top of page

صدى | العطر وتداعيات الذاكرة: (الرائحة من منظور العلم والفلسفة والأدب)

سياق

هناء جابر

كاتبة وروائية سعودية





تقف مارثا المكتئبة في مشهد من فيلم (pieces of a woman) في مركز تجاري أمام صندوق التفاح، تحدّق فيه طويلًا، تلتقط بيدها ثمرة، ثم تقرّبها إلى أنفها ببطء، وتشمّ رائحتها.

فقدت مارثا طفلتها بعد ولادتها مباشرةً، فعاشت تجربة مريرة، اكتئاب ما بعد الولادة مصحوبًا بحزن الفقد المُعقّد.

_ هل كان جسد الطفلة باردًا أم دافئًا عندما حملتيها؟

_ لا أذكر ذلك.

_ هل لاحظتِ أن قدميها تتحوّلان إلى اللون الأزرق؟

_ لم أنظر إلى قدميها.

_ هل نظرتِ إلى يديها؟

_ لا.

_ ماذا لاحظتِ إذًا؟

_ كانت رائحتها كرائحة تفاحة!


استحضرتُ هذا الحوار وأنا أقرأ كتاب (الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة)، الذي تناول موضوع الرائحة بشكل موسَّع ومستفيض، وهو موضوع قلَّ البحث فيه. كتاب فريد من نوعه، يغلب عليه الطابع العلمي ولا يخلو من مسحةٍ أدبية. الشمّ هذه الحاسة الكيميائية الغامضة في العديد من جوانبها، حاسة شديدة الانغماس في حياتنا العاطفية والانفعالية، تؤدي دورًا مميّزًا في الكثير من العمليات النفسية ونماذج السلوك، وتؤثر في الحياة الجنسية بصفة خاصة. ضرورية لعملية الذوق، ولها وظيفة الإنذار وقت الخطر.


استعرض الفصل الأول من الكتاب التاريخ الثقافي والعلمي للرائحة. يرى الكثير من الفلاسفة الشم واللمس أمورًا سوقية، وترتب على ذلك جزئيًا عدم إجراء أبحاث على عملية الشم والإحساس بالرائحة. ثم تصاعدت نسبة الازدراء تجاه العواطف والجسد على العموم في عصر "الثورة العلمية" التي وجّهت جُلَّ تركيزها إلى العقل. أحالت الفلسفة التجريبية الإنجليزية المعارف الإنسانية إلى الحواس. وكان الطب هو الدافع الأكبر وراء الاهتمام المتزايد بحاسة الشم، وأدى اهتمام الناس بهذه الحاسة إلى تطور في علم الكيمياء وعلم البكتريولوجي. ولقد أفادت الأدبيات الأنثروبولوجية بأنّ الأقوام البدائية كانت تشم بصورة أفضل مما نفعل نحن في الوقت الراهن.


إنَّ أول إدراك حسي للإنسان على قيد الوجود وحتى قبل أن نولد هو رائحة النخط (سائل الرحم). يستطيع الجنين الشمّ بدءًا من الشهر الخامس، يثبّت ذوبان الروائح في السائل الرحمي انطباعات ذات قيمة حيوية كبيرة بالنسبة لنمو الجنين الفسيولوجي والنفسي. ويمكن للشم أن يخلق روابط للذاكرة تنطوي على بعض الأهمية للنمو العقلي ولعملية الارتباط بالأم.


تستثير رائحة الزبدة حركات المصّ والرضاعة لدى الرضع، إنها رائحة مألوفة ومأمونة مثل رائحة الأم.

وفي فترة المراهقة يكتشف المراهقون إزاء إفراز هرمونات الجنس روائح زكيّة تصدر عن مواد كانوا يبغضونها، مثل: المواد ربيبة الفرمون كالمسك، وينفرون من روائح كانوا يقبلون عليها، مثل: الفانيليا والفراولة. ثم تصبح الاستجابة للروائح عند البالغين أشد ذاتيّة وزخمًا في ترابطاتها مع التقدم في العمر. إنَّ سنوات الحساسية الشمية الذهبية هي سن الثلاثين، وتظل مستقرة بشكل معقول ما بين الخمسين والستين من العمر، ثم يتدرّج فقدان الإحساس بالشم لدى المسنين إلى درجة الفقدان الكامل للحساسية الشمية تجاه الروائح ويُفقد ذلك ببطء. ولذلك يواجه المسنّون خطر قضاء نحبهم في حوادث الدخان السام والنيران وتناول الأطعمة الفاسدة؛ بسبب عدم القدرة على شم رائحتها.


حين نتكلم عن القدرة الشمية لدى الجنسين، فإن النساء يحقّقن بها تفوّقًا على نظيرتها عند الرجال من الوجوه كافة، فهنّ يتلقين الروائح بتركيز أكبر، كما أنهنّ أكثر إفصاحًا عن رأيهن فيها من حيث تأثيرها الطيب أو الخبيث، وكذلك أنوفهن أكثر حساسية إزاء روائح الجسم وتمييز رائحة العرق والأنفاس لكلا الجنسين. وهن أكثر قدرة على تسمية الروائح، ولعلّ مرد ذلك إلى أنّ الحسّ اللغوي لديهن أفضل. كما أن القدرات الشمّية تتدهور أسرع لدى الرجال مع التقدم في العمر.


كلنا ندرك تلك العلاقة بين الروائح والذاكرة العشوائية، فرائحة الطباشير مثلًا كفيلة بتحفيز الحديث عن سنوات الدراسة الأوليّة. إنّ صور الذكريات التي تبعثها الروائح تحمل بين طياتها شحنة انفعالية أكيدة.

وفي هذا الإطار أتذكّر قصة سيّدنا يوسف -عليه السلام-، التي تستحضر هذه العلاقة بين الروائح والذاكرة من خلال قميص يوسف واستحضار والده يعقوب -عليه السلام- لرائحته بعد سنوات من الفَقد وتباعد الأماكن: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: 94].

ذكر المؤلف في هذا السياق قصة امرأة ظلّت حبيسة في مصعد كهربائي لمدة ساعتين لانقطاع التيار الكهربائي، وكانت تضع عطرًا، عندما استخدمته فيما بعد داهمتها نوبة من نوبات رهاب الاحتجاز في الأماكن المغلقة.


في ثنايا القصص والروايات كثيرًا ما نصادف الروائح. في رواية باتريك زوسكيند الشهيرة "العطر" كانت الرائحة محور الحكاية. البطل غرينوي، الذي ولد وسط سوقٍ للسمك موبوء بالروائح الكريهة، وُلِد دون رائحة تخصّه، ولكنه امتلك حاسة شم فائقة، ليتحوّل إلى قاتل غريب الأطوار، يرى أن أجمل الروائح هي عبير الفتيات العذراوات، اللواتي في سن الـ17 عامًا، فيسعى إلى قتلهنّ ليستخلص منهن العبير، ثم يُصنِّع منها عطورًا بشريَّة.


ومَن يعرف مارسيل بروست، يعرف بالتأكيد قصة رائحة كعك المادلين المغموسة في الشاي، وذلك الإحساس بالنشوة الذي كتب عنه، إذ كانت تستثير هذه الرائحة ذكرياته عن كومبري، الموضع الذي عاش فيه سنوات شبابه. كانت عمته تعطيه قطعة من الكعكة مغموسة في الشاي كل صباح أحد.


العديد من الروايات العربية مليئة بالروائح، من الهيل والزعفران والحنّاء والأنوثة والفحولة والعرق والمرض إلى رائحة البارود والجثث والموت. يحضرني منها: (روائح ماري كلير) لحبيب السالمي، و(روائح المدينة) لحسين الواد.


احتلّت العطور في ثقافتنا موقعًا لا محل فيه لوظيفتها القديمة المتمثلة في إخفاء روائح الأبدان. لكن مهما كان العطر مقبولًا، مجرد إدراك أنها روائح اصطناعية، فإن استجابة الرجل الجنسية لها تكاد تكون معدومة.

يمثل عضو الشم الفعال شرطًا لا غنى عنه في تبلور وتجلي السلوك الجنسي، ويبدي الرجال والنساء اختلافًا طفيفًا في دوائرهم العصبية الشمية المخية، وهذا الفارق هو المسؤول عن الاختلافات بين الجنسين على صعيد الاشتهاء الجنسي.


في فصل التداوي بالعطور تحدّث المؤلف عن دور العطور في مداواة الأمراض العقلية والجسمية، ومع أن الأبحاث التي أُجريت حتى الآن ليست شافية ولا مقنعة بصفة عامة إلا أن هناك أمثلة شائعة على ذلك: فالمسك يؤثر في الملانخوليا، روائح الريحان والنعنع الفلفلي تزيد الانتباه واليقظة، خشب الصندل والأوريجانو والليمون والبابونج تساعد على الاسترخاء، ولرائحة الخزامى تأثيرها في الربو وحساسية الجلد والأرق والقلق، ويفيد الورد عند الشعور بالإحباط والاكتئاب. كما تُعدّ رائحة البحر مثيرة للاسترخاء وهي تذكرنا بسائل الرحم المحيط بالجنين.


هل بإمكانك تمييز رائحة ملابس الأشخاص المقربين من بين العديد من الملابس المتشابهة؟ وهل تعتقد بأن لك رائحة خاصة يميّزك بها الآخرون؟

أثبتت التجارب أن لكل إنسان "جواز سفر شميّ" خاص به، وأن النساء تحديدًا لهن تلك القدرة البارزة على تمييز ملابس أزواجهن على الدوام.


تُرى ماذا يحدث عند تدني القدرة على الشم أو زوالها؟

إنّ لهذه المشكلة عواقب وخيمة، فكيف يتحقق المصاب من تحلل اللحوم أو احتراق الطعام أو تسرب الغاز. إنّ فقدان القدرة الشمية يمكن أن يتسبب في نشوء الاكتئاب فضلًا عن مفاقمته.

كما أن الذاكرة العرضية لا تعود تعمل بكفاءة فحاسة الشم تنشّط الذكريات، وبذلك تفقد حياتنا قدرًا من جمالها وجودتها خاصة في المجالين العاطفي والجنسي.

من الجدير بالذكر أن الأطباء قديمًا عمدوا إلى استخدام الأنف لتشخيص بعض الأمراض، فمثلًا:

في حالة داء السكري رائحة أنفاس المريض أقرب إلى رائحة الأسيتون. في حالة ضعف وظائف الكلى يصدر عنها رائحة تشبه رائحة السمك. أما رائحة الثوم فتشير إلى حالة من حالات التسمم. كما أنهم كانوا يميّزون رائحة الغرغرينا وتآكل العظام وسرطان الرئة.


هناك اختلالات مكتسبة من الممكن أن تتعرض حاسة الشم لها، يطلق عليها: معسرات الوظيفة الشمية. التي منها: الفقدان العام للقدرة الشمية. ضعف الشم. فَرْط الشم وهو الحساسية المفرطة لبعض أو كل الروائح. وهناك عُسْر الشم الذي يتميز بالتبدل المستمر، وبنشوء الإحساسات الشمية العشوائية. وكذلك الهوس الشمي الذي لا يشمّ صاحبُه إلا الروائح الكريهة. وخطل الشم الذي تتغير بمقتضاه خواص الرائحة بصورة منتظمة. أما الازدواج الشمي فإن المصاب به قد يحبِّذ رائحةً اليوم كان يراها بالأمس تزكم الأنوف، وهذا النوع من الإصابات يجعل من تناول الطعام مهمة مرهقة. وأخيرًا العماء الشمي، وهو عدم القدرة على تسمية الروائح بأسمائها وتمييزها من غيرها.


عالج الكتاب موضوع الرائحة سواء في المكتبة العربية والعالمية بشكل موسوعي تخصّصي، مع أنَّ دراسة حاسة الشمّ وارتباط الروائح بالانفعالات والعواطف من الناحية العلمية تقابلها الكثير من المعوِّقات، فحاسة الشم ليست في متناول القياس ولا يمكن رسم خريطة لها كالمشاهدات التي تؤسس على الإحساس بالضوء أو الصوت. ولا بُدّ أن يكون ميدان التجربة والجهاز المستخدم خاليين من أي رائحة، وهذا ما يؤدي إلى صعوبات في التجارب ومشكلات تقنيّة، كما أن الناس تظهر تباينات واسعة في حساسيتهم للروائح وتقديرهم لها مما يزيد من تعقيد البحوث.


صدر الكتاب عن مشروع كلمة، وجاء في تسعة فصول، وبلغ عدد صفحاته 350 صفحة تقريبًا، لمؤلّفه بيت فرون المتخصّص في علم النفس، وساعده على كتابة هذا الكتاب كلٌّ من: أنطون فان أمرونغين أستاذ متخصِّص في الدراسات البيولوجية، وهانز دي فرايز باحث في مجال علم النفس اللُّغوي وآليَّات قراءة النصوص. وترجم الكتاب د. صديق محمد جوهر.


يقول بشّار بن برد:

دُرَّةٌ حيثما أُديرَت أَضاءَت

وَمَشَمٌّ مِن حيثما شُمَّ فاحا

وَجِنانٌ قال الإِلهُ لها كوني

فكانت روحًا وَرَوحًا وَراحا.


أحدث منشورات

مقدمة العدد | طيب على طيب

هيئة التحرير دورة أخرى من سياق اكتملت، ووصلت الرحلة وقفتها الأخيرة بعد محطات تنقلنا فيها بين تجارب وموضوعات كانت أشبه بسياحة ثقافية،...

Comments


bottom of page