top of page
  • سياق

تشكيل | اللحنُ رَسمًا

نوف السماري

فنانة تشكيلية



يُحكى بأن الفنون جميعها التي يقدمها الإنسان هي محاولات طموحة للوصول إلى ما تصل إليه الموسيقى في البحث عن التناغم، سواء بالشكل أو المعنى بين الكلمة والصور وحتى التمثيل.. ذلك جميعًا يتقصى الوصول إلى جمالية النغم واتساق تأثيرها في أعماق الإنسان. يؤكد الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" على ذلك إذ هو من قال "إن كل الفنون تطمح أن تكون مثل الموسيقى". من يعزف الألحان والموسيقى لا يعطل فنه أي وسيط لنقل صناعته إلى الجمهور لأنه يستطيع نقله إليهم بشكله المباشر دون تفسير، ويمكنه أن يكون حرًا تمامًا باستخدام النغم وسلالمه، كما يحدث عند الفنان التشكيلي الذي يشكل الخطوط والألوان لإظهار عواطفه الإنسانية والإبداعية. ويُذكر أن الناقد والباحث المصري د. محسن عطيه قد عرج على مسألة أن الموسيقى والفنون البصرية وجهان ثقافيان يعكسان  تنوع الثقافات للحضارة الإنسانية منذ أزل التاريخ، وأن لكل ثقافة تفسيرها الخاص نحو خلق وتقديم هذين الفنين بطريقة إبداعية، كما أن للبيئة والمجتمع تأثيرهما الذي يقف وراء اختلاف قدرة أنواع معينة من الألوان والأضواء والأصوات على استحضار مشاعر محددة في وجدان البشر ونفوذها من خلال قدراتهم. 


كلود ديبوسي  –  كلود مونيه


على مر التاريخ، استلهمت الفنون من بعضها  امتدادًا للمساعي الفنية. فقد ازدهرت الانطباعية وفنونها  في القرن التاسع عشر حتى تحولت إلى أسلوب وجمالية مماثلة في الموسيقى؛ مما عكس تأثيرًا قويًا على الكُتّاب الموسيقيين، ويمكن ملاحظة ذلك في الطبيعة الأثيرية للوحات محددة  بين عصور مختلفة. نلاحظ ذلك في الطبيعة الحالمة بين لوحات كلود مونيه وألحان كلود ديبوسي في شكل فنون فرنسا آنذاك، وكأنها موجة عامة انعكست في صناعة أغلب الفنون. ولو شئنا اقتناص التشابه بين عملين لكلا "الكلودين" من لوحة "انطباع الشروق" لمونيه، التي رُسمت في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر، منظرًا لميناء لوهافر الواقع في شمال غرب فرنسا، حيث يمكن رؤية شخصين في زورق التجديف في المقدمة،  بينما في الخلفية توجد سفن وقوارب أكبر تسكن المرفأ. الرافعات والآلات الثقيلة الأخرى ومداخن المصانع مكملة للمشهد وأبرزها أن الشمس مكتملة باللون البرتقالي الباعث للحياة بين شفافية الضباب لتقترب إليها مقطوعة ديبوسي وكأنها تترجم اللحن في ألوان مونيه وهي معزوفة "إبحار Voiles"؛ مقطوعة موسيقية منفردة للبيانو من عام 1909، صنع فيها ديبوسي شعورًا بالغموض والسكون والهدوء لنشعر من خلالها كما لو أننا نطفو على موجة من الصوت، محمولين دون جهد على الماء في جو حالم كأنما نبحر في قارب محاط  بجو ضبابي، ويبدو الأمر كما لو أننا نراقب المشهد من خلال ستار، كما لو أن أعيننا لم تركز في شكل محدد، وحتى الشمس لا تستطيع اختراقها بالكامل، ولكنها تلقي فقط وهجًا برتقاليًا مثيرًا على المياه المتموجة.


