حِميَر منصور محمد علاية*
"للتاريخ ثلاثة أبعاد، ففيه طبيعة العلم والفن والفلسفة"(1). لويس جوتشوك.
لا ترتبط حقيقة الفن بالواقع الخارجي، فالفن يخلق واقعه الخاص. إن الرقي الدائم للجمال في إطار هذا الواقع، يستمد من حقيقة وكمال الجمال نفسه، أما التاريخ فغير ذلك"(2). ديفيد هاكيت فيشر.
لا تكاد مسألة نقدية ما (فيما نقدّر) تشبه مسألة العلاقة بين الأدب والتاريخ، في التناول النقدي والإبستمي بشكلٍ عام، ليس في اتساع أو انحصار هذا التناول، بل في طبيعته، إذ إنه لم يشهد تلك السجالات التي قد تحتدّ في سائر المسائل حدّ ظهور الرغبة في الإلغاء حينًا، وتتصالح حدّ القبول والانضواء حينًا آخر، بل إن هذا التناول أخذ سمة رمي الحصاة في الماء دون الاهتمام بمن رمى قبل، أو عدد الحصى الذي استقر في قاع البئر. ولعل في تقديمنا بالمقولتين السابقتين ما يلمع إلى شيء من التباين بين التاريخ والأدب.
ولعلّ طبيعة هذا التناول الخاص متأتية من طبيعة العلاقة ذاتها، بين حقلين من حقول المعارف الكبرى، لا يلتقيان في قصدية الخطاب وأبعاده ومراميه، بل يختلفان أيما اختلاف، ويلتقيان في الشكل النصي الذي يوحدهما، وهو الشكل السردي، فالسرديتان على تباعد خطابيهما، تلبستا وتواشجتا في ميادين التلقي في فترات من تاريخهما، وتباينا في فترات أخرى، وقد يصعب علينا القول إن الحالة الأولى كانت في القديم، والثانية تجلت شيئًا فشيئًا مع التطور الزمني حتى لحظتنا الراهنة، إذ إن بين قول أرسطو إن المؤرخ لا يستطيع أن يخرج عن رواية الأحداث الفعلية من تفاصيل الماضي، أما الأدب فله أن يروي كل ما يمكن أو يحتمل أن يحدث، ورؤية الحداثة التي تسعى إلى مواجهة مباشرة مع ماضي الأدب وماضي التاريخ، لأن التاريخ مثل الأدب يأخذ عن نصوص أخرى(3) مهيعة طويلة ليس من وكدنا هنا المشي فيها، بقصد التقصي في سياقات هذه العلاقة التاريخية والفكرية والثقافية والشكلية، وحسبنا أن نشير إلى تجلياتها السريعة التي يمكن أن تمنح القارئ رؤيةً مختلفة إلى خصوصية الخطاب الأدبي وتمايزه عن سائر الخطابات الأخرى، وإثارة فضوله لمزيد من السؤال والتقصي في منادح من النظر النقدي أخرى، تجاه هذه الخصوصية من جهة، ومن جهة أخرى (وهي تنبني على سابقتها) تكشف له عن الاشتغال الأكثر تأثيرًا وعمقًا للخطاب الأدبي في النص الذي بين أيدينا، سواء في تشكله اللغوي، أو في تفاعله مع السياقات والخطابات الأخرى، فتتنزل لديه "رهينة" زيد مطيع دماج، على نحو من التنزل السليم والتقبل الحسن.
