top of page

قراءة نقدية في الإبداع | الرواية ماكرة ولا تكتب سوى التاريخ

  • سياق
  • 5 أكتوبر 2024
  • 3 دقائق قراءة

عبدالكريم جويطي*




في يوم 25 أكتوبر 1946 التقى كارل بوبر وفغنينشتاين في لندن، ودام اللقاء الكبير عشر دقائق فقط، خرج على إثرها فغنينشتاين غاضبًا. صار لهذا اللقاء السريع بعدها أبعادًا أسطورية، مثل لقاء ابن عربي وابن رشد. انكب صحافيان من الـ"بي بي سي"، هما دفيد إيدمون وجون إيدنوي، بعد ذلك عقودًا، على قراءة شهادات كل الحاضرين لهذا اللقاء، وفحصها، ومقارنتها، وتحليلها. واستمعوا لنفر من الأحياء المتبقين الذين شهدوا الواقعة، واحتفظوا بذكريات لا تتطابق، وإنما تتعارض بالكلية. عوض أن يحسم الاستقصاء الصحفي ما دار بين المفكرين الكبيرين، بشكل نهائي، زاد الغموض غموضًا. يعلق الروائي ماريو فارغاس يوسا، في كتابه: (نداء القبيلة) على كل هذا اللقاء، بما يلي: "لقد غذى (الصحافيان) بمثال رائع شكًا قديمًا، تمثل في أن مكون المتخيل -خيالًا كان أو أدبًا- في التاريخ لا يمكن تلافيه، وهو ضروري. إن كان حدث قد وقع منذ زمن يسير، وما زال عدد ممن حضروه أحياء، ويمكنه أن ينفلت من شباك البحث الموضوعي والعلمي، ويتحول، تحت تأثير الذاتية إلى شيء مختلف جدًا… فماذا يكون الأمر إزاء السرد التاريخي لأحداث الماضي، التي أعادت صياغتها، طوال القرون الماضية، الأيديولوجيات، والأديان، والمصالح الخاصة، والأهواء، وأحلام الناس… هذا لا ينفي التاريخ، ولكنه، وهذا ما نراه جيدًا، علم مثقل بالخيال.". منذ أن خرج دون كيشوط من الفناء الخلفي لداره، وسار رفقة سانشو بانزا مواجهًا الواقع بالخيال، الجديد بالقديم، العقل بالحماقة، نثرية الحياة بشعرية الفروسية، الإنسان الصغير الضائع بالبطل الذي يحس بمسؤولية كبرى تجاه العالم، ولدت الرواية لتأخذ على عاتقها تذكيرنا بأن التاريخ ليس سوى حاضر صاغ ماضيه دومًا، بحاجياته، وأطماعه، ومراميه. ما التاريخ إلا صيغ متراكمة عبر الزمن لحاضر أراد في كل مرة تملك الماضي. ورثت الرواية هذه الحاجة لبناء ذاكرة جماعية وفردية متناغمة مع العالم من الملحمة. لقد ضاع الإنسان تمامًا في عالم المدينة، صار فردًا مسحوقًا ومعزولًا عما يجري، ولم يعد يتلقى العون لا من السماء ولا من الأرض. وصار الرابط الذي يربطه بباقي الأفراد هو رابط المجاورة في المكان فقط. إنها الحياة الجديدة للساحات والشوارع حيث يتخاصر الغرباء، ويولد الحدث بشكل عرضي، وتتشابك المصائر وتتنامى، لا لتصل إلى تلك النهاية السعيدة، كما في الملحمة، حيث ينتصر الخير على الشر، وإنما لتفضي لفكرة أن لا أحد ينتصر في العالم الجديد غير السلعة والقيمة التبادلية والأشكال التوليتارية الساحقة التي تحول الأفراد إلى أرقام (أورويل). إنه عالم مرعب الكل فيه معاقب لاقترافه جريمة لا يعرف كنهها (كافكا). مع هذا البطل الغُفل والنكرة الذي أخذت الرواية على عاتقها بناء سيرته ستصعد الحياة اليومية المبتذلة التي كان يعافها أدب الملاحم إلى سطح التاريخ، وسنقرأ صفحات عديدة لوصف ذكرى شرب كأس شاي مغموسة فيه حلوى مدلين (مارسيل بروست)، وسيصير التسكع بلا هدى في غابة المدينة أشبه بمغامرات عوليس في الأوديسا، ولو أن عوليس يواجه البحار وغواية حوريات البحر والسيكلوب، بينما لا يواجه بطل الرواية سوى الخواء الوجودي، والحرب الكبرى التي يخوضها لا يواجه فيها سوى نفسه وذكرياته وهلوساته ومخاوفه (جيمس جويس). من واجبنا ألَّا نستصغر هذه التخمة في التفاصيل اليومية التي تطفح بها الرواية. علينا ألَّا نضجر من هذا السرد الذي يصير فريسة لذاكرة محمومة لا تتردد فيها أحداث عظام (تاريخية)، وإنما وقائع صغيرة بلا مجد من مجرى حياة صغيرة، يمكن لكل واحد منا أن يرى نفسه فيها. فالخارق استثنائي في حياة البشر أما المبتذل فمُشاع ومُلقى في الطرقات. نبهنا فالتر بنيامين إلى أن: "القرن التاسع عشر لم يكشف نفسه لزولا أو لأناتول فرانس، بل لبروست الشاب، هذا المترفع التافه، المستهتر ونجم المجتمع الذي انتزع بشكل عابر أشد الأسرار إدهاشًا من عصر آفل... تطلب الأمر وجود بروست لجعل القرن التاسع عشر ناضجًا للذكريات". لم يكشف قرن كامل نفسه لكتاب الواقعية الطبيعية، ولا غيرها، إنما لكاتب مريض ومنعزل ومهووس بماضيه الذي يصارع فيه التذكر النسيان بشكل لا هوادة فيه. الرواية ماكرة جدًا، وفيما يبدو لنا نثر سيال حول تقاسيم وجه، أو وصف لأثاث، أو لتصنع فج في حفل، يكتب أسرار مرحلة من خلال مادة مبتذلة وتافهة. لقد فهم كارل ماركس بوضوح الطبقات المتراكبة في المجتمع من خلال الكوميديا الإنسانية لبالزاك، أكثر مما أفهمته ذلك كتب الاقتصاد. كما كشفت لنا تمامًا روايات سولجستين فظاعات معسكرات الاعتقال في روسيا أكثر مما فعلت التقارير السياسية. وفضحت روايات الدكتاتور في أمريكا اللاتينية الاختناق والعبث السياسي أكثر مما فعلت الأحزاب السياسية المعارضة. لا تكتب الرواية سوى التاريخ وإن كانت بطريقة ملتبسة ومخاتلة. حتى لو كانت رواية عجائبية أو رواية خيال علمي أو رواية فانتازية أو سوريالية، فهناك خيط رفيع يشدها دومًا للواقع، ويجعل منها في النهاية وثيقة عن المتخيل البشري في مرحلة من المراحل. للتاريخ راحة يد بحجم الوجود البشري وصيرورته وكل ما يقع في تلك اليد يعود إليه.




*كاتب وروائي ومترجم مغربي. صدرت له 6 روايات: "ليل الشمس" 1992 الفائزة بجائزة اتّحاد كتّاب المغرب للأدباء الشباب، و"رمان المجانين" 1998، و"مدينة النحاس" 2004، و"زغاريد الموت" 1996 التي تُرجمت إلى الفرنسية، و"الموريلا الصفراء" 2002، و"كتيبة الخراب" 2007 التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2009. و"ثورة الأيام الأربعة" 2021، كما صدرت له عدّة كتب وترجمات. 


أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page