بندر الحربي
كاتب ومترجم سعودي
يصف كتاب "الضجيج: تاريخٌ إنسانيٌّ للصوت والإصغاء" للباحث ديفيد هندي، التأثير العميق للأصوات في الإنسان، ويستعرض سلسلة واسعة من المشاهد الصوتية المختلفة التي يسمعها الناس؛ من سُعال خافتٍ يُطلقه طفل في معبدٍ، إلى زمجرة رعدٍ في سماءٍ عاصفة. كما يعرض تاريخ الأصوات وتأثيرها في حياة البشر عبر العصور المختلفة، بدءًا من الأصوات البدائية في الكهوف والمدن القديمة، مرورًا بالعصور الوسطى حيث كانت أجراس الكنائس والأديرة تسيطر على المشهد الصوتي، وصولًا إلى أصوات الأسلحة وضجيج الآلات في حقبة الاستعمار والثورة الصناعية، ثم أصوات عصرنا الحالي، حيث أصبح البحث عن الهدوء مسعًى محمودًا لوقف صخب الحياة.
سمفونية الأصوات
مما يسترعي الانتباه في هذا الكتاب، الذي ترجمتُه وصدر في 2016 عن مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، قدرة المؤلف على تحويل المشاهد المسموعة إلى نصٍّ مكتوب بأسلوب ممتع وحيوي. فقد بدأ المشروع في برنامج إذاعي عبر إذاعة (بي بي سي) الرابعة في ثلاثين حلقة، وتطلَّب إعداده جهدًا كبيرًا، إذ حمل المؤلف وفريقه مُعداتهم ورحلوا إلى أماكن متنوعة لتسجيل أصواتها، مثل: الكهوف، والغابات، وكنائس العصور الوسطى. واستعانوا أيضًا بأرشيف المكتبة الصوتية البريطانية، التي تضم أقدم التسجيلات الصوتية في العالم، وتمتلك ثلاثة ملايين ونصف مليون مادة سمعية.
يحاول الكتاب، رغم تضمينه كلمة "الضجيج" في عنوانه، توسيع تعريف تلك الكلمة وتناول اتجاهاتها المختلفة، فالضجيج هنا يشمل أنواعَ الأصوات كافة، ومن ذلك: الصدى، والترانيم، ودقات الطبول، والأجراس، وزمجرة الرعد، وإطلاق النار، وجلبة الجماهير، وقرقرة جسم الإنسان، والضحك، والأصوات الميكانيكية، وضجيج الجيران، والتسجيلات الموسيقية، والراديو. يشمل الصوت هنا كلَّ شيء، ويشكل عالمًا أوسع للاستماع، مع بروز الموسيقى بوصفها تجربة مثيرة يمكن الحديث عن تاريخها وتأثيرها في حياة الإنسان.
تحديات الترجمة
واجهني أمران أثناء الترجمة: الأول مُشابه للتحديات التي واجهها المؤلف في وصف الأصوات. لكنني استفدتُ من ثراء اللغة العربية التي تحوي مفردات دقيقة للدلالة على الأصوات، وأعتقد أنَّ هذه المفردات تُعبر بدقة أكبر عن المعاني مقارنة بالنص الأصلي. ويعود هذا برأيي إلى اهتمام الثقافتَين العربية والإسلامية بتمييز الأصوات والاستماع. فحُسن الاستماع والإنصات يُعدّ فضيلة كبرى في هاتين الثقافتَين؛ على خلاف ما نجده في تاريخ أثينا وروما، التي كانت تركز على دور الخطيب.
الأمر الثاني، أنني واجهتُ تحديًا إضافيًّا عند ترجمة النصوص التي تتناول المرجعيات الإنجيلية وعمارة الكنائس وأجراسها. فقد صُممت بعض هذه الكنائس لتكون قادرة على بعث صوت الأجراس إلى أبعد مدى ممكن؛ لخلْق تأثير صوتيٍّ أثيريٍّ، ليبدو الأمر -كما يذكر المؤلف- وكأنَّ مَلاكًا يغني للمصلين في الكنيسة. ومن ثَمَّ، بذلتُ جهدًا مضاعفًا لفهم معاني النصوص المرتبطة بهذه السياقات ودلالاتها.
ومن بين الأصوات الموصوفة في هذا الكتاب، سأستلُّ الموسيقى وأُقدّم لمحات من تاريخها وتأثيرها في حياة الإنسان.