إنّ العديد من الإشكاليات التي واجهت الرواية التاريخية، تعود إلى فكرة "المرجع"، فإنّ بعض أنصار الأدب بعد نظر طويل، خلصوا فيما خلصوا إليه، إلى أن الرواية إذا اقتربت من المرجع (الواقع) أصبحت تاريخ، وأن التاريخ إذا ابتعد عن المرجع (الواقع) أصبح رواية. وهذا طرحٌ يرى أن الأدب لا مرجع له ولا سياق، بل إنه نتاج المخيّلة، والمخيّلة لا ترتبط بواقع موجود، بل بواقع متوهّم ومتخيّل(4). وسنرى أنّ التخييل هو الميكانيزم الفارق حقًّا بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ. ولعلّ مما يثير الدهشة في هذا السياق أنّ النقد قديمه وحديثه عبر مختلف العصور والآداب والحضارات تتفق على أن الأدب ابن الخيال، فكيف تلاشى الخيال في مساحة واسعة من نقد الرواية التاريخية والنظر فيها! ونقول إن مدار هذا التلاشي يقف على أمرين، الأول هو تلك الحمولة من النظريات والأفكار التي أثقلت الأدب، حتى بدا عابئًا بما ليس منه، وغير عابئ بما هو منه وفيه من خصائصه الخاصة في لغته وخطابه، والثاني، مردّه إلى التحولات التاريخية والصراعات المختلفة التي تشهدها رحلة الإنسان في الحياة، ما يجعله مدفوعًا إلى البحث الدائب والدائر حول فكرة "وجوده"، وكيف يتحقق له الاطمئنان لواقع أفضل، ولا سبيل لذلك إلا بنشدان الحقيقة، ومحالة إيجاد التفسيرات لمختلف القوانين والأنظمة، حتى تتحول هذه المحاولات ولعًا ما يفتأ يتنشّأ ويعتمل في العقل والروح، وهنا يدور صراع نقدي طويل عن علاقة الفن بالواقع، وعلاقة الخيال بالحقيقة، وهل المطلوب من الأدب النفع أم الإمتاع.
ولعل سائد النظريات النقدية تجمع على المادة التاريخية الخام، لكن الاختلاف وقع في آلية استخدام هذه المادة وكيفية تشكلها داخل السرد الأدبي، وهو ما وجدناه مبكرًا حول روايات والتر سكوت الروائي الإسكتلندي، فقد أخذ عليه الفريد دي فيني أنه يترك شخصياته التاريخية جائلة تتحرك على الأفق البعيد، بينما يعرض علينا أشخاصًا غير تاريخية(5)، وتقلق الرواية التاريخية وتتقلقل في قول لوكاش: "يجب أن تكون الرواية أمينة للتاريخ، بالرغم من بطلها المبتدع، وحبكتها المتخيلة"(6). وتنزاح باستقلالية عن التاريخ عبر المنظور الذي يفرق بينها وبين التاريخ، فالتاريخ كما يورد معجم السرديات، هو رواية ما كان، والرواية التاريخية، هي رواية ما كان يمكن أن يكون"(7)، أي أننا نسلم من مزالق كثيرة إن نزّلنا الرواية التاريخية على تصور الروائي للأحداث لا على الأحداث ذاتها، وإن نزّلناها كذلك على وعي أن الرواية التاريخية ليس المطلوب منها إعادة سرد الوثيقة التاريخية بل إعادة إنتاج التاريخ عبر فلسفة الذات للمسافة بين الذات والتاريخ، وما كان ينبغي أن يحدث لا توصيف الحدث الذي حدث، وهذا من جوهر الأدب وخاصية خطابه الخاص. "إن حقيقة السرد خاصة والفنون عامة هي تعبير عن الذات وعن رؤية أصحابها تجاه الواقع، وهي تحمل غالبًا موقفًا نقديًّا بهدف بلوغ ما ينبغي في الواقع لا ما هو كائنٌ فيه"(8).
وعند التاريخانيين فإنهم (وهم في مرحلة ما بعد الثمانينيات يعايشون النص الأدبي في انفتاحه وتفاعله على مختلف الخطابات والأبنية)، لا يرون ماضوية التاريخ، بل التاريخ ما يزال يتشكل، وهو مفتوح للتحول وإعادة الكتابة"، ومن إفرازات هذه الرؤية هو تنحية المركز وتثبيت الهامشي، فالشخصيات لم تعد أنصاف الآلهة ولا النبلاء والأصفياء، والفنون ومنها الأدب، لم تعد رهينة "القصر" و"الرسمي" و"الجمالي"، فـ "الحق أن الهامشي وضع غير جمالي مرتبط بالفن ارتباطً غير سببي، غير أن الفن لن يعيش دون مادة خام تأتيه من ذلك الهامشي"(9)، كما يقول شكلوفكسي.
