د. محمد الشحات
ناقد وأكاديمي مصري
أستاذ النقد ونظرية الأدب، جامعة الشرقية، عُمان
في المستوى المفهومي، تمتلك الموسيقى أدواتها الخاصة التي لا تعرف منطق اللغات التي يتواصل بها البشر. لغة الموسيقى لا تشتغل وفق قانون إنشاء الكلمات والعبارات والجمل، بل تعمل أجروميّتها على مبدأ الصوت والزمن؛ أي أنها تصنع وجودها وتخلق عالمها من خلال استثارة حاسة السمع بوصفها بابًا للخيال الحُرّ. أما أنواع الموسيقى؛ الكلاسيكية والرومانتيكية والحداثية وما بعد الحداثية من جهة، أو الموسيقى التقليدية والموسيقى الشعبية وموسيقى الروك آند رول والبوب والجاز والهيب هوب من جهة أخرى، فهي تنويعات إيقاعية باستخدام آلات متعدّدة (نحاسية أو خشبية أو وترية أو آلات نفخ، شرقية أو غربية، آسيوية أو إفريقية) تمتاح من مرجعيّات ثقافية وأيديولوجية متباينة تُوازي حاجات الإنسان الجمالية والاجتماعية في سياقات متباينة. من جهة أولى، يتقاطع الأدبُ والموسيقَى في تأثيرهما في الوعي والذاكرة وإشعال طاقة الخيال، لكن الأدب -من جهة مقابلة- يستخدم وسيطًا آخر هو اللغة التي تتكوّن من كلمات وجمل وتراكيب وأساليب. من هنا، يمكن للباحث الثقافي مقارنة المذاهب الموسيقية والفنّية بالمذاهب الأدبية والحركات والتيّارات الجمالية والفلسفية.
تتألَّف الموسيقى من عنصرين جوهريين؛ هما الصوت والزمن. فالصوت هو العنصر الذي يستبدل الحركةَ بالسكون، أو يكسر الصمت بالصوت، بينما مَهَمَّة الزمن هي ضبط إيقاع الأصوات وأجزائها وتأديتها وفق صورة موزونة مُحكمة. كل ما في الكون خاضع لنظام التوازن. والموازين الموسيقية التي يبحث فيها مُتخصِّصو علم الموسيقى وُضِعت لكل فنَّان موسيقِيّ، وذلك بغية قياس أجزاء الصوت أو وحداته الصغرى ("نِصْف تُون" أو "رُبْع تُون")، وضبط إيقاعها، مثلما وُضِع علم العروض لوزن مقاطع الحروف وأجزاء الكلام الشعري. الموسيقَى هي تناسق الأصوات على سُلَّم الزمن وفق هيئة مخصوصة مقصودة. فكما أن للشعر موازينَ مختلفةً، هي ما يُعرف لدى الشعراء ونقّاد الأدب بالبحور الشعرية التي وضع أسسها الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170/ 173 ه)، من قبيل بحر الرجز (مستفعلن/ مستفعلن/ مستفعلن) أو البسيط (مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فاعلن) أو الكامل (متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن) أو الوافر (مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن) أو غيرها. فللموسيقَى موازينُ مختلفة المقادير ترصد نفس حركات الإيقاع وأزمنته المتنوّعة. ولهذه الموازين المقام الأول بين التركيب الموسيقِيّ وتنسيق الأصوات. وهنا، ثمة مبدأ أساس يتمثَّل في أن كل موسيقى تخلو من اتزان الأوقات وائتلاف الأصوات تُعدّ مختلَّة ولا يُعوَّل عليها في هذا الباب. هذا هو المبدأ الذي تنبني عليه الجملة اللحنيّة في النوتة الموسيقية. ولذا، يمكن القول إن وزن البحر العروضي في باب الشعر يُعادل المقام الموسيقِيّ [كمقام الرست أو الحجاز أو البيات أو السيكا أو الصَّبا أو العجَم أو الكرد] في باب التلحين والتأليف الموسيقي.
من جهة مقابلة، ثمة فنون زمنية أخرى تندرج في باب علم الأدب، يقف على قمّة نظرية الأنواع فيها جنس "السرد Narratives". وأقصد بالجنس ذلك النوع الكبير (الشجرة أو الأصل) الذي يتضمّن أنواعًا فرعية عدة تندرج تحته، سواء من حيث الطول أو القِصَر، أو من حيث المراوحة بين قيم السردية والدرامية والملحمية [كالسرود الكتابية من رواية وقصة قصيرة، وسرود شفاهية كالحكاية الشعبية والأسطورة، وسرود قديمة كـ"ألف ليلة وليلة" و"المقامات" و"الأخبار" و"المغازي والسِّيَر"، وغيرها]. السرد هو فنّ الزمن، مثله في ذلك مثل الموسيقى، لكنه فنّ يحتفي كذلك -ويتمثَّل أيضًا- طبيعة المكان بالقياس إلى فنون الحيّز كالرسم والنَّقْش. أما نوع الرواية فهي فنّ يتمثّل الزمان والمكان معًا، تمثّله البشرَ والأحداث. وما الرواية بصفة خاصة -أو السّرود بصفة عامة- إلا تتبّع لحدثٍ (أو شخصيةٍ) في زمان ومكان متعيّنين. ودالّ "الرواية" ذاته، ومثله دالّ "السرد" و"القص" و"الحكي" -وغيرها من اشتقاقات تستدعي جملة من الأفعال من قبيل "رَوَى، يروِي"، و"سرَدَ، يسرد"، و"حكى، يحكِي"، و"قصَّ يقصّ"- تُحيل جميعها إلى تشابك هذين الظَّرْفين: الزمان والمكان. ليس ثمة رواية، أو سرد، أو قصّ، أو حكي، دون تتبّع أو استقصاء لفعلٍ أو شخصيةٍ أو حدثٍ ما في زمان ومكان خاصّين. إذن: "الزمن هو الجامع المشترك الأعظم بين فنَّيْ الموسيقى والسرد".
يُعدّ الزمان بشكل ما واحدًا من أبسط مظاهر حياة البشر؛ إذ إنه ينساب تلقائيًا إلى عمق وعينا فيُحدِّد إدراكنا ومواقفنا ولغتنا، كما يقول مارتن هايدجر أو بول ريكور. ويتسم الزمان بكونه أبسط المراتب الأساسية على عكس المكان الذي ترتهن بنيته بالمشاهدة والقياس والتجرّد بعيدًا عن المألوف· وإذا كان المكان يرتبط في أذهان البشر بصفة عامة بالفراغ Space، فإن الزمان يجسِّد الحركة والنشاط الدّائبين، فضلًا عن أن الحركة ذاتها تُعَدّ حلقة وصل بين الزمان والمكان، بل إن "دراسة حركة الأجسام والإشارات الضوئية تكشف عن أنَّ المكان والزمان ما هما في الواقع إلّا مظهرين لبنية واحدة تُسمّى المكان ــ الزمان" [ب· س· ديفيز: المفهوم الحديث للمكان والزمان، الألف كتاب الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996، ص: 11·]. ومثل هذا الوعي بالبنية الواحدة للزمان-المكان هو ما دفع ميخائيل باختين، عندما كان يفكّر في الفنّ الروائي بشكل خاص، إلى نحت مفهوم "الكرونوتوب Chronotope" أو ما يسمّيه البعض بـ"الزمكان" [أمينة رشيد: تشظي الزمن في الرواية الحديثة، دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص: 11، 13·]، وكان يقصد به طَاقمًا من المظاهر المحدّدة الخاصة بالزمان والمكان ضمن كل نوع أدبي. لقد كان باختين يفهم الكرونوتوب بوصفه صِنْفًا أدبيًّا يتشكَّل من شكل ومحتوى، وهو مفهوم يُرادف -لديه- هوية "النوع الأدبي" [تزفيتان تودوروف: باختين: المبدأ الحواري، ص: 49، 91، 190·].
ثمة علاقات عدّة تجمع بين السرود والزمن، أو لنقل بين السَّرْدية narrativity والزمنية temporality. إذ لا يستطيع إنسان ما أن يسرد صورةً، أو شخصًا، أو مبنًى، أو شجرةً، أو فلسفةً ما. [مع الاحتراز بأن مفهوم السرد ذاته قد تمدّد في حقبة ما بعد الحداثة، وبات متصلًا بسرديات الذاكرة وسرود الصورة والصمت والفراغ، وفق بعض التصورات الفلسفية البينيّة]. فالسرد كلمة تتضمَّن موضوعها في معناها. ونوع وحيد من الأشياء ذلك الذي يمكن أن يكون مسرودًا. إنه "زمن الشيء" أو "الحدث". فالحدث المحكِيّ هو تمثيل سردي وثقافي لحدث حقيقي أو واقعي أو متخيَّل؛ أي أنه أيقونة زمنية. والسرد تقديم رمزي لمتوالية من الأحداث يجمعها موضوع وتتصل بزمن. ودون هذه العلاقات الزمنية، فليس لدينا سوى قائمة من الأحداث المتناثرة التي لا رابطَ بينها" [On Narrative, Edited by W. J. T. Mitchell, The University of Chicago press, Chicago and London, 1981, p. 205]. وبنية أية حكاية -منذ حكايات "ألف ليلة وليلة" أو حتى أحدث الروايات العربية أو الغربية- هي جزء من بنية العقل البشري، أو هي مقولة من مقولات العقل الإنساني. هكذا، سوف تتحوّل المعرفة الحِكائية من شكلها التاريخي أو العنصري عند فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard إلى ضرورة معرفية للعقل الإنساني عند بول ريكور Paul Ricoeur الذي يرى أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك مقولة الزمن إلا عبر الشكل الحكائي. فــ"لما قبل والما بعد والآن، كلها مقولات لا علاقة لها بالزمن السّاري اللانهائي الذي نعيشه، والشكل الحكائي وحده هو الذي يمكِّننا من الوعي بالزمن كماضٍ لحاضرٍ متجهٍ إلى المستقبل، أو بالأحرى هو الذي يشكِّل وعينا الإنساني بالزمن" [منى طلبة: مفهوم الحكاية ما بين ليوتار وريكور: وجهتا نظر لما بعد الحداثة، قضايا فكرية، الكتاب التاسع عشر والعشرون، أكتوبر 1999، ص: 432-433·]. لقد غدا تحليل عنصري الزمان والمكان في النصوص السردية الحديثة أمرًا يُجاوز كونهما "مقولتين فيزيائيّتين صافيتين"، بل أصبح يُنظَر إليهما على أنهما "زمان تاريخي وفضاء اجتماعي يستكشف تعيينهما وانتماءهما إلى سياق محدد، كما يهتم اهتمامًا أساسيًا بالتفاعل بينهما" [حسين حمودة: الرواية والمدينة: نماذج من كتّاب الستينيات في مصر، كتابات نقدية، عدد 109، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سبتمبر 2000، ص: 275-276·].
في السردية العربية الحديثة، ثمة روايات كثيرة يمكن مقاربتها موسيقيًّا؛ أقصد إلى قراءتها أسلوبيًّا أو بنيويًّا أو سيميولوجيًّا وفق نَمْذَجة موسيقية ذات إحالة إلى بعض الأشكال والتنويعات اللحنية المخصوصة. رواية "صخب البحيرة" لمحمد البساطي، ورواية "عودة الطائر إلى البحر" لحليم بركات في علاقتهما بموسيقى ريتشارد فاجنر "الهولنديّ الطائر". روايات جبرا إبراهيم جبرا ذات الأبنية الموسيقية المتوتّرة والمتشعّبة التي تقترب من تقاليد موسيقى الكلاسيك. رواية "اللصّ والكلاب" لنجيب محفوظ في علاقتها بدراما الموسيقى الجنائزية. رواية "مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة" لربعي المدهون في علاقتها بقالب الكونشيرتو الموسيقي ذي التنويعات اللحنيّة التكرارية صعودًا وهبوطًا.
Kommentarer