخرًا في رحلة عمل قصيرة إلى منطقة الجوف للمرور بجانب أعمدة الرجاجيل الحجرية. دعوت زميلي للوقوف عليها قليلًا فاستجاب على مضض وذكّرني بالفروقات الجوهرية بين رحلات العمل والرحلات الأخرى. 


يقع المعلَم الأثري الشهير فوق هضبة رملية في الجنوب الغربي لمدينة سكاكا. تقول هيئة الآثار إن عمر الأعمدة الحجرية يبلغ نحو ستة آلاف سنة، وهي من المواقع الأثرية القديمة جدًا في الجزيرة العربية إن لم تكن الأقدم. ربما كانت أحجار معبد قديم كما هو حال قريباتها في الشمال الإنجليزي (ستونهنج) أو لعلها نُصِبت هناك لقياس الوقت أو لحسابات فلكية. يبلغ عدد الأعمدة نحو خمسين عمودًا ولا يزيد طول العمود الواحد أكثر من مترين أو ثلاثة أمتار. تبدو من بعيد مثل جماعة من الرجال الواقفين ولهذا أُطلق عليها ذلك الاسم، أو ربما من الأسطورة الشعبية التي تزعم أن تلك الأعمدة الحجرية رجالٌ في الأصل. هكذا تعمل مخيلة النحات بالمناسبة، إنه يرى بوضوح جليّ ما وراء الأحجار. 


تذهب الأسطورة الشعبية إلى أن تلك الأعمدة الحجرية ليست سوى رجالٍ أنعم الله عليهم فكفروا بنعمته حتى بلغ بهم السرف إلى الأكل بملاعق من ذهب فعاقبهم الله وحوّلهم إلى أحجار. يرجّح زميلي هذه الأسطورة ويدعمها بأسطورة أخرى عن أطنان الذهب الذي تكتنزه جبال الجوف. ويضيف في شيء من اليقين: "لقد أطار التنقيب عنها كثيرًا من العقول. اسمع. أغلب المجانين هنا إنما فقدوا عقولهم لهذا السبب. فالذهب يحرسه الجنّ، وإن سها ساعةً وغفل عنك فلن تغفل عنك الحكومة". 


إذا تأملنا الأسطورتين السابقتين سنرى الذهب يقود في النهاية إلى الجنون أو إلى التحجّر، وقد يقود إلى القتل كما وقع في رواية (كنز سييرا مادري) لبرونو ترافن. كان المنقبون عن الذهب يفجرون الجبل بالديناميت، ولما قال الرجل لزميله إنهم قد جرحوا الجبل أجابه معاتبًا ولماذا تتحدث عن الجبل كأنه امرأة من لحمٍ ودم؟ سيعثران بعد جهد جهيد على الذهب فيقول الأول إن هذا الذهب يكفيه ليعيش هانئًا طوال حياته، ويرد الثاني بِخِسّة بشرية معهودة: "أما أنا فلا يكفيني. أنت كهل وأنا شاب، أحتاج إلى أضعاف هذا الذهب لأعيش في رخاء". سيقتل أحدهما الآخر في النهاية. كان جان جاك روسو يرى أن الطبيعة على حق حين أخفت ثرواتها بعيدًا عن عيون الإنسان الجشعة. 


عندما وقفت قبالة أعمدة الرجاجيل تذكرت تميم بن مقبل وأمنيته الشهيرة الشاخصة أمامي: "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر / تنبو الحوادث عنه وهو ملموم". أملموم هو حقًا؟ ليس هذا ما يعتقده نيتشه إذ يقول: "مع أن الأحجار لا تسمع ولا ترى شيئًا، فكل حجر ٍيبكي بصمت، ويقول تذكروني، تذكروني".


في الشهر الماضي رحل الروائي والشاعر الألباني القدير إسماعيل كاداريه. لطالما تصدر ترشيحات نوبل في العقد الماضي. ما أغناه عنها اليوم. كان قد كتب قصة مدينة الحجر عن مسقط رأسه جيروكاسترا. مدينة حجر تبدو كأنها من مدن ما قبل التاريخ. مدينة مائلة تحدّت قوانين العمارة وتخطيط المدن حتى إن سطوح بعض البيوت تلامس في بعض الأحيان قواعد بيوت أخرى. لو انزلق أحد المارة لأوشك أن يجد نفسه فوق سطح أحد الجيران. وهذا ما كان يحدث للسكارى بين الحين والآخر. تندلع الحرب العالمية فيتناهب الطليان مدينة الحجر، وسرعان ما ينتزعها اليونانيون منهم فالألمان فالثوار فالحلفاء. وفي تلك الأثناء ينزح السكان كما نزحوا من قبل إما بسبب الطاعون وإما بسبب الحرب فتبقى المدينة رهنًا للحجر. فكأنها لا تنتمي لمن يتنازعون عليها، ولا تنتمي إلى أبنائها بقدر ما تنتمي إلى الحجر نفسه. 




كاتب ومترجم سعودي. نشر مجموعتين قصصيتين "فن التخلي" و"العالق في يوم أحد". تُرجمت قصصه إلى بعض اللغات. ينشر مقالاته في مجلات سعودية وعربية.


أحدث منشورات

Comments


bottom of page