يعرف سعيد يقطين الرواية التاريخية بقوله: "الرواية التاريخية، سردية، تنهض على أساس مادة تاريخية، لكنها تقدم وفق قواعد الخطاب الروائي (التخييل)، وهذا التخييل هو الذي يجعلها مختلفة عن الخطاب التاريخي"(10). إن التخييل فيما يبدو هو البعد الأهم في الفصل بين خطاب الرواية التاريخية وبين خطاب رواية التاريخ أو الخطاب التاريخي، وليس الفصل هنا يعني عدم قراءة الأدبي في سياقه التاريخي، بل إن هذه القراءة تستلزم الفصل، وهو ما دفع باحثًا معاصرًا للقول: "آن الأوان لكي يحل مصطلح "التخيّل التاريخي" محل مصطلح الرواية التاريخية (...) إنه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ". ويكمل: "ويمكن القول إن التخيل التاريخي هو المادة التاريخية المتشكّلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفةً جمالية ورمزية، فالتخييل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يروّج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال، والتاريخ المدعّم بالوقائع، لكن تركيب ثالث مختلف عنهما"(11).
إننا بعد هذا العرض النظري –وإن لم نوف فيه على الغاية- نزعم أننا مَهَدْنا أرضيّةً صالحةً للنظر في رواية الرهينة للروائي اليمني زيد كطيع دماج، الرواية التي كتبت بعد قرابة ربع قرن، من حدثها الذي نهضت عليه، وهو التحول التاريخي المعاصر الذي شهد إسقاط الحكم في اليمن في العام 1962. والرهينة رواية منعتقة، قافزة عن الأسوار، اقتحمت القصر وخرقت منظومة المحرم والمقدس لتكشف لنا عن الغائب وراء الحجب، حجب الحكم المشفوع بادّعاءات الحق والفضيلة، فيما كان الحاضر ليس سوى الجهل والفقر والبؤس الذي أطبق على حياة الناس. أما الروائي، فهو المثقف والأديب المنتمي لفكرة النضال بدمه ووعيه، فأبوه هو المناضل، الذي فرّ من سجن تعز إلى عدن، ومن هناك كان يكتب مقالاته ضدّ الإمامة.
إذن تنتمي الرواية روائيًّا إلى مرحلة خطيرة من مراحل النضال الوطني اليمني ضد الحكم الإمامي، وهي مرحلة ما قبل ثورة سبتمبر 1962م، وما كانت اليمن تشهده حينها من مخاضات سياسية وفكرية وثقافية، بل يمكننا القول إنّ الرهينة أسست لأدب يمني مختلف، رام معالجة ما رآه تشوهات خارجية للتاريخ اليمني، ليس بتصحيح الوثائق والروايات الشعبية، بل بتصحيح الوعي أو لنقل بمكاشفة الوعي في ممارساته تجاه حدث التحول التاريخي بعد حدوثه. فالأدب قادر على قول ما كان ينبغي فعله تفاديًا لتكرر ما فُعل، أو لفعل ما يمكن فعله في المستقبل. لقد بدت الرهينة إزميلًا مختلفًا ذاتيًّا يعمل من منظور مختلف هو المنظور الفني السردي، ضمن أزاميل عديدة، كانت تعمل وفق منظورات وأفكار وتوجهات أيديولوجية جمعية سياسية ودينية وفكرية وثقافية. ويمكن تسمية هذا الأدب بأدب القصور، الأدب الكاشف والصادم، والمقوّض للمقدس المنسرب في وعي الأجيال عبر خطاب ديني قادم من الماضي البعيد. إنّ هذا هو حدث الرواية، الذي انبنى في زماكانية محددة، تشكلت داخله أحداث جزئية وبنى ووحدات صغيرة مترابطة، ينتظمها خطاب سردي، يوهم بالواقع والوقائع، عبر أداة "التخييل"، ليمكنها ذلك من مواصلة خطها دون عوائق مما اعترض سائر الخطابات الأخرى. فالتخييل يشتغل في خطابات الوقائع "عن طريق إفراغها من دلالاتها المرجعية، لشحنها بدلالات جديدة تتلاءم وسياق إنتاج الخطاب(12).