"انطباع الشروق" كلود مونيه


في مرحلة الفن الحديث أو كما سمي وقتها Art Nouveau نجد ذلك الانعكاس في السمة العامة لمرحلة فنية ما، كما حدث في المرحلة الذهبية بين الفنان جوستاف كليمت والفنان جوستاف ماهلر، فقد رسم كليمت لوحة بعنوان "بيتهوفن فارسًا" للمشاركة في معرض ذكرى وتحية لبيتهوفن في متحف سيسشن في فيينا، وقد استوحى اللوحة كاملة بشخصوها من السمفونية التاسعة لبيتهوفين، غير أن الشخص المرسوم لم يكن بيتهوفن بل جوستاف ماهلر، وكانت علاقتهما مبنية على الاحترام إذ كانا من أبرز الفنانين النخبويين في تلك المرحلة، وكان معروفًا أن ماهلر يُعدّ نفسه تلميذًا لبيتهوفن، ويعبر دومًا عن إعجابه به كمعلم. وكان من بين الفنانين الذين شكلوا معالم تلك المرحلة إيجون شيليا وكوكوشكا وألما ماهلر.



عمل جوستاف كليمت  في متحف سيسشن  "إفريز بيتهوفين"   


  الفارس بيتهوفين – التي يقال إنها صورة لماهلر


وفي تجربة فنية أخرى نجد الكثير من الرسامين يعتمدون على أثر الموسيقى في رسم لوحاتهم. على سبيل المثال كاندينسكي وما شعر به وعبّر عنه من رؤيته للموسيقى بشكل ملون، حيث كانت أعماله تحمل فكرة تمثيل صوت لآلة موسيقية، وقد أثبت عدد من علماء الأعصاب هذه الحالة تحت اسم الحس المرافق، أو "السينثيسيا" التي تتمثل بأنها حالة من امتزاج الحواس ببعضها، كأن يرتبط التذوق بالموسيقى، أو تتداخل الحروف والأرقام بالألوان، أو تقترن بالموسيقى، كما في حالة هذا الفنان.  وتعرف الـ "سينثيسيا" بأنها الحس المواكب عند سماع الموسيقى وكأنك ترى الأشكال، أو عندما تسمع كلمة أو اسمًا وترى لونًا على الفور. وفي حالة لوحات كاندنسكي نجده يشبه اللون الأزرق الباهت بموسيقى الناي، بينما يجد في الأزرق الداكن صوت آلة التشيللو، أما إذا وصل اللون إلى أعلى درجاته اقترب من صوت الأرغن الكنسي. 


فازلي كاندينسكي



تكوين اللوحة الثامنة



الاستماع إلى شومان – فرنارد نابوف ١٨٨٣


من اللوحات التي أخذت حيزًا في مشهد الموسيقى أيضًا لوحة الفنان البلجيكي فرنارد نابوف "الاستماع إلى شومان" حيث نجد امرأة تتوسط اللوحة تستمع لموسيقى روبرت شومان، قيل إنها والدة الرسام التي تبدو وكأنها ترفض التعرف على ملامحها من خلال إخفاء وجهها وهي متلاشية وسط الاستماع للموسيقى. أما عازف الموسيقى فيطل من جانب اللوحة غير واضح للناظر  إلا من خلال ورق النوت الموسيقي والبيانو، وكأن الموضوع الأساسي هو ذلك الضياع في الموسيقى أو بشكل أدق فإن خيال الموسيقى هو بطل المشهد. يعرف الألماني روبرت شومان بألحانه الرومانسية بامتياز وأغلب معزوفاته كانت تكتب لعزف بيانو فردي.



ديفيد بوي مع إحدى لوحاته


 ومن الموسيقيين الذين انخرطوا في الرسم في مرحلة من مسيرته الفنية مغني الروك الإنجليزي المشهور ديفيد بوي، الذي وصف بأن إبداعه الفني كان تعبيرًا متشابكًا بين الموسيقى والفنون البصرية. فكان عندما يواجه عائقًا إبداعيًا في موسيقاه يستخدم الرسم لردم تلك الهوة. يقول في أحد لقاءاته: "كنت أعود في كثير من الأحيان إلى رسم الموسيقى أو تلوينها.  بطريقة ما، فإن محاولة إعادة إنشاء بنية الموسيقى في الرسم تساهم في اختراق ذلك الحائط المعيق دون الموسيقـى". لقد سمعنا العديد من المقارنات بين ضربات الفرشاة والإيقاع في الموسيقى، لكن كانت هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن موسيقي يرسم موسيقاه للعمل. يعد ديفيد بوي صاحب رؤية مختلفة وأسلوب فني متفرد. وفي أبرز مشهد لذلك في ربيع عام 1976، غادر هو والفنان إيجي بوب أمريكا وانتقلا إلى برلين لمدة عام كامل، وكان أشبه بالهروب من المشهد الفني في لوس أنجلوس، حين أتاحت له برلين الوصول إلى مساحات جديدة في إعادة اكتشاف فنه من خلال الرسم. ولم يقتصر الأمر على الموسيقى فحسب: فقد نفذ بوي عددًا كبيرًا من المنحوتات الحجرية والعديد من اللوحات الشخصية. وكان لها تأثير كبير في تأليف أغانيه حسب وصفه. وقد قدّم سبعة وأربعين عملًا فنيًا عُرضت في دار سوذبيز في لندن وأُعيدت لعائلته.


ومن الرسامين العرب المعروفين بالتركيز على شخصية موسيقية شهيرة كان الفنان السوري أسعد عرابي، الذي قدم مجموعة كبيرة  تتكرر فيها شخصية أم كلثوم بوصفها رمزًا للنهضة والثقافة لعصرها آنذاك، وكان عرابي قد صرح بأن أعماله تدور حول ما صنعه الثلاثي "أم كلثوم، والسنباطي، وأحمد شوقي". رسم عرابي مجموعة  كبيرة من الأعمال التي تعكس مشاهد متعددة لأم كلثوم بطريقة أقرب لتصوير مشاعر الوصلات الموسيقية ووقفاتها وكأنها تقف بين الألوان، فتجده حينًا يرسم عدد من أفراد الفرقة ولوحات أخرى نجد أم كلثوم منهمكة في غناء وصلتها الغنائية، ولوحات أخرى يرسم المشهد كاملًا ليطلق على المجموعة كاملة "كلثوميات". يقول عُرابي "لطالما شعرتُ بتلك العلاقة بين الموسيقى والشكل. عندما أستمع إلى الموسيقى، بوسعي أن أتخيّل أشكالًا معينة ترتسم معالمها. وعندما أتأمل المدينة، أشعر بإيقاعها الموسيقي".  



  الفنان أسعد عُرابي 




لحن الموسيقى قد يشعل لوحة، وقد تسحب ألوان الرسام وأشكاله لحنًا، لنجد كلاهما يعملان في خطين متوازيين، وكأنما شخص يقفز بين الطريقين في محاولة لاكتشاف الطريق الأكثر تجليًا وسلاسة لمرمى الفكرة أو الشعور، وليس أجمل من شعور أن تنفض يديك من عمل إبداعي وتنطلق لفضاء المعنى الذي تجاهد في اكتشاف طرقه  لتتحايل عليه سواء بالموسيقى أو اللوحة أو النص. تلك الرحلة هي رحلة تكثيف وتقطير المعنى بكل اتجاهات البحث الحثيث نحو الصورة الأكمل في إيقاعها. يقول أفلاطون عن الإيقاع: "الموسيقى هي قانون أخلاقي يمنح الروح للكون ويمنح أجنحة للعقل، تساعد على الهروب إلى الخيال، وتمنح السحر والبهجة للحياة، إنك تستطيع أن تميز الإيقاع في تحليق الطيور وفي نبض العروق وخطوات الرقص ومقاطع الكلام". وبكل اختصار، ما الفنون إلا انعكاس للحياة.









٤٢ مشاهدة

أحدث منشورات

مقدمة العدد | دَوزنة!

هيئة التحرير يخرج المولود معلنًا عن حقه في سمعنا، يصرخ فنعلم أنه بخير وصحة جيدة، فإن وُلد في سكوت، تنامت حوله المخاوف والفحص السريع لغياب...

سلالم | سردية الموسيقى

فاتن ماجد البليهشي باحثة دكتوراه في الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز إن الجدال حول أساس الموسيقى، الذي يتلخَّص في تبنِّي فريق من...

Comments


bottom of page