مها منصوري
في أحد الكافيهات الهادئة القريبة من منزلي، فتحت أول صفحة من كتاب الشاعر العراقي الراحل فوزي كريم (الموسيقى والشعر)، وبدأت عيناي بالتهام الكلمات والسطور بينما ترتشف أذناي موسيقى الجاز السلسلة التي كانت تتراقص على استحياء في المكان. بعد فترة ليست بالطويلة بدأت أشعر بنوع عجيب من التأثر والتأثير المتبادلين بين كلمات فوزي كريم عن فعل الموسيقى في النفس، وتلك الجمل الموسيقية التي كنت أستمع لها في الوقت ذاته. أقرأ السطور فأرى بعين عقلي كلمات أغنية الجاز ولحنها يتفاعلان تفاعلًا مصدقًا لما بين يدي من الصفحات... تجربة أشبه ما تكون بتجربة زرع حلم داخل حلم في فيلم inception للعبقري كريستوفر نولان.
إن كان نولان عبقريًا في فن السينما فلا شك أن فوزي كريم عبقري في فن الكلمة، ولا شك أن معرفته الموسيقية بحر واسع لا قرار له! معرفة أبهرتني وعرّت في الوقت نفسه جهلي العميق بالموسيقى... وأنا التي كنت أظن أن لي ثقافة موسيقية لا بأس بها.
قسم فوزي كتابه إلى ثلاثة أقسام تبدو للقارئ المتعجل وكأنها بلا رابط، ولكنها في الحقيقة تشبه موسيقى الجاز ... يظن المستمع أن جملها اللحنية متنافرة لا رابط بينها، في حين أن كل نوتة فيها مدروسة بعناية لتشكل في النهاية لوحة متناغمة. يبدأ فوزي بشكل كرونولوجي من البداية ليتساءل سؤال البيضة والدجاجة: أيهما سبق الآخر؟ الموسيقى أم الشعر؟ هل كان "البدائيون يغنون لبعضهم البعض من أجل التعبير عن عواطفهم، قبل أن يبدؤوا الحديث مع بعضهم البعض من أجل التعبير عن أفكارهم؟". أم أن الشعر والموسيقى بدآ شيئًا واحدًا ثم حدث الانفصال؟ أيًا تكن الإجابة فإن ما لا شك فيه أن الموسيقى والشعر ارتبطا ارتباطًا وثيقًا على مر التاريخ وحتى في الأسطورة كما يشير الكاتب بالحديث عن أسطورة أورفيوس الإغريقي الموسيقي والشاعر الذي أخذ الموت منه زوجته فتمكن بمزيج شعره وموسيقاه من أن يسحر حتى هيديز ملك العالم السفلي ليلبي الأخير طلبه، ويعيد إليه زوجته في رمزية بديعة لقدرة الاتحاد بين الشعر والموسيقى على التسامي بالإنسان حتى فوق الموت نفسه.
وبعيدًا عن الشعر، يطرح فوزي كريم سؤالًا عن نشأة الموسيقى؛ هل كان منبعها تجربة داخلية شعورية بحتة أم هي في مكان ما خاص بها بين الشعور والفكر لا يشاركها فيه أي نشاط بشري آخر؟ هل هي إبداع بشري خالص أم محاكاة لصوت الطير أم خليط سحري من الاثنين؟
بعد استعراض الآراء والإجابات حول الأسئلة السابق ذكرها يطوف بنا الكاتب لنتعرف على موسيقية بعض الشعراء، مثل: طاغور وإيميلي ديكينسون.. وشاعرية بعض الموسيقيين، مثل: فاجنر وشوبرت وغيرهما. ثم يصطحبنا في رحلات مكوكية بين حركات موسيقية عديدة (الانطباعية، التعبيرية، الرمزية، الرومانتيكية وغيرها) محاولًا في كل رحلة أن يسلط الضوء على طبيعة العلاقة بين الموسيقى والشعر في تلك الحركة الموسيقية. خلال قراءتي لهذا الجزء من الكتاب تمنيت لو أن للكتاب أسطوانة صوتية مصاحبة تحوي المقاطع الموسيقية التي ذكرها الكاتب بحيث تمثل كل نوع من الموسيقى التي تحدث عنها. عزائي هو أننا في زمن يسهل فيه البحث على الإنترنت عن المقاطع بأسمائها وهو ما أنصح به كل قارئ لهذا الكتاب؛ فسماع المقطوعات سيضفي على صفحات الكتاب قيمة مضاعفة وسيمكن القراء من فهم ما يريد الكاتب إيصاله بشكل أعمق. ولعلي هنا أقترح لأي كاتب يود أن يكتب عن الموسيقى أن يخصص لكتابه أسطوانة أو ملفًا صوتيًا مصاحبًا يحوي أمثلة سمعية لما يتحدث عنه في كتابه. أعتقد أن مشروعًا كهذا نحتاجه بشدة خاصة بصفتنا عربًا لتنمية ثقافتنا الموسيقية وما أسماه الشاعر فوزي كريم "دربة الأذن الموسيقية".
أما القسم الثاني من الكتاب فيقدم فيه الكاتب مقابلة بين بناء إحدى قصائده والبناء الموسيقي للسوناتا الكلاسيكية. شرح لعله يكون أكثر تقنية مما يمكن للقارئ العادي فهمه، ولكنه حتمًا يعزز لدى القارئ الشعور بفداحة جرم تسمية النثر الخالي من أي موسيقية شعرًا. أما في القسم الثالث والأخير يمتعنا الكاتب بمقتطفات من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، أشهر الكتب العربية التي تحدثت عن موضوع الغناء والموسيقيين. وركز في هذا الجزء على مقتطفات يتبين للقارئ من خلالها كيف كان الموسيقيون في العالم الإسلامي والعربي بوجه الخصوص ينظرون للعلاقة بين الشعر والموسيقى.
بعد انتهائي من الكتاب لعل لي عتبًا وحيدًا على الكاتب وهو إغفاله الحديث عن نقطة مهمة جدًا هي معضلة استحالة الحفاظ على موسيقية الشعر الأصلية عند ترجمته من لغة لأخرى.
حسنًا... نصل الآن للهدف من مراجعة أي كتاب.. هل أنصح بقراءة هذا الكتاب؟ ولمن؟ إن كنت ممن تأسرهم الموسيقى بأنواعها وترغب في توسيع ذائقتك السماعية وتعميق استمتاعك بالموسيقى والشعر فإن هذا الكتاب هو حتمًا لك. لا أعدك بفهمٍ موسيقي أفضل للمقطوعات الكلاسيكية بمجرد قراءة الكتاب، ولم يكن هذا هو هدف الكاتب أصلًا، لكني أعدك بأن هذا الكتاب سيفتح لك آفاقًا جديدة ويحفزك للبحث والتعلم الموسيقي والسماع. وصدقني؛ نحن العرب بحاجة ماسة لذلك؛ فقد أقنعني الكاتب تمام الإقناع أن الأغنية العربية حاليًا – بل ربما في كل مراحلها التاريخية - بعيدة كل البعد عن الجدية الفنية حتى حين تكون كلمات تلك الأغنية هي قصيدة فصيحة جادة؛ لأن هذه الأغنية التي تعتقد في نفسها الجدية تبدو أحيانًا كما يقول الكاتب "أكثر تهريجية من الموسيقى التهريجية الشائعة، لأنها تحاول خلق وحدة بين شاعر لا يسمع الموسيقى، وموسيقي لا يقرأ الشعر!".
Comments