إن معرفة السياق التاريخي والفضاء المكاني اللذين ينتمي إليهما حدث الرواية، يساعد على استنطاقها من منظور سياقات متعددة، تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية؛ هي ما نستطيع بواسطتها أن نفهم ونفسر، ونخلق القراءة الأخرى المنتجة للنص، المنتج بدوره نسقًا آخر للواقع يشاكل الواقع ويوهم به ولا يقع عليه حرفيًّا أو ينقله نقل المطابقة، ونعيد النظر باستمرار إلى الواقع الذي عاشته شخصيات الرواية، والأحداث المتسلسلة، ليس بوصفها سجلًا باردًا للماضي، بل سجلّاً سرديًّا وحكائيًّا تخييليًّا، شاهدًا على اقتدار حضور الفن في تشكيل الوعي الإنساني، ومساوقته للتاريخ بالتوازي وليس بالهامش.
ولا يمكننا ونحن نقيم للنص سياقه التاريخي أن نخضع للسياق، فنحن لا نريد تقييد دلالاته النصية، فالنص يمتلك نصّيته أولًا بقوامه اللغوي المجازي، وإنما السياق هنا يمنح النص دلالات مفتوحة عديدة متجددة، وهذه بغية الرواية التاريخية، أي مواكبة سياقات التاريخ المتحولة وإعادة كتابتها، ولن يخضع السياق (بطبيعة موقعه على تخوم النص) لتقنيات النص، لأن النص في الأساس ليس مرتهنًا للسياق المرجعي ارتهانًا مطابقًا ومطلقًا، بل مرجعيته المخيّلة.
ولعلَّ النظر في عتبة النص الروائي موائم لقراءة، تقارب في النسق واللغة، لأجل الدخول إلى عالم الحدث، واستشكاف ثيماته، وانتظام بنياته التي ستشكل أمامنا أفقًا من الدلالات المفتوحة. فالرهينة هو اسم الرواية، وهي صفة السارد البطل، الذي غاب اسمه، فهو (رهينة) وهو (دويدار)، والدويدار كما يوضح الكاتب: صبي حاضر البديهة يستخدمه الأمراء والحكام في قصورهم. الشخصية الساردة هامشية إذن، تنتمي لطبقة رقيقة من المجتمع. لقد تخلصت الرواية من رهق "الوثيقة" و"المروي الشعبي" في ثمانينيات القرن الماضي، بعد عقدين من التحول التاريخي، جرت فيه صراعات شتى، ضغطت بها قوى مختلفة على التاريخ، فتبصّر الخطاب الروائيُّ التاريخ عبر قوى أخرى هامشية، يصعب على سواه أن يبرزها. إن الذهاب إلى الهامشي ليس فقط تكنيكًا تفلتت عبره الرواية من القوى الضاغطة والمؤثرة، فأرادت مادته الخام منه، بل إن الخطاب الذي تبصّر التاريخ، لم يرد أن يسقط في فخ التاريخ، فيكرس المركز مرةً أخرى غفلةً منه، فالمركز قد سقط.
كتبت الرواية بصوت واحد هو صوت الرهينة، وبضمير الأنا، "كم هي جميلة هذه المدينة.. شاهدتها لأول مرة عندما أخذت من قريتي ووضعت في قلعتها (القاهرة) بين رهائن الإمام"(13). ويعود بنا صوت الراوي إلى الماضي (نقطة الحدث الأولى)، وبتقنية الاسترجاع التي تفسح للخطاب مهادًا أو منطلقًا، ثم يتصاعد زمن السرد ليحتوي مشاهد الحاضر، وملامح المستقبل، تتخلله آلام الماضي وذكريات الحنين إلى الأم والقرية خلف الجبال.
والشخصية الراوية هنا هي التي صنعت الحدث وشكّلت الخطاب الروائي وأقامت الحوار مع الشخصيات وأعطتها ملامحها ووظائفها، فالراوي هو الذي يحكي عن ولي عهد الإمام في المدينة وعن نائبه، وصاحبه (الدويدار الحالي) وعن (البورزان) و(الطبشي)، وعن الشريفة حفصة، ابنة القصر، والأنثى المترفة القوية، والغامضة، التي أحبها وعاش صراعًا كبيرًا وهو يبادلها حبًّا لا ملامح له سوى فتنة الجسد والصوت المبحوح، فيما هي تمارس نزواتها حينًا، وحينًا تأمر بقيده لأنه لا يفعل ما تريده.
إن الرهينة هو السارد الذي يحكي عن نفسه وطموحاته ونزعاته، وعن مشاهداته في القصر، وهو سارد عليم، يتحدث عن المدينة والجوع والحرية، ويتحدث عن الشخصيات بلغة نافرة وساخرة، ومتعالية في نفسه: "كان أولهم (ابن النائب) الضفدع، بضحكاته المقررة كصوت المداعة"(14). ويصف النائب بأنه "لئيم بطبعه وخبيث"(15). لكنه لا يعرف أكثر مما تعرف الشخصيات: "سيوف الإسلام الذين لا أعرف أحدًا منهم حتى الآن"(16). والراوي لم يعرف شيئًا عن الرسائل التي كان ينقلها بين الشريفة حفصة وشاعر الإمام، ونجد أنه يصمت في كثير من الأحيان ويغادر المكان. صيغة (لم أجب) تكررت كثيرًا في حواراته لا سيّما مع الشريفة حفصة. بل إنه في مراحل من الحكي، لم يكن يعطي تفاصيل عميقة عن الشخصيات، إذ المشاهد داخل القصر أوضح من أن يسأل الراوي عنها أو يجتهد في معرفة خباياها، كما أنها تركت للشخصيات حرية التعبير عن نزواتها وممارسة سلوكياتها، ولا تتدخل فيها. إن دخول الراوي إلى القصر هو الخرق وإحداث الصدمة، فالقصور ممنعة وليس من السهل دخولها فكيف بمشاهدتها وسماع الحوارات بين ساكنيها، الحوارات بين النسوة والرهائن، أو الحوارات المتعلقة بالسياسة وأخبار حركة التحرر المتسارعة في البلاد، وبالتالي فإن من وظائفه الراوي هنا، "المشاهدة والالتقاط"(17).
يمثل المكان في الرواية الفضاء الذي اتسع لهموم الراوي ومعاناته وصراعه النفسي والأيديولوجي والسياسي، فالمكان المدينة وهي مدينة غائصة في الفقر والخوف ومظاهر القمع والظلم "كنت قريب العهد في منزل النائب نائب الإمام وعامله على المدينة وما يتبعها، عندما أخذوني قسرًا من قلعة (القاهرة)، معقل الرهائن، وأدخلت من بوابة قصر النائب، وأنا أتذكر نظرات الازدراء التي ودّعني بها زملائي الرهائن"(18). القلعة (القاهرة)، يشيع معناها المعجمي للقهر المعنى المجرّد، الذي يبرز في الفكر السادي المتسلط وبالجنود المخلصين والقيود وإهانات الناس التي لا تتوقف. يشكل القوسان حول اسم القاهرة إشارةً مرجعية نفهم منها الاسم لا الصفة، وهذا من مخاتلة الرواية، أي الإيهام بالواقع، لتمر الرسائل إلى المتلقي عبر خيط رفيع لا يبين، لكنّ هذا الإغواء يظل يشيع في الاسم قصدية أخرى في التلقي، فالقاهرة قلعة في مدينة تعز كان الأئمة قد اتخذوها معتقلًا للثوار والمناضلين. لكنها كانت رمزًا للقهر بلاد بأكملها ، كانت هي أيضًا على اتساعها معتقلًا واحدًا لكل شيء.
أما المكان (قصر النائب) فكان المكان الذي اشتغلت فيه الرواية على كشف دنس (المقدس). شهد (قصر النائب) تفاصيل الحكي ومكوناته، وكان له دوره في احتواء الحدث، وغرفة صديقة الدويدار الحالي، والنافذة المطلة، وغرفة البورزان، وهي فضاءات صغيرة ضمن الفضاء الذي مثل سجنًا وعذابًا للراوي (الرهينة).
ويأتي كشف المدنس من فكرة التضاد المكاني، في كون القصر مكانًا للهو النائب ومعابثاته وشرابه، سجل فيه الراوي مشاهد من الرذيلة المكتنزة وراء الحجب، ووراء النص، ووراء الحاكم الذي يوهم العامة باعتناق الفضيلة وعلى ذلك فإن حكمه مشروع وقد يكون استجابةً لقَدَرٍ عُلوي"، وفي كونه القصر أيضًا سجنًا للرهينة منحه الشعور بضرورة الانعتاق والكرامة.
لقد مثل قصر النائب، المكان/ السجن الذي انبثق منه خطاب الرفض، والكشف عن كل ما يحدث في زواياه التي لا يراها عامة الناس.. "كنت ألاحظ أن معظم العائدين منهم إلى القلعة قد تغيرت ملامحهم.. حيث غدو مصفري الوجوه.. بالرغم من ظهور نعومة شاملة في أجسادهم مع شيء من الترهل وذبول في غير أوانه"(19). إن الخطاب يوغل في تعرية المكان الموبوء بانتهاك آدمية الإنسان وهدر كرامته. وهو أيضًا المكان/ الحيز الذي اتسع لمشاعر الذات الساردة الجارفة تجاه الشريفة حفصة، وشهدت غرفة حضور الجسد الأنثوي بوصفه تعبيرًا عن التمرّد ورفض الانتماء في أكثر من مشهد. ولذا، كانت النافذة مكانًا نابضًا وحيويًّا وحفصة تطل منها دائمًا، ساهمة أكثر الأوقات، وكانت نافذة صديقة الدويدار الحالي متنفّسًا لمكبوتاته على مستويين: طيف حفصة الذي ما يفتأ يزوره كلما أطل من النافذة، ومرأى الجبال الشاهقة، حيث تتوارى قريته خلفها، وتتوارى أمه التي أخذوه قسرًا من حضنها ولم يعد يعلم عنها شيئًا. إنّ الرواية خطاب تضادي، وله تمظهرات تضادية في علاقتها بالمجتمع والثقافة المقننة، كما يرى والتر ريد.
وتبرز الثقافة الشعبية في أهزوجة ترددت بين جنبات المكان، يرددها الجنود داخل قصر النائب وفي الممرات: "يا دويدار قد امك فاقدة لك .. دمعها كالمطر"، وهي متوالية لغوية تعيد القارئ وتشده إلى أصل الحدث، وهو نقطة التوتر الأولى التي وقفت عليها البنية السردية مشحونة بالألم والخيبة، وغير قليل من الشعور بالعبودية التي يعيشها الإنسان.
والخطاب اللغوي عبر لغته السردية، يلتحم بالواقع، بلحمة الفقراء والمقموعين، وبمظاهر المدن الباعثة على الأسى والحزن. فمفردات لموجودات عصرية لا نكاد نجدها في الرواية، إلا في سيارة "الوالي"، ومذياع "النائب" الخشبي، بينما كانت للغة حمولتها الثقافية والاجتماعية والنفسية في تفاصيل الرواية وأحنائها، فمفردات "الدويدار، الحالي، سَفِل، الجمنة، البورزان، الزامل، الكُدم، وغيرها، مفردات عامية، ترتبط بواقع الناس، في الوقت الذي يجتمع العامة أمام القصر، ليروا سيارة الوالي القادمة من الخارج، وابنه "الضفدع" القادم من مصر، يمارسه مجونه في قصره، ويقف بين الحاضرين، ليرقص بتغنج مثل كاريوكا.
إن الخطاب الروائي بمرجعيته الثقافية والأيديولوجية، وبهذه العلائق الرابطة بين علاماته اللغوية، ليكشف عن غائب منشود خلف النص الحاضر في أمكنة القمع والقيود والعبودية، ومشاعر النفس المتناقضة، التي تتململ في سجنها رهينة لأيديولوجيا دينية وعرقية، تدَّعي الاصطفاء والطُّهر، فيما هي تمارس الاعتداء على الآخرين، بل وتتعرى في حقيقتها عن كل قيم الدين والإنسانية. ومن شأن النظر في عنوان الرواية "الرهينة"، وبنيته الصرفية "فعيل"، وهو ما يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن يحيل لدلالة أوسع، فهل كانت الرهينة هي اليمن؟ إن الخطاب الروائي في سياقاته وإشاراته يوحي بهذه القصدية التي تمنح العمل الثراء. فاليمن هي الأرض التي سيجت بأسوار الجهل والعزلة، وارتُهنت، وهذا على مستوى دلالة التاريخ والوقائع، وقد تكون الرهينة الشريفة حفصة، ذات الحسن والأنوثة الطاغية، التي أغوت الدويدار، لتطلب منه في النهاية أن يأخذها معه "خذني معك"(20). قلت لك خذني معك"(21). وهذا على مستوى العاطفة والغراميات، التي توسلت بها الرواية التاريخية في كتابتها عن الوقائع، بقصدية الإمتاع وإسباغ الغموض الفني، وبث روح التأويل لتعطي العمل طاقة من التلقي والتداول.
يجد "الرهينة" حريته بعد أن هرب من السجن، وترك حبه وراءه، حفصة، المرأة الهاشمية، التي يحدث الخطاب الروائي مفارقًة في اسمها، إذ إن الاسم يحيل على المكون المجتمعي الطائفي المقابل (السنة أو الشافعية) فإشعاع الاسم التاريخي يذهب بنا باتجاه الخليفة عمر، فكيف يسمى بهذا الاسم داخل أسرة يرتبط وعيها بأسماء من يعتقدون مشايعته وهو الخليفة علي وأهله وأبناؤه، لكن نقد السردي لا يخضع السرد لمنطق التاريخ، فالخطاب الروائي يعي الاسم والتركيب (حفصة الهاشمية)، ولعله في إغناء شخصية رئيسة هي شخصية حفصة بصفة الإشكالية، يحدث في التلقي الرغبة في تقصي تفاصيل هذه الشخصية الإشكالية، ومن هناك فإن التناول التاريخي القريب لها هو أن حفصة تسكن فضاءً مكانيًّا لا تسكنه (الزيدية) وليس حاضنًا لها، هو وسط اليمن، لكنّها استوطنته، فكانت غريبة، كأيديولوجيا قاهرة، ودخيلة على وعيٍ لا يؤمن بها، وقد سبب لها هذا الاضطراب المكاني شقاءً لها، فهي بمنطوق السرد امرأة فاتنة وجميلة ومطلقة، تغوي من يراها ويحجبها ولا ينال منها". يقول الراوي بعد حوار أخير بينهما ".. وعلا صياحها بصوتها المبحوح الذي أحبه.. يطرق مسامعي.. وتلقّفتني ظلمات الجبال المطلة، على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول، وأنا أتوقع صوتها أو حجرًا، مقذوفًا منها سيقع على ظهري.. لكنني كنت قد قطعت مسافةً كافيةً في طريقٍ جديدٍ مؤدٍ إلى المستقبل"(22).
لا تؤرخ رواية الرهينة ببناها السردية وأدواتها التخييلية والمجازية، لفترة من فترات النضال اليمني قبل ثورة 62، تاريخيًا حقيقيًّا، بل تؤرخ له تاريخًا فنيًّا يتجاوز الواقع كما حدث، إلى الواقع في أنبل صوره الموشومة في أحلام الإنسان مناضلًا وثائرًا ومحبًّا لوطنه، حيث يجب أن يتعرى "المقدس"، إنها لا تقصد نكش ذاكرة الذات الماضية، إلا لتحدد لها معالم اللحظة الحضارية الراهنة التي يمكن القبض عليها.
لقد وجد (الرهينة) حريته، وكان هذا نشدانه في أحداث الرواية.. لطالما كان يأخذه الوجوم والصمت، ويشعر بفقدانه أثمن ما يملك وهو حريته، وأخيرًا وجد طريقه إلى المستقبل، المستقبل الذي لم تفصح عن ملامحه الرواية، أو تتبع خطوطه، بل ما يزال وراء الغيب، يستحث الأمل والحياة.
1- هتشيون، ليندا، رواية الرواية التاريخية، ت: شكري مجاهد، فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، م12، ع2، 1993 : 107.
2- المصدر السابق : 100.
3- المصدر السابق : 108.
4- الواد، حسين، الأدب العربي القديم، إشكاليات التلقي، القناة الرسمية لمعرض تونس الدولي للكتاب
5- هلال، محمد غنيمي، الرومانتيكية، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع (د.ت) : 191.
6- لوكاتش، جورج، الرواية التاريخية، ت: الكاظم، صالح جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ط2، 1986 : 15.
7- القاضي، محمد، وآخرون، معجم السرديات، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، ط1، 2010 : 211.
8- النعمي، حسن، قارئ السرد وسجالات الواقع، كرسي، جامعة الإمام محمد بن سعود، 2017 : 11. نلتمس شيئًا من هذا الطرح في قول الجاحظ: "وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجوز أن يكون فيهم مثله، أو حجة أو طريقة. الجاحظ، البخلاء، ت: الحاجري، طه، دار المعارف، القاهرة، ط5، 132. وفي قول هارون الرشيد للسجستاني وقد حدثه عن اتصاله ومعرفته بالجن وتأليفه في ذلك كتابًا: "إن كنت رأيت ما ذكرت، فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته لقد وضعت أدبًا". ابن خلكان، وفيات الأعيان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977، ج5، 221.
9- فصول (مصدر سابق) : 96.
10- يقطين، سعيد، الرواية التاريخية وقضايا النوع الأدبي، نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، ع44، أكتوبر 2005: 82.
11- إبراهيم، عبد الله، التخيل التاريخي، السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ بيروت، ط1، 2011: 5.
12- جبار، سعيد، من السردية إلى التخييلية، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الرباط، ط1، 212 : 63.
13- دماج، زيد مطيع، الرهينة، دار الآداب، بيروت، ط1، يناير : 5.
14- الرهينة : 60.
15- الرهينة : 136.
16- الرهينة : 58.
17- يقطين، سعيد، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، ط3، 1985 : 287.
18- الرهينة : 4.
19- الرهينة : 5.
20- الرهينة : 150.
21- الرهينة : 151.
22- الرهينة : 151.
قائمة المراجع:
إبراهيم، عبد الله، التخيل التاريخي، السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشرـ بيروت، ط1، 2011.
الجاحظ، البخلاء، ت: الحاجري، طه، دار المعارف، القاهرة، ط5 (د.ت).
جبار، سعيد، من السردية إلى التخييلية، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الرباط، ط1، 2012.
ابن خلكان، وفيات الأعيان، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977.
دماج، زيد مطيع، الرهينة، دار الآداب، بيروت، ط1، يناير، 1984.
القاضي، محمد، وآخرون، معجم السرديات، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، ط1، 2010
لوكاتش، جورج، الرواية التاريخية، ت: الكاظم، صالح جواد، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ط2، 1986.
النعمي، حسن، قارئ السرد وسجالات الواقع، كرسي عبد العزيز التويجري، جامعة الإمام محمد بن سعود، 2017.
هتشيون، ليندا، رواية الرواية التاريخية، ت: شكري مجاهد، فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، م12، ع2، أبريل، 1993.
هلال، محمد غنيمي، الرومانتيكية، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع (د.ت)
يقطين، سعيد، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، ط3، 1985.
يقطين، سعيد، الرواية التاريخية وقضايا النوع الأدبي، نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، ع44، أكتوبر، 2005.
الموقع الإلكتروني:
*باحث دكتوراه الأدب والنقد بقسم اللغة العربية وآدابها- جامعة الملك عبدالعزيز .
תגובות