الموسيقى في العصر الحجري
أظهر اكتشاف المزامير المصنوعة من العظام، قبل نحو 36,000 سنة، في مواقع مختلفة بأوروبا أنَّ البشر عزفوا الموسيقى. وللبحث فيما إذا كانت هناك أدوات حجرية أقدم استُخدمت لعزف الموسيقى، أجرى الباحثون تجربة ضرْب حجَر الصوَّان بطرق مختلفة. وسرعان ما اكتشفوا أنه يُصدر طائفة متنوعة من الأصوات. وعلى الرغم من استحالة إثبات استخدام هذه الأصوات في موسيقى ما قبل التاريخ، حدث شيء غير متوقع خلال التجارب؛ فعند دقِّ شفرة حجَر ممسوك بين إصبعَين، سمع الباحثون صوت رفرفة عالية النبرة يشبه صوت طير ينطلق.
في الواقع، تُعَدُّ المزامير المصنوعة من العظام المكتشَفة في جبال البرانس، بجانب دعامة مزينة، في غرفة يتضخم فيها الصوت أكثر من أيِّ جزء آخر من الكهف، دليلًا قويًّا على أنَّ الموسيقى كانت جزءًا مهمًّا من أنشطة البشر منذ نحو 20,000 سنة في العصر الحجري القديم المتأخر. ومع ذلك، لم يكن الناس في عصور ما قبل التاريخ بحاجة إلى "اختراع" مزامير العظام لصنع الموسيقى؛ فقد كانوا يمتلكون أعمدة حجرية يمكنهم ضربها، إضافة إلى أصواتهم البشرية، والصدى الرائع الذي يصدر من الكهوف أو المآوي الصخرية نفسها. وأتاح الظلام، مع ومضات أضواء مشاعلهم الخافتة أو شموعهم الصغيرة، أجواءً مثالية لأداء الطقوس أو الاحتفالات، ولأداء الموسيقى والغناء، واستدعاء القوة الخارقة للطبيعة.
اللغة الموسيقية
إذا عُدنا إلى مليوني سنة تقريبًا، إلى العصر الذي لم تكن فيه اللغة أو الموسيقى معروفة، قد نجد أنَّ أوائل البشر الذين هاجروا من إفريقيا كانوا يمتلكون شيئًا آخر يسمى "اللغة الموسيقية" (Musilanguage). يحتوي هذا الشكل البدائي من التواصل على عناصر من اللغة والموسيقى، إلا إنه لم يكن مثلها تمامًا. دفع احتمالُ وجود هذا الشكل البدائي من التواصل علماءَ الآثار لوصف بعض أسلافنا البعيدين بـ"البشر البدائيين المغنين".
الموسيقى والطقوس الدينية
كانت الموسيقى والغناء جزءًا من الطقوس الدينية لآلاف السنين، لكن مع تطور الديانات لتصبح أكثر تنظيمًا، اتخذت موقفًا متحفظًا نوعًا ما نحو الحواس. وقبل بضع مئات من السنين، واجه العلماء المسلمون معضلة مشابهة لتلك التي واجهها القادة المسيحيون الأوائل، حيث أقروا بأنَّ الأصوات -مثل الموسيقى- تُخاطب المستمع مباشرة على المستوى العاطفي. واختلفوا في حُكمها؛ هل الاستماع إليها مريب لأنه قد يثير العواطف الجامحة التي تصرف القلب عن الله؟ أم أنها كما يعتقد الصوفيون المسلمون وسيلة لتحريك القلب أقربَ إلى الله وإلى مزيد من التقوى؟ نتيجة لذلك، لم يتفق المسلمون ولا المسيحيون تمامًا على قيمة القوة العاطفية للموسيقى، مما أدى إلى انقسامات خطيرة على مدى قرون.
يمتد تاريخ الموسيقى الدينية لأكثر من 1000 عام، حيث لا يشمل الأمر الموسيقى نفسها فحسب، بل كذلك الشعور الذي أثارته تلك الأصوات في نفوس الناس. ولفهم صوت كنيسة القرون الوسطى، يتعين النظر إليها كمكان استُخدمت فيه تقنيات موسيقية قديمة وغير مألوفة في الوقت الراهن. فقد اعتاد الأثرياء والأقوياء استخدام المباني الدينية لإظهار عظمتهم وقوتهم، مما يعني أنَّ الجمع بين الهندسة المعمارية والموسيقى خلق صوتًا سماويًّا لعبادة الرب وعزَّز مكانة الحاكم العلماني. كما أنَّ الكنائس المسيحية الغربية في العصور الوسطى اختلفت كل الاختلاف عن المنازل البسيطة، وخاصة مع تلك الكنائس الحجرية المبنية بحلول القرن الثاني عشر، التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا في مرتاديها بفضل تصميمها وصوتها المهيب.
وقبل ألف عام، كانت المناسبات الدينية في آلاف الكنائس الأبرشية في أوروبا الغربية تزخر بأصوات الرقص والموسيقى والغناء خلال الاحتفالات، مثل: عيد الغطاس، وعيد الصعود، وعيد الخمسين، وعيد القربان. لقد بدأت المسيحية بوصفها ديانة من ديانات شرق روما الغامضة، حيث كان أتباعها الأوائل يعتقدون أنَّ فقدان أنفسهم في النشوة عبر الرقص والغناء هو أفضل وسيلة للإحساس بالعناية الإلهية.
الموسيقى في العصور الوسطى
يُعدّ بوئثيوس أعمق مفكر في العصور الوسطى في مجال الموسيقى، إذ جمع كتابات الفلاسفة اليونانيين والعرب واللاتينيين، وعلى وجه التحديد أفلاطون، ليشرح وجود ثلاثة أنواع من الموسيقى: "موسيقى الأفلاك" التي تنبعث من حركة الكواكب وهي غير مسموعة للبشر، و"موسيقى الآلة" الصادرة عن الآلات مثل الأبواق والأجراس، و"الموسيقى البشرية" التي تربط الجسد والروح معًا، إلا إنها غير مسموعة أيضًا. وفقًا لهذه المفاهيم، فإنَّ الأصوات مرتبة بدقة في الكون المنظم.
تحتاج الموسيقى البشرية إلى أنْ تكون متناغمة مع الكون، ويمكن النظر إلى الإنسان بوصفه آلة موسيقية تحتاج من حين لآخر إلى إعادة ضبط. كانت الموسيقى في دير القديس أوغسطين في كانتربري تُستخدم وسيلةً علاجيةً، مما يُظهر تحدي الممانعة الصارمة ضد الموسيقى في الكنائس والأديرة في القرون الوسطى.
أدرك أنصار العلاج بالموسيقى في العصور الوسطى أنَّ تأثير الموسيقى محدود، حتى مع أروع الألحان. في القرن الثالث عشر، خضعت أفكار موسيقى الأفلاك والتأثيرات الميتافيزيقية للتشكيك، وأصبحت الموسيقى تُستخدم في كثير من الأحيان لرفع الروح المعنوية، مثل الهمس بكلمات مطمْئنة في أُذُن المريض. وعلى الرغم من إيمانهم بقوة أنغام الموسيقى وقدرتها على تغيير البيئة وشفاء المرضى، إلا أنهم كانوا واقعيين ويتعلمون باستمرار عن خصائص الصوت وكيفية تحسين سمعهم.
كانت الموسيقى والإنشاد في العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، جزءًا حيويًّا من الطقوس في الكنائس المسيحية والمعابد الهندوسية، مع التركيز على تحقيق تطابق مثاليٍّ بين المكان والصوت. إذ تعاوَن الموسيقيون والمهندسون المعماريون بنجاح، مما أدى إلى ظهور الموسيقى الراقية في الكاتدرائيات الغربية والموسيقى التعبدية في المعابد الهندوسية.
تطور الاستماع إلى الموسيقى
قبل قرن من الزمن، لم يكن الاستماع إلى الموسيقى، حتى الكلاسيكية منها، باعثًا على الاسترخاء بالضرورة. فقد انتشرت الحفلات الموسيقية في المطاعم خاصة، حيث ينهمك الرواد في تناول الطعام على خلفية موسيقية ممتزجة بالغزل والنميمة وأصوات الملاعق والأطباق. وفي القصور ودور الأوبرا، ماجت القاعات بالصخب المستمر، مع جمهور يتحدث وبائعين ينادون على بضائعهم. وقلة ليس إلا من محبي الموسيقى كانت تتابع الأداء بتركيز.
في القرن الثامن عشر، بدأت محاولات لتغيير نظرة الناس إلى الموسيقى من مجرد تسلية إلى تجربة مؤثرة. استمر النقاد في توجيه الذوق العام، وعُدَّ بيتهوفن مثالًا لتقديم تجربة موسيقية عظيمة. وصفت الكاتبة الفرنسية جورج صاند استجابتها لموسيقاه بأنها تعيدها إلى أعماق نفسها، مما يجعلها تعيش في أحلام يقظة لا تنتهي.
وبحلول العقد الأول من القرن العشرين تحسنت تقنية التسجيل، لتلتقط العروض الموسيقية والأصوات البشرية بوضوح، مما جعل صناعة الفونوغرافات والموسيقى يتطوران معًا. وأثير السؤال حول نوع الموسيقى التي ستُسجَل في المستقبل: الألحان القديمة أم موسيقى جديدة؟ وظهرت دلائل على أنَّ التسجيل قد يغير الموسيقى بتلاعبه بالأصوات.
وفي عشرينيات القرن العشرين أدى تطور تقنية التسجيل إلى انتشار الموسيقى على نحوٍ غير مسبوق، مما سمح بإحياء الموسيقى من أيِّ فترة أو منطقة. تغيَّر الأسلوب الموسيقي وازداد تنوُّع التصنيفات، في حين فرضت تقنية التسجيل قيودًا معينة. أثَّرت صناعة التسجيلات في المشهد الصوتي لعصر الآلة، مضيفةً بُعدًا جديدًا لضجيج المدينة المتزايد. وعلى الرغم من التحديات، ساعدت التكنولوجيا - مثل السماعات والميكروفونات - الناس على اكتشاف أبعاد جديدة في الموسيقى، وابتكار أصوات جديدة للترفيه.
الموسيقى الخلفية
في عام 1920، في أثناء تناول الغداء في مطعم بباريس، أزعج الملحنَ إريك ستي والرسام فرناند ليجيه ضجيجُ فرقة الأوركسترا، مما ألهم ستي لابتكار موسيقى خلفية تأخذ في الحسبان الضجيج المحيط دون أنْ تفرض نفسها. ألَّف ستي مقطوعات موسيقية لتُعزف في بهو المسرح، تهدف إلى ملء الصمت وتحييد ضوضاء الشارع. وحينما توقَّف الجمهور عن الكلام واستمعوا، غضب ستي ودعاهم للحديث أو النظر إلى الصور بدلًا من الإنصات.
كانت هذه الفكرة إرهاصًا بتطور الموسيقى الخلفية التي أصبحت جزءًا من الحياة الحضرية الحديثة، تُسمع في مراكز التسوق والمقاهي والمكاتب والمصاعد. ففي القرن العشرين، أصبحت الموسيقى الخلفية أداة للسيطرة على المزاج والطاقة في الأماكن العامة. كان مبنى إمباير ستيت في نيويورك من أوائل الأماكن التي استخدمت الموسيقى الخلفية لتخفيف القلق المرتبط بالمصاعد. فقد أسس المهندس جورج أوِن سكوير شركة "ميوزاك" التي قدَّمت شبكات موسيقية متنوعة للأماكن العامة؛ مما جعلها أكثر أُلفة وراحة.
تميزت موسيقى "ميوزاك" في الأربعينيات بأنها مزيج من الأساليب الهادئة التي تهدف إلى إرضاء أكبر عدد من الناس دون إزعاج أحد. قدمت الشركة نظام "محفزات التقدم" الذي صنَّف الموسيقى حسب المزاج لتحفيز العمال وزيادة الإنتاجية. وأثبتت الدراسات البريطانية عام 1937 فعالية هذه الموسيقى في تعزيز الإنتاجية، مما أدى إلى انتشار استخدامها في المصانع والمكاتب.
وبحلول عام 1940، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) برنامج "الموسيقى في أثناء العمل" لمكافحة الملل وتحفيز العمال في المصانع. بُث البرنامج مرتَين يوميًّا، واختيرت موسيقى إيقاعية بلا كلمات لرفع معنويات العمال وزيادة إنتاجيتهم. بعد الحرب، استمر تأثير البرنامج، حيث تبنَّت الشركات والمتاجر والمقاهي الفكرة لتوفير بيئة مريحة وجاذبة للعملاء، مما يعكس قدرة الموسيقى على تحسين المزاج وتعزيز تجربة المستمعين.
Comentarios