د. سماهر الضامن*
«يا أختي الكبرى! كل الأشجار في العالم أشقّاء!»
تشكلت في ثمانينيات القرن الماضي تياراتٌ عديدةٌ تتبنى مبادئ الدفاع عن البيئة وتنادي بأهمية إيجاد نظام أخلاقي بديل لنظام مركزية الإنسان. وكانت التيارات النسوية البيئية eco-feminism (الإيكونسوية) من أبرز هذه التيارات المنادية بضرورة مراجعةِ نظامِ القيمِ السائدِ والاستعاضة عنه بنظامٍ يضع البيئة في المركز الذي احتلّه الإنسان واستغله استغلالا عدوانيا تجاه بقية الكائنات. ترى النسوية البيئية أن النظامَ الاجتماعي/الأخلاقي السائد عالميا نظامٌ قائمٌ على الاستغلال، وأن الاستغلالَ بتعدد أشكاله لا يخرج عن صيغة كبرى وهي استغلال النظام الرأسمالي الصناعي الذكوري لكل ما يمكن استغلاله والسيطرة عليه، كما أن أشكالَ الاستغلال متسقةٌ ومنتظمةٌ ومتصلةٌ، فاستغلالُ النساء والأطفال مثلا لا ينفصل عن استغلال البيئة والحيوانات وجميع الكائنات الأخرى. كثفت هذه الحركاتُ نشاطها البحثي، وتناولت مجالات عديدة كانت من حصيلتها الوفيرة دراساتٌ متخصصةٌ في تحليل سياسات توزيع الطعام والحميات الغذائية. وجادلت بعضُ تلك الدراسات أنّ الرجالَ استأثروا تاريخيا بتناول اللحوم (للاعتقاد السائد بحاجة الذكور للتغذية النوعية المساندة للأنشطة الجسمانية التي يمارسونها في العديد من المجتمعات والتي تتطلب قوةً عضليةً مضاعفة)، أما تغذية النساء والأطفال فكانت تعتمد في الغالب على المصادر النباتية أو ما يتبقى من ولائم الرجال. لم تكن التيارات النسوية البيئية هذه تسعى إلى منافسة الرجال في مجالات التغذية، أو تطالب باقتسام وجبات اللحوم مع الرجال، بل كانت في أغلبها تطالب بأن يتبنى الجميعُ نظاما غذائيا قائما على مراعاةِ حقوقِ الحيوان، كما تنادي بوقف استغلال الحيوانات وإنهاء العنف الممنهج ضدها، والذي تحوّل مع الوقت إلى ممارسةٍ طبيعيةٍ لدى البشر.
هل يمكن الزعمُ بأن تلك الحركات والمقولات النسوية البيئية هي مصدر الإلهام، أو المرجع الأيديولوجي لرواية «النباتية» للكورية الجنوبية هان كانغ، الصادرة عام ٢٠٠٧، والفائزة بجائزة البوكر العالمية عام ٢٠١٦؟ الشائك أن الرواية، في مستواها السطحي، لا تقول إلا بمقدار ما يصعّد الحيرةَ ويولّد التساؤلات ويترك القرّاءَ معلقين هناك في غابة السرد –وغابةُ السرد هذه ليست غابةَ أمبرتو إيكو، بل الغابة الحصرية لهذه الرواية التي تنتهي أحداثُها بما يشبه توهان الصوت السارد في الغابة، دون بلوغ نهايةٍ من أيّ نوع، ودون الإفصاح أو التعالق مع أي فكرة ايديولوجية أو عقلانية. تقرر البطلة وونغ هيه أن تصبح نباتيةً بين عشيّة وضحاها. ولم تقدّم على امتداد الرواية أيّ سبب «منطقي» يُقنع الشخصياتِ التي حولها بوجاهةِ قرارها، بل كانت ترد أنها رأت حلما. كما أنّ السرد في مستوياته الأعمق لا يحاول الارتباط بأيّ أيديولوجية. على أن الروايةَ في الوقت ذاته تقول كل شيء عن العنف المجتمعي ضد النساء، وقمع الاختلاف، وعن وحشية النظام الغذائي المتعارف عليه (وهي الوحشية التي تظهر على شكل أحلامٍ وذكرياتٍ وهلاوسَ للشخصيات)، وعن رعب السلطة والسيطرة التي يمارسها المجتمع بمؤسساته على الأفراد الخارجين على الأعراف، حتى وإنْ تعلّق ذلك الاختلافُ بمسألةٍ في غايةِ الخصوصيةِ كالحميةِ الغذائية. لكن هل هذه المسألة الخاصة والحميمة هي حقّا قرارٌ شخصي؟ هل يتوقف أثرُها عند صاحبها؟ كيف يمكن أن يتأثر الآخرون بها؟ كيف يمكن أن تغيّر النظامَ الأخلاقيَّ للأشخاص؟ وأين يمكن أن تنتهي أصلا؟ وما موقف المنادين بتبنّي الأنظمة الغذائية الأخلاقية من تناول النباتات؟ أوَلسنا في النهاية أرواحا مثلها؟ أو كما قالت وونغ هيه لأختها إن هيه: «كل الأشجار في العالم أشقاء.» أحسبُ أن هذه العبارة تكثف رسالةً مهمةً في الرواية، وأزعم أن قراءتها بلغتها الأصلية تنطوي على شحنةً عاطفيةً أكثر تركيزا مما استطاعت الترجمةُ أن توصله.
لا يمكن، كما أرى، أن تُقرأ روايةُ «النباتية» خارج هذه السياقات سواءً تبنّت الكاتبة موقفا أيديولوجيا أم لا. فالبطلة، أو الشخصية التي يدور حولها الحدث الأساسي، شخصيةٌ سالبةٌ في الرواية. إنها لا تتحدث أبدا بضمير المتكلم، بل يتحدث عنها الآخرون، ونعرف روايتها من زوجها أولا، ثم زوج شقيقتها، وأخيرا أختها الكبرى. أما هي فلا صوت لها، ولا وجود ربما، إذ تعتقد أنها تحوّلت إلى شجرةٍ وترغب أن يتعامل معها الجميع على هذا الأساس: «يا أختي! أنا أقف على يديّ، وأوراق النبات تنمو خارجةً من جسمي، والبذور تبزغ من يدي وتشق طريقها إلى باطن الأرض. بلا نهاية».
يشي عنوانُ الرواية، لسبب ما، بأننا سنقرأ مرافعةً مع النظامِ الغذائيِّ المعتمد على المصادر النباتية أو ضدّه (ثيمة الحميات الغذائية عموما ثيمة نادرة الظهور في السرد الروائي، ناهيك بأن يخصّص لها عملٌ روائي كاملٌ ثم تفوز بأهم جائزة دولية للرواية؟)، إلا أن مسألة الحمية النباتية لا تشكل سوى واجهةٍ هادئةٍ لعالمٍ صاخبٍ عنيفٍ تقدّمه هذه الرواية. إنها روايةٌ حول الاختلافِ والعنفِ وتصادمِ الرغباتِ مع المسلَّمات، ثم حول تفاعلِ المجتمعِ بمؤسساته الصغرى (الأسرة) والكبرى (الجهاز الصحي- في حالة الرواية هنا) في توجيه الاختلاف وقمعه إنْ لزم الأمر.
تقرّر امرأةٌ عاديةٌ، متزوجةٌ من شخصٍ عاديٍّ، وتنتمي لعائلةٍ عاديةٍ، ذاتَ يوم أن تغيّر نظامَها الغذائي. حدثٌ يبدو غير ذي قيمة لمسار الكون أو حتى للمحيطين بهذه الشخصية، لولا أن الرواية تصعّد الحدث وتأخذه إلى أقصى ممكناته، وتختبر أشدَّ أشكاله تطرفا، وهنا تحديدا يكمن، في رأيي، امتيازهَا وتميّزَها. تطرح الرواية فكرةَ العنفِ الكامنِ في الأشياء حين تميل إلى التطرف، وكيف يمكن لفكرةٍ أو حدثٍ يبدو في ظاهره سلميا ورحيما أو جميلا (كالحمية النباتية المرتبطة كثيرا بمسوغات أخلاقية كاحترام حقوق الحيوانات ورفض استغلالها لصالح الإنسان) أن يتحول إلى حدثٍ لا يقل عنفا أو قبحا مما يقابله في الطرف الآخر (تدمير الأسرة، التطرف في الامتناع عن تناول أي طعام، الخروج على النظام الأخلاقي للمجتمع…). فبسبب هذا الحدث العادي والعابر، الذي هو تحوّل وونغ هيه للنباتية، والذي لم تكن له مقدماتٌ أو أسبابٌ منطقية، يتأثر زواجُ البطلة، إذ تمتنع وونغ هيه عن طبخ اللحوم وترفض وجودَها في المنزل (مما يعني أن حمية زوجها- المحب للحوم - ستتأثر)، ثم تتصرف بغرابةٍ أمام الآخرين، وتمتنع عن ارتداء حمالات الصدر، مما يبرز أعضاء جسدها الأنثوية بشكل صارخٍ ومحرجٍ حسبما يرى زوجُها الذي بدأت تصرفات الزوجة تؤثر على صورته ومكانته الاجتماعية وحتى الوظيفية. بل إن وونغ هيه تمتنع عن معاشرة الزوج وتخبره بأنها لا تطيق رائحة جسده إذ تفوح منه رائحةُ اللحوم التي يتناولها. تتجاوب عائلةُ وونغ هيه مع الحدث بشكل عنيف، فالزوج ما زال يحظى بمكانة مهمة في الثقافة الكورية، وإرضاؤه متوقع من الزوجة التي لا يُقبل منها العنادُ والطيش. إذ لا يمكن أن يقف أفراد العائلة متفرجين في مجتمعٍ يميل إلى تنميط أفراده وتقليص الفروق بينهم قدر الإمكان. لم تتعامل العائلة مع قرار وونغ هيه بوصفه خيارا فرديا خاصا يتعلق بحمية غذائية، بل تعاملت معه باعتباره انزياحا أخلاقيا ينبغي ردّه إلى جادّة الصواب. ولا يمكن في هذا الجزء من الرواية تجاهلُ عنفَ الأب وموقفِه الحادّ من المسألة، كما لا يخفى الجانبُ الرمزيُّ الذي يمثّله الأب وهو السلطة المجتمعية الأبوية.
تنتقل الرواية في الفصل الثاني إلى مستوى مركّب من الانزياح الأخلاقي المترتّب على هذا الاختيار الغذائي. ننتقل مع شخصية زوج الشقيقة الكبرى - الفنان التصويريّ المغمور- الذي تولع بجسد وونغ هيه حين تخيّله مادةً فنيةً حيّةً لأحد أعماله لا سيّما حين سمع من زوجته عن الوحمة المنغولية الخضراء في جسد أختها فبدأ يتخيلها وهي تتحول إلى جسد يُعشب ويُزهر. حين عرض فكرته على وونغ هيه، التي بدا أنها لم تعد في كامل قواها العقلية آنذاك، وافقتْ على الفور ومن دون أي نقاش. لكن الأمر لم يقف عند حد رسم الورود على جسد وونغ هيه وتصوير ذلك المشهد، بل تعدّاه مندفعا إلى أقصاه ليندمج فيه الفنُّ بالرغباتِ الجامحة، الرغباتِ التي لا تمرّ عبر مرشّحات النظام الأخلاقي المعترَف به. لكنها تمرّ في عالم هذا الفنان الذي كان من الواضح أن معياره الأخلاقي قد تحوّل تماما. لكن إلى أي مدى يمكن أن يسمح للفن بالانزياح عن هذه المعايير قبل أن يتحول إلى مشاهد أو صور بشعة منفرة، وقبل أن تتدخل السلطات الاجتماعية والأخلاقية لردعه؟
حين يأتي دورُ الساردة الأخيرة، الشقيقة الكبرى لوونغ هيه، نجد أن أثرَ هذا القرار الشخصي قد تجاوز وونغ هيه ليدمّر جميعَ مَن كان حولها. تضطر إن هيه للتعامل مع موقفٍ صادمٍ وموجعٍ لها على المستوى الشخصي والعائلي حين شاهدت عن طريق الخطأ العملَ الفنيَّ الذي لم ترَ فيه سوى علاقةٍ جسديةٍ فجةٍ بين زوجها وأختها الصغرى. تقرر الأخت الكبرى أن تتعامل مع الموقف على أنهما مريضان مختلان عقليا. تنفصل عن زوجها الذي اتهمته باستغلال الوضع العقلي المضطرب لأختها؛ تبلّغ عنه السلطات الصحية أولا، وتُودع أختَها في مصحّ طبيّ. ونتابع معها من المصحّات الانهيارَ العقليَّ والجسديَّ التدريجيَّ لشقيقتها (ولها أيضا بشكل غير معلن) حيث نشهد هناك مستوى جديدا من العنف المؤسس في التعامل مع المرضى الذين يرفضون العلاج، ولا تخفى الإشارات للنظام الصحي كإحدى مؤسسات القمع المجتمعي، أو المؤسسات المخوّلة بممارسة العنف لإعادة الأفراد الخارجين عن المقاييس إلى الوضع الطبيعي، وغير ذلك من أفكارٍ أسّسها ميشيل فوكو في اختراع العيادة.
