top of page
نشرة سياق

كمائن مفهوم النقد البيئي: آفاق للدرس النقدي

سجال

اكتسب استخدامُ النقد البيئيِّ في مقاربته الأدب منذ ظهوره زخمًا مطّردًا يفسّر تبوّؤه مكانةً خاصةً بين دارسي الأدب، وهي مكانةٌ تتوازى مع الاهتمامِ العالميّ بحاضر الكرة الأرضية ومستقبلها، ومع المساعي الحثيثة نحو التدخّل من أجل تخفيف الضرر الواقع على البيئة. وعلى الرغم من الاتفاق الواسع على أهمية هذا المنهج النقدي وحيويته، فإنّ عددًا من النقّاد المعاصرين ما زالوا يعبّرون عن مواقف تُسائل هذا المنهج وتشكّك في مقدرته النقدية في مقاربته للأدب بهيئته التكوينية الحالية -على أقل تقدير-، منطلقين في تساؤلاتهم وتشكيكهم من غموض مفهوم النقد البيئي وضبابية تطبