top of page
نشرة سياق

النقد البيئي: قضايا ومسارات

د. أحمد المنصور


ما النقد البيئي؟ وما القضايا الفكرية التي يرتكز إليها؟ ثم ما بعض مسارات النقاش التي سلكها رواده في تحديد ما يقوم به؟

يستمد النقد البيئيّ يستمد كثيرًا من أفكاره ومنطلقاته من علم البيئة ecology؛ لذلك كان لزامًا أن نتعرّف على بعض أفكار هذا العلم، والنقد البيئيّ علمٌ يافعٌ راج في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته أثناء الحركة البيئية، ويهتم بدراسة مجموعة العلاقات التي تربط الكائنات الحيّة فيما بينها من جهة، وبالوسط المادي الذي يحيط بها (ماء وهواء وتراب) من جهة أخرى. وتشكّل مجموعة الكائنات الحية (بما في ذلك الإنسان) والوسط الذي تعيش فيه ما يسمى بالنظام البيئي ecosystem، كما تشكّل مجموعة الأنظمة البيئية على وجه الأرض العالم الحي biosphere. وترتكز ديمومة الحياة، حسب هذا العلم، إلى خلق توازن دقيق يحكم هذه العلاقات؛ فأيّ تغيّر يُصيب عنصرًا من عناصر المجتمع البيئي (نباتًا كان أم حيوانًا) يؤدي إلى اضطراب فيه، كما يؤدي أيّ تغيّر في وسطه المادي (الهواء أو الماء أو التراب) إلى اضطراب فيه أيضًا. ولهذا يردّ علماء البيئة ازدياد الكوارث الطبيعية (من احتباس حراري، واتساع فتحة الأوزون، والفيضانات، والأعاصير، والجفاف، وبعض الأمراض، والآفات وما شابه ذلك من مآسي عصرنا الحالي) إلى اضطراب في علاقات العالم الحيّ. فمن آثار ازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الغازي -على سبيل المثال- يمكننا أن نشير إلى ازدياد معدلات الحموضة في الأمطار، أو ما يُسمّى بالأمطار الحامضية التي تُضعف بنية كثير من النباتات والأشجار فتضطرب علاقتها مع الحشرات والكائنات المجهرية التي تعيش عليها، كما تؤدي الأمطار الحامضية إلى انخفاض مستويات عناصر الكالسيوم والبوتاسيوم في التربة وبالتالي إلى موت بعض الكائنات المجهرية التي تعيش فيها، كما تؤدي في النهاية إلى تلوث المياه الجوفية. يُظهر هذا المثالُ البسيطُ كيف تترابط موجودات النظام البيئي فيما بينها بعلاقات دقيقةٍ يؤدي اضطرابُها إلى إحداث آثار سلبية متعاقبة.


تقول الباحثة الأمريكية شيريل جلوتفيلتي Cheryll Glotfelty محررة كتاب «النقد البيئي» The Ecocriticism Reader في تعريفها للنقد البيئي إنه يُعنى بـ «دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة (أي الطبيعة)»، وإنّ «البيئة تحتلّ مركز الصدارة في مقاربة النصوص الأدبية»، ولكننا بقراءة هذا التعريف الموجز قد لا نقطع شوطا كبيرًا في فهم رسالة هذا النقد وما يهدف إليه؛ والسبب في ذلك هو أنه قد يعوزنا فهمُ البعد الفلسفي (والأخلاقي) الذي يرتكز إليه هذا النهج، وبالتحديد مقولة إن «البيئة تحتلّ مركز الصدارة»، والتي هي في حقيقة الأمر جوهرُ النقد البيئي.


