زين العابدين المرشدي
شاعر وكاتب عراقي، ينشر في صحف عراقية وعربية، كما فاز بالعديد من الجوائز الأدبية، المحلية والدولية.
تظل الموسيقى أقرب شيء بعد الصمت يمكن التعبير به عمّا لا يمكن وصفه، هكذا أخبرنا عنها الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي. وإن لم تكن كذلك، فإنها على الأقل تجعلنا تعساء بشكل أفضل، على حد تعبير رولان بارت. وكتلك هو الشعر فهو مستثمرها، وإنْ استثمرها بصيغتها الأولى البسيطة: الحركة والسكون في إيقاع بسيط. على كل حال استثمرها الشعر قبل أن يكون مكتوبًا أو منطوقًا حتى؛ فمنذ أن كان فكرةً كان على الشاعر أن يجد الوعاء الذي يسكب فيه ما شعرَ به، وما اعتملت فيه من عاطفة، فكانت الموسيقى الوعاءَ؛ فهي تواصله الدائم مع الكون وهي النوع المُبتَكر للتماهي معه؛ بدءًا من الأرض التي تدور وفق إيقاع محدد، وليس انتهاءً بقطرات المطر التي تتساقط هنا وهناك، وفق إيقاع مضبوط تحدده السماء، فتتمايل وفقه. الآن قربي ورقةُ التوت المُجهدة تأثرًا بالإيقاع الجديد.
قيل "موسيقا"، وقيل "موسيقى"، فالاثنتان مقبولتان في الكتابة، ولربما كانت الكلمة الثانية هي الأقرب لأسماء أجنبية دخلت العربية، لكنني فضّلت الأولى، أن أكتبها هكذا (موسيقى)؛ لأنها تبدو كما لو أنها اسم امرأة. تشبه أسماء مقصورة الألف: ليلى، سلمى، وغيرهما من الأسماء التي تغنّى بها الشعراء من العشاق القدامى، فطالما كان جميل الرسم كتابةً، والثابت منه صورةً في القلب: هو ما ارتبط بالمرأة.
يشبه الإبداعُ الأدبيُّ الاكتشافَ العلميَّ الصرف إلى حد لا بأس به من التشابه؛ فكلاهما يتولَّد عن لحظتين مهمّتين؛ لحظة انتباه المبدع إلى محيطه الخارجي، ثم تأتي لحظة لا تقل أهمية عن الأولى هي لحظة احترام ما انتبه إليه ثم تحليله، وتطويره. قد تتوفّر اللحظة الأولى في غير المبدع، لكن اللحظة الثانية الحرجة لا تتوفر غالبًا عند غيره؛ إنها مفصل الإبداع، وانعطافة السير: منها ما يستحيل مادة إبداعية، ومنها ما يأخذ دوره في النسيان. وهكذا، وبهاتين اللحظتين الخلّاقتينِ، تعامل الشاعر العربي القديم مع الموسيقى، وأدخلها إلى مَشغله الأهم: الشعر؛ فحينما انتبه إلى محيطه الخارجي، وملامح الحياة من حوله، احترم إصغاءه المولّدَ، فولّد عنه عرَوضه الشعري، عندما كان على شكل إيقاع تتناقله القبائل والقوافل، فمرة انتبه الشاعر الجاهلي إلى صوت مشية فرسه وخببه، فكان البحر الشعري (الخبب) وكتبه وفقه قصيدته، ومرة أخرى انتبه إلى مشيته هو لا الفرس، كيف أنه يُرِملُ بالمشي، يسرع، فاخترع البحر الشعري (الرمَل)، فابتكر إيقاع قصيدته وفق إيقاع قدمه.
وفق هذين البحرين الشعريين اللذين أوردتهما للمثال، ندرك أن الشاعر الجاهلي اكتشف موسيقى شعره وفق تحركات جسمه، وتحركات الكائنات من حوله، ومرئيات عالمه المختلفة، فهو شعر يحترم الحياة ومظاهرها، ولم يكتفِ باحترام الإنسان إذ يدوّنه، عبر يومياته، بل راح يدوّن الموسيقى التي سمعها أيضًا، أعني قبل أن يحددها بعلمه الخليل بن أحمد الفراهيدي. وهنا تظهر مهارة الجاهلي القديم إذ نقل موسيقى عصره إلينا، كتابةً لا صوتًا، مهارة مذهلة أن يُنقل الشيء بغير ما ينبغي له أن يُنقل به؛ الأمر يشبه مهارةَ أنْ تنقل العطر إلى الأجيال اللاحقة وتجعلهم يشمون ذات الطيب، بواسطة الكتابة، لا القارورة.
الموسيقى بوصفها الاشتراط الأول للنص الشعري العمودي، أسهمت في ازدهاره حينًا، وأسهمت في تدهوره أحيانًا؛ فإن للموسيقى، بنفس القدر الذي تحقق به هذا الاشتراط، القدر على الخداع والمراوغة؛ فيمكن للنص المُموسَّق أن يخدع متلقيه بسهولة ويسر، عزفًا على وتر عميق قد لا ننتبه له أحيانًا؛ وهو ليس الموسيقى المنُشدة ذاتها، وإنما على أثر عميق في النفس والتحسس؛ إنه الحنين لما سمعناه وانقطع عنا، كنوع من النوستالجيا، حتى يغدو الإيقاع ما يشبه المنبه، لا يؤدي دورًا إلا إيقاظ ذكرى موسيقى نائمة لقصيدة أخرى. ويستحيل بسيطًا، لا يتعدّى كونه تحسس ذكرى.
قبل أن أتعلم عروض الشعر شاعرًا، كنت ألاحظ أنني أنجذب إلى قصيدة دون أخرى. بعد أن كبرت قليلًا علمت أن معظم تلك القصائد التي كنت أحبها كانت على البحر الطويل، البحر ذي الموسيقى الواحدة، الثابتة، فيندر أن يأتي بشكل غير تام، أي أنني كنت، كأي صغير يجمع الكرات الزجاجية المتشابهة، كنت أجمع كرات الموسيقى المتشابهة التي تتدحرج من قصائد البحر الطويل نحوي آنذاك.
قد لا يقرأ كثير من جمهور الشعر القصيدة الجاهلية اليوم؛ بسبب المعجم الخشن واللفظ الوعر، اللذين شكلا عنصرين من عناصر تحقّق الموسيقى في ذلك الشعر، لكنني الآن بعد قرون تفصلنا عن ذلك الشعر، أسأل:
كيف ينبسط لفظ الشاعر الجاهلي والأرض بملامحها ورمالها تقف هضبة في وجهه؟ وكيف للفظه أن يستقيم والطرقات تتلوى من أمامه؟!
ما كانت ألفاظه الوعرة إلا تمثيلًا صوتيًّا لوعورة الطرقات التي كان يسلكها.
إنها تناسبٌ صوتي مع ما عاش، محاكاةٌ صوتيةٌ لدرب وعر تنتأ عنه الحصى، ويجفّ فيه غدير الماء.
Comments