يظهر سردُ الشقيقة الكبرى في هذا الفصل مشوّشا. تتحدثُ عن كل شيءٍ إلا عن مشاعرها تجاه أختها التي تسببت في انهيار زواجها. هل كانت تشعر بالذنب لوضعها في المصحّ انتقاما؟ هل كانت بريئة كما تبدو وهي تتعامل مع أختها الصغرى باعتبارها مريضة ومختلة عقليا وبحاجة إلى المساعدة الطبية؟ لقد ظلّت الأخت الكبرى هي الفرد الوحيد من العائلة الذي يعتني بوونغ هيه ويزورها في المستشفى. نشهد في هذه المرحلة أيضا عنف وونغ هيه في مقاومتها لكل أشكال «الإصلاح.» يتحدث الجميع عن الطاقة والقوة الجسدية الغريبة التي تصدر عنها في لحظات المقاومة للإجبار على تناول الطعام - حتى النباتي في هذه المرحلة - لاعتقادها بأنها تحولت إلى شجرة ويمكنها الاكتفاء بالماء والضوء لتعيش. كل شيء يتداعى حول الشقيقة الكبرى، حتى هي نفسها تبدأ بالانهيار. ينبّهها الطبيب الذي يعالج أختها بأن التعب قد أصبح باديًا عليها: «بشرتك ليست على ما يرام… الذين يعتنون بغيرهم عليهم أن يبقوا أصحاء…» (١٧٢). ويبدو أن حالتها تزداد سوءا لكلّ من يراها حتى إن موظفَ الاستقبال في المصحة الجديدة التي أودعت فيها أختها سألها: من منكما المريضة؟ وهكذا لا نعرف، قريبا من نهاية الرواية، إن كانت هي أيضا في كامل قواها العقلية أم أن هلاوسها بدأت تطغى أيضا على واقعها: «لقد أدركت آنذاك أنها أصبحت لا تبالي بالمختلين عقليا. فبعد كل تلك المرات التي ذهبت فيها إلى المستشفى تشعر أحيانا بالاستغراب تجاه البشر الطبيعيين الهادئين الذين يملأون الشوارع» (١٧٣). هي أيضا كما يبدو واحدةٌ من هؤلاء «الطبيعيين الهادئين»، فمحاولاتها التماسكَ والسيطرةَ على الأمور بين إدارة عملها وتربية طفلها ثم العناية بأختها، كل ذلك بدأ يستنزف صحتها وقواها العقلية. لكنها، وسط ذلك كله، كانت تطيل النظر إلى الغابة، وتتخيلها وتتواصل معها، وتتذكر مواقف مع أختها الصغرى فيها. وبينما كانت إن هيه تستنكر على وونغ هيه هلاوسها وسلوكها الشجري، بدا أنها هي الأخرى، تذوب في الغابة وتتوحد معها في مشاهد يختلط فيها الجمال بالرعب، والمريح بالمزعج. مشهد الختام بدا مهيبا رغم جموده، أشبه بغوض في الغابة وترك النهاية في أحضانها.
«النباتية»، أخيرا، رواية لا تتعامل مع المنطق. ولا تُقرأ بشروطه، بل مع الحسّي والطبيعي. إذ يتحكم في البطلة حلمٌ، حالةٌ تسيطر عليها وتدفعها إلى الاستجابة الصافية لنداءٍ ما، قد لا تكون هي ذاتها قادرة على فهمه: «رأيت حلما!»، كانت تلك هي الإجابة التي تقدمها وونغ هي لكلّ من يسأل أو يحاول أن يفهم سلوكها أو يمنطق اختياراتِها. ولعل سلوكها ودوافعها، ومنطقها أيضا، كان أقرب للطبيعة الخام، فالطبيعة لا يمكن عقلنتها وتطويعها دائما لشروط العلم والمنطق والخوارزميات؛ فهي جامحة، عنيدة، صامتة، حنونة، عنيفة. وحين يتوحد الإنسان مع بيئته لا يمكن إلا أن يتطبع بأطباعها ويتصف بصفاتها. وما حدث مع وونغ هيه هو أنها ببساطة عادت للغابة التي تمنت يوما أن تعيش فيها، لكنها عادت كشجرة. وكامرأة، تواجه أيضا مصير الشجرة، تقطع وهي صامتة لأنها لا تمتلك الصوت لتتحدث وتروي أو تعبر عما تريد.
*أستاذة مساعدة بجامعة الملك سعود، دكتوراه في الأدب المقارن والدراسات الثقافية، جامعة آركنسا الأمريكية، مهتمة بدراسات السينما والوسائط الإعلامية– النسوية التقاطعية ودراسات الجندر- الدراسات ما بعد الاستعمارية – نظرية النقد العرقي RTC - الجغرافيا الثقافية والتخطيط الحضري – النقد الإيكولوجي.صدر لها: نساء بلا أمهات؛ الوعي بالذات في الرواية النسائية السعودية. وفي الطريق إلى النشر: المعينة الخفية؛ العاملات المنزليات في الرواية العربية المعاصرة.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments