د. رانية محمد شريف العرضاوي
باحثة في قضايا النقد والفلسفة والإبداع
تأتي الكلمات محمولة بروائح ورياحين الأيام، فتزكم كلماتٌ أنفَ الذاكرة، فتعطس القلوب، وتدمع العيون، ويهمس المشتاق (يرحمك الله)! هكذا تلتفّ الكلمات بقفطان العَبق، لا تتخلّى عن هُوية الذكرى مهما تقادم الزمن، تدور معه في مولوية لا تتوقف عن محاكاة النجوم، فتحمل المفردةُ عبَق المطر مرّة، لتسرد شريط الولادة وقفزات الطفولة تحت زخات قديمة، قديمة كقِدَم الطين الأول الذي فتح ذراعيه للحياة الفارّة من السحاب الثقيل، لتعانق خفّة الفرح بين سيقان العُشب الأخضر. وتحمل أخرى رائحة البرد، رائحة الحطب المشتعل الكريم بدفءٍ ليَدَي الصغير المرتجفة من لفّ كرات الثلج على أساور المغامرة، مغامرة اللسعة الباردة، تلك المستجيبة لجيشان الشغف السؤول: ترى، كيف هي رائحة الثلوج في صباحات ليالي الميلاد الوافد على عالم الموتى؟ تدور أسئلة كثيرة لا تعرف جوابًا إلا بسَحْبِ شهيق عميق من هواء اليوم واليوم وأخيه. تسجّل لها مكانًا عميقًا في ذهن ذلك الغريب الذي يعرف سَورة رائحة الهيل وحبة البن المجنونة بتحميص متتالٍ لا توقفه إلا هزّة الفنجال الأخير.
مزحوم هو الإنسان بأنفه، لا يملك منه إلا الاستجابة لكل العابرين في ذاكرته الشمّيّة العنيدة بين الفصول الأربعة: رائحة البيت العتيق في شوارع (البلد)، ذلك البيت الذي أبعدته الخطوة الطموحة إلى أطراف المدينة. ورائحة حبات البحر المائج بين مرافئ السفينة، السفينة الماضية بشراع تفك حباله أنفاسُ البحر الأحمر، تجرّه موجة إثر موجة، وتمضي السفينة، والريح بالعبق الرطب تخالط قطرات العرق الدؤوبة، ممسكة برائحة الساعد وعزيمة البوصلة الدوّارة، تبحث عن سمكة كبيرة، تركت بياضها لنورسة لا تدري عن عطر البحّار الغارق في حمرة يحفظ رائحتها جيدًا، ولا ينسى تلويحة حزينة أخيرة.
قالوا مرة: إنّ الرائحة من أصل (الروح)، ومن طابت روحه طابت أنفاسه وتكلّم بطيب القول. والروح تحكي عن مخازنها الشمّية، ألسنا نشمّ النفاق في كلمات المنافق فنكتم أنفاسنا من عفنها؟ ألسنا نتلذذ برائحة الشكر عند لحظة الرضا بفرحة خفيفة؟ ألا نميّز رائحة الأغنية فنطرب بعطرها خطوةً مائلة على ظهر المركب مهما علت أمواج الرحلة وبحّ الهوى صوتَ البحّار القديم؟ أوّاه من روح نسيت رائحة القلب الخافق بالحب بِكْرا! الروح لا تنسى أول رائحة صرخت من جسدها حين كان طُهرًا بعيدًا عن الطين إلا من الحليب الأمومي الطاهر، فلا تعجب إن شممنا جسد مولود مرة فدمعت عيوننا بلا ميعاد أو علة معلومة، إنها اللحظة التي تعيدنا للذاكرة النقية إلا من رائحة الطعم الحليبي الذي فقدناه وما عدنا نذكر كيف كانت لذته، فيأتي هذا المولود الجديد ليخبرنا بأنّا كنا في لحظة ما حمّالين محمولين من يد لأخرى، تتلقفنا أنوف البالغين الباحثين عن بقايا الطهر فينا. أوّاه من طهرنا المفقود للأبد!
ماذا نحن بدون شمّ الحياة؟ مفزعة كانت بقايا الداء (كوفيد) عندما فقد بعضنا هوية الروح (الرائحة)! أذكر جيدًا أنني ما استطعتُ الشم أسبوعين كاملين، صار كل شيء فيها برائحتين: أبيض وأسود، الذرة المحمصة بلا طعم، وحبة البيض المقلي لا تتميز عن الصغيرة الزيتونة السوداء! تساوت حلوى السمسم الشهية مع مرارة النسيان، وحتى القهوة تحولت لسائل أسود يمكن جدًا أن يكون بطعم مرق (التمر الهندي)! تيهٌ شمّي بغيض، ساوى بين فوّاحة الياسمين وزجاجة المعقّم البائس على أسطح بيوت الراحة. وحتى هذه التي تلبست (الرائحة) في (الراحة) تخلّت عن رائحة (الصابون) وإن كان برائحة الغار القوية!
نشْتَمُّ الصباحَ في فنجال مليح، فندرك أنّ اليقظة حاضرة، ونتلهّف شمّ البخور في جُمَعٍ تعلن للصلاة قداسة تحوز كل أسباب لراحة النفوس، وتذعن ابتساماتنا مع دبيب العجين المحمّص خبزًا، فنسارع إلى الفرن ونطمئن: الحياة المطحونة من حبات السنابل تستجيب للنار اللاهبة لتعلن عن فورة العَيش بقضمة من خبز الحياة، أو كما نحب أن نسميه (العِيش)، ومن الطريف أنّ من أهلنا في الخليج من ينعت الأرز بذات النعت (العِيش)، فيكون للكلمة ذاتها رائحتان: واحدة بيضاء مخلوطة ببهار، وأخرى بُنية بختمِ التحميص. مرات كثيرة أفكّر في رائحة الليمون، كيف لها أن تحفظ في داخلي معنى (النظافة) حتى لو أغرقتها على سمك خارج بشجاعة من بطن الزيت المغلي ليقابل بصلًا وثومًا وكمّونًا لا يتوقف عن الزفير بعبقه النفّاذ، ولكن الليمون يبقى نظيفًا!
قيل لي مرة إن الذاكرة الشمية هي أقوى أنواع الذاكرة، فمكانها في الدماغ قريب من مركز الذاكرة طويلة المدى، صدّقت ذلك خصوصًا مع قراءاتي حول عالم الروائح والرياحين، صدّقتُ ذلك أكثر لمّا ميّزتُ رائحة كفّ أبي في بطن راحة أخي، فهل نتوارث الرائحة؟ لعلنا كذلك، وجلودنا تصرّ على أنسابنا الكريمة، فنشمّ أحبابنا لنتذكّر أحبابًا لنا غيّب الحنوط والكافور رائحتهم. وسمعتُ مرة أنّ البيوت تتمسّك برائحتها الخاصة، فلكل بيت رائحته، وتتشابه بيوت مع غيرها بشكل مفاجئ؛ أذكر أني سألتُ قريبًا لي: كيف هي رائحة بيتي؟ قال بحنان فاضح: كرائحة بيت أمي! وأعلمُ جيدًا أنّ أمه لا تعرف البتة أي عبق أخصصه لرائحة بيتي! أتراه رأى فيّ شيئًا منها فسجّل أنفه لذهنه أنّ المكان يشبه صاحبته، فتماثلت الرائحتان؟! ربما وربما!
لا زلت أتساءل دومًا عن رائحة الخوف التي كانت تفوح مني كلما شاهدت كلبًا يمر أمامي فيلتفت إليّ مهاجمًا أو راكضًا، وعندما بدأت آلفُ الكلاب تبخّرت هذه الرائحة، ولم تعد الكلاب تلتفتُ إلي! بل صارت تهزّ ذيلها كلما نظرتُ إليها باسمة، أين ذهبت رائحة خوفي؟ أريد أن أتعرف إليها أنا الأخرى! وهل استبدلها جسدي برائحة الحب مثلًا والألفة؟ كيف هي رائحة الحب إذن؟ ربما تكون كرائحة البرتقال المصريّ القوية، أو كرائحة الياسمين الشامي الناعمة، أو كرائحة الكاري الهندي المشاغبة. ويحي! أنا الآن أسِمُ الروائح بالقوة والنعومة والمشاغبة، فكيف تستجلب الرائحة من الإنسان وسمًا مخزونًا في ذاكرته مرتبطًا بوعي ما، بموقف ما، بمعرفة ما!