فما رسالة هذا النقد؟ يسعى النقد البيئي إلى أن يوظف مبادئ علم البيئة -لأن وجود العالم الحيّ يقوم على شبكة من علاقات دقيقة، كما أنّ موجوداته لا تخضع إلى سلّم هرمي يعطي السيادةَ لأي عنصر من عناصرها- في وضع خطاب توعوي يكشف التصوّرات الخاطئة التي يحملها الإنسان عن موقعه في النظام البيئي وعلاقته مع موجوداته، فقد أدّت تصورات الإنسان التي طوّرها عن البيئة عبر التاريخ إلى عبثه بتوازن النظام البيئي، وكانت عواقبُ ذلك أحيانًا كارثية. وبالتالي يطرح هذا النقد -كما فعلت مدارس النقد المعاصر الأخرى- أسئلةً حول مسلّمات الإنسان وافتراضاته حيال ذاته وبيئته وعلاقته بها، فيقدّم تحليلًا نقديًا من زوايا مختلفة لافتراض الإنسان الخاطئ وتوهمه أنه محورُ وجود النظام البيئي وسيّده. يرى رواد النقد البيئي، أمثال لين وايت Lynn White، أن تصوّر الإنسان الغربي لسيادته على البيئة الطبيعية متأصّل في أمرين: الأول يكمن في زيادة قدرات الإنسان التكنولوجية، والثاني في دخول الدِّين إلى المجتمعات الأوربية القديمة. ويرى وايت في نقاش الأمر الأول أن ظهورَ المحراث الأوربي كان له دورٌ حاسمٌ في تغيّر فهم الإنسان لعلاقته بالأرض، فبينما كان المحراثُ الإغريقيُّ القديم يكاد لا يفي بحاجات الفلّاح في تهيئة أرضه، نجد أن المحراثَ الأوروبيَّ مكّن الفلاحَ من تهيئة أرضٍ أكبر من التي يحتاج إليها، وبهذا التحول التقني تحوّلت أهدافُ الإنسان من تأمين حاجاته الأساسية من البيئة إلى زيادة ملكيّته لها. وبذلك لم تعد العلاقةُ بين الإنسان والبيئة علاقةَ تعايشٍ وكفايةٍ؛ بل أصبحت علاقةَ ربحٍ وتسخير. وجاء الأمر الثاني، وهو الدّين، فعزّز أهداف الإنسان في تسخير البيئة بتصوّر يعطي الإنسانَ الحقَّ المطلقَ في أن يفعل بالبيئة ما يشاء، فهي موجودةٌ لخدمة غاياته. من هنا، بحسب وايت، وُلِد تصوّرُ الإنسان نفسَه أنه محور الوجود المادي وأن كل شيء موجود لخدمته، وهو تصور يتعارض مع مبدأ تساوي الكائنات في علم البيئة.


ويردّ نقاد آخرون، أمثال كرستوفر مينز Christopher Manes، توهّمَ الإنسان في سيادته على الطبيعة إلى ظهور علم التأويل في العصور الوسطى. ويفترض هذا العلم أن الظاهرة الطبيعية لها معنى، وأنّ الغاية من وجودها أصلا هو الإيحاء بمعنى يفيد الإنسان، وبهذا أصبح العالمُ كتابًا رمزيًا يعظ الإنسان (النملة درسٌ في السعي والاجتهاد)، ومن علم التأويل هذا جاءت -أيضًا- فكرةُ أن الوجودَ سلسلةٌ عظيمةٌ من الكائنات مرتبة عموديًا حسب الأهمية، يظهر الإنسان فيها فوق رتبة الحيوان، ودون رتبة الملائكة. ثم تحولت هذه السلسلة عند داروين إلى سلسلة التطور التي تبدأ من أشكال حياة «دونيّة» إلى أن ترتقي في تطورها لتنتهي بالإنسان، الذي هو غاية التطور في عالم الطبيعة ومنتهاه عند داروين. ويرى مينز أن نظرياتِ التأويل هذه وضعت تصورًا زائفا لسيادة الإنسان، وافترضت أنّه غايةُ الوجود، وبذلك أقصت الطبيعةَ من الحوار.


في حين يهتمّ نقادٌ آخرون بدراسة اللغة التي يستخدمها الإنسان في الحديث عن الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال، يرى ديفيد ماذيل David Mazel أن لفظة «المحيط البيئي» environment تقتضي وجودَ مشاهد في وسط الإحاطة ليعطي «المحيط» دلالته، ولولا هذا المركز، وهو الإنسان، لما قام لهذا «المحيط» معنى. ويخلص ماذيل إلى أنّ لفظة «محيط» تنطوي على فاعلية الإنسان ومفعوليّة البيئة، كما يُردُّ إرثَ الإنسان الأخلاقي في عدِّ البيئة عنصرًا سلبيًّا وغير فاعل إلى التصوّر الذي تقوم عليه لفظة «محيط». وفي المقابل ترى الباحثة أليسون بايرلي Alison Byrely أنّ تداولَ مفهوم «الجمال التصويري» picturesque aesthetic في الرسم والأدب قد اتّسع في القرنين الماضيين ليطال البيئة البريّة، فحولّها إلى عمل فني يُقتنى. وترى الناقدة في تحليل مضمون هذا المصطلح أنّ فعل التصوير أصلًا ينطوي على تأطير المشهد والاستحواذ عليه، ثم تعرض لنا كيف أن مفهوم المدرسة التصويرية حاضرٌ في كل مشاريع المتنزّهات البرية في أمريكا، مثل متنزه «يلو ستون الوطني» Yellowstone National Park؛ فالإنسان يؤطّر البيئة ويستحوذ عليها بهذه المنتزهات.

كانت هذه بعضُ أفكارِ النقد البيئي في تحليل مسلّمات الإنسان وافتراضاته حيال ذاته وعلاقته بالنظام البيئي من حوله، وننتقل الآن للتعرف على ما يمكن أن يقوم الناقد البيئي به عند مقاربة النصّ الأدبي. إن الناقد البيئى يسعى في تحليله للنص الأدبي إلى دراسة لغة النّص (صوره البيانيّة)؛ ليكشف افتراضاتِ النص ومسلّماتِه حيال البيئة، كما يدرس ما يقع من الإنسان على البيئة، أو ما يقوم به الإنسان في البيئة، ثم يربط لغة النّص بما يحدث ليصل في النهاية إلى تصوّرات النص الضمنيّة عن علاقة الإنسان بالبيئة، ولتحقيق هذه الأغراض المنهجيّة وضعت شيريل جلوتفيلتي بعضَ الأسئلة التي يمكن أن تساعد الناقدَ في فتح أبواب النقاش حول تصورات النص عن البيئة. ويمكن للباحث أن يطرح بعض أسئلتها في دراسته للنّص فيسأل: كيف يتمثل حضورُ الطبيعة في النص؟ ما الأدوار التي تؤديها الطبيعة في النص؟ كيف تؤثر الصور البيانية في لغة النص على تعامل الأشخاص مع البيئة؟ هل للمكان قوامٌ فكريٌّ كما هو الحال مع «العِرق» و«الطبقة» و«الجنوسة»؟ هل لجنس المؤلف دورٌ في شكل تمثُّل الطبيعة في النص؟ إلى أي حدّ تشرّب النص الأدبي بمخاوف الأزمة البيئية؟ ما أثر علم البيئة على الدراسات الأدبية؟ ما الفائدة الفكرية من مزاوجة بعض التخصصات الإنسانية (مثل التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، وتاريخ الفن، وفلسفة الأخلاق) مع الخطاب البيئي؟


يمكن بطرح السؤال الأخير -على سبيل المثال- أن يوظّف الباحثُ فكرةَ «مرحلة المرآة» (عند عالم النفس جاك لاكان Jacques Lacan) في دراسة الشخصيات الروائية التي تولد في الريف وتنتقل إلى المدينة، فيربط بين ذكريات تلك المرحلة النفسيّة بما تفعله الشخصيّة في القصة (أي تطور أحداث القصة)؛ فإدراك الإنسان لذاته -عند لاكان- يولد عندما يتعرف الطفل لأول مرة على خياله في المرأة. ومن خلال هذه الملاحظة المسلكية، يخلص لاكان إلى أن موقع الذات خارجي؛ تكون صورة النفس لذاتها في هذه المرحلة صورة كاملة. ولكن عندما يكبر الطفل ويدخل في المرحلة الرمزية يرى نفسه في لغة الآخر (وكأن اللغة هي المرآة التي تعكس وجود ذاته)، غير أن هذا الوجود هو وجودٌ لغويٌّ مجزّأ وغير كامل (على خلاف صورة الذات الكاملة في مرحلة المرآة)، وتصبح الذات الكاملة -بالتالي- في مرحلة المرآة هاجسا يدفع الإنسان لاستعادة تكامل ذاته. ويمكننا أن نرى دور «مرحلة المرآة» في شخصية «بن سولع» عند علي المعمري في رواية «بن سولع»، أو شخصية «يحيى» عند عبده خال في رواية «مدن تأكل العشب». فتتكرر في ذكريات شخصية «بن سولع» أثناء إقامته في لندن صورة من طفولته تزامنت مع بدء وعيه يظهر فيها غزال محلي (الذي يُعرف في عمان بابن سولع)، وهو يرتشف قطرات الندى من أوراق الشجر لسد رمقه، وتعكس هذه الصورة تكامل وجود الكائن الحي مع الوسط المادي. وأمام تكرار هذه الصورة الطبيعية لعلاقة الكائن الحي مع البيئة، يعرض المعمري في روايته دور بريطانيا -متمثلا في شركات النفط- في تغيير البيئة والمجتمع العماني، كما لا تختلف قصة «يحيى» عند عبده خال كثيرًا، فصورة والد يحيى حافيًا في الحقل تتزامنُ هي -أيضًا- مع بدء الوعي عند «يحيى» وتمثّل ترابط الإنسان الريفي بالطبيعة. ويتكرر حضور هذه الصورة في وجدان بطل القصة أثناء معايشته للأزمة السياسة التي أحدثها تدخّل مصر في شبه الجزيرة العربية، وهي تدخّلات أدت إلى قصف القرية و تدميرها. وتتمثل قصة البيئة في كلتا الروايتين في تنازع صور الطفولة مع الآثار المدمرة للواقع السياسي على البيئة.


يمكن للأزمة البيئة أن تكون حاضرة تماما في النص كما هو الحال في رواية «النبع الصامت» Silent Spring للكاتبة ريتشيل كارسون Rachel Carson، حيث توثق الكاتبة الآثار المدمرة للمركّبات الكيميائية التي يصنعها الإنسان وينشرها في الطبيعة، مثل مبيد الحشرات "دي دي تي DDT"، وبالرغم من أنّ أحداث القصة خياليّة وتقع في منطقة زراعية في أمريكا، إلا أنّ كل ما تصفه في فصول روايتها من أثر مبيدات الحشرات على النباتات، والمياه، والتربة، والطيور، والأنهار، والهواء، والإنسان، مبنيٌّ على تقارير علميّة حقيقيّة. ولذلك، يمكن للباحث أن يدرس القوام الفكريّ للطبيعة كما يظهر ذلك في «والدن» Walden للكاتب ديفيد هنري ثورو David Henry Thoreau؛ فالطبيعة عنده مستقلّة لا تخضع للإنسان؛ بل الإنسان مدينٌ لها بفكره، ويصف ثورو في كتابه تجربته الشخصية التي عاشها في كوخ بناه بيديه في وسط الغابة بعيدًا عن الحضارة، فهي تجربة تستمر مدة سنتين وشهرين، يدون فيها تفاصيل حياته، ويقدم لنا -في الوقت نفسه- الطبيعة من زاوية نظر تعطي للطبيعة فيها -لا الإنسان- موقع الصدارة. وتظهر هذه الأمثلة -وغيرها كثير- أن هناك حيز في الخيال البشري يقرُّ بسيادة الطبيعة في الحياة، ولكن البشر قد تجاهلوه، أو قرروا أن يعيشوا في عَمًا عنه؛ بسبب الوهم الذي نسجته حولهم مفرزات التكنولوجيا.

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa



١١٥ مشاهدة

أحدث منشورات

Comments


bottom of page