يزعمون أنّ قوة الشمّ عند الإنسان تتحكم بقوة الذائقة، فأقوى الناس شمًّا أقدرهم على التذوق والتمتع بالطعوم، إنهم لا يوفرون جهدًا، فالحُليمات الكثيرة الوفيرة على ألسنتهم تتعاضد مع قوة شمهم، وهم بالتالي أكثر الناس حظًا للإصابة بالسمنة، فلتسعدوا أيها الشجعان! يا من تغامرون بقوة أنوفكم فتتذوقون ما لذّ وطاب من الطعام الغريب، طمعًا في اكتشاف المزيد والمزيد من أسرار الحياة، نعم، فحضارة الإنسان الأولى أعلنت عن وجودها حين تعلم الإنسان الطهي والطبخ وبدأ شمّ الطعام، وتاجر بالبهارات بأغلى الأثمان حتى يزكم أنف معدته! (يرحمك الله يا معدتي).
لهذا، كلما زرتُ بلدًا أحرص على شم أرضه، وذلك بزيارة سوق البهارات فيه، البهارات هي تلك الحكايات الشمية التي تحكيها كل أرض، حكاية الكاري الهندية، وحكاية الزعتر الفلسطيني، وحكاية الفلفل المكسيكية، ولا أجمل من حكاية الهيل السعودية! أذكر جيدًا كيف كانت تدمع عيني أيام الغربة الاختيارية -للدراسة خارج الوطن- كلما شممتُ رائحة القهوة السعودية، كنت أشربها دومًا بفنجال دامع!
تتعاطف الرائحة مع سنوات العمر، وتتغير بتقدمه، فللجدّات روائح لا يشبهها شيء إلا الحنان، أظن العطّارين لو أرادوا صناعة عطر برائحة الحنان فسيكون كعطر الجدّات؛ ناعم بقوة، وفيه شيء من الصندل والليمون وقليل من الورد. وتتآمر الرائحة مع الحزن، والألم لها مُصالح، فكم من عطر أحببناه ثم كرهناه نفورًا من ذكرى أليمة صاحبها مرة أو مرتين. وتتعاضد الرائحة مع ظاهرة (الوحام) التي تعانيها الحُبلى من بنات حواء، فتكره رائحة في حملها رغم حبها لها قبل الحمل، ويستمر هذا البغض لباقي أيام العُمر. والرائحة حسّاسة جدًا تجاه النوم، تحضر لتفرده بعبق له هو وحده، تفوح رائحة النوم عند أول الاستيقاظ، وتتعمّق في الشتاء لطول السبات، فيستيقظ الإنسان متمسكًا بها لطول بقائه في فراشه، حتى إذا غسل وجهه تبدأ بالتسرب منه رويدًا رويدًا. ولا أعجب من المتطيّبين قبل النوم، ولسان حالهم يقول بأنهم في استعداد للولوج إلى عالم الأرواح، وربما التقوا هنالك بأحبة في أبهى رائحة.
أمّا المكتبات وسكّانها الكرام من الكتب والصحف، فهي أكثر الأماكن عجبًا في الرائحة، تحمل المكتبات عبقًا شريفًا يشبه قيمة العلم وأهله، تفتح الكتاب فتفوح رائحة الورق، فتجذبك إليه أكثر، تمسّد عليه بافتخار، ولربما مزّق جِلد بصمتك ليفوز بنقطة دم تختلط برائحته ليكون العهد بينك وبين القراءة، عهد من عبق غريب لم أجد له مثيلًا بعد. ولا بأس لو عطست مرة أو مرتين حين تفتح كتابًا قديمًا، إنها فورة الزمن وإعلان الخط بوجود الإنسان. وتتضخم هذه الرائحة في معارض الكتب، خصوصًا عندما تخالطها روائح البائعين والقرّاء النهمين الذين يلمسون كل كتاب تقع عيونهم عليه، ففي معارض الكتب أنت تشمّ رائحة (شراهة القراءة) وربما (أبخرة العقول) الجائعة إلى المعرفة.
ترى، هل الخاتمة في كل شيء لها رائحة؟ خاتمة الحديث هنا مثلًا؟ وخاتمة العام 2024؟ وخاتمة الموسم الثاني من سياق؟ نحن على موعد إذن مع رائحة النهايات السعيدة، لذلك سأوقد نارًا، وأحرق خشب العُود مع رشّة من مسك، وكثير من ورد، هكذا أريدها رائحة الختام، والسلام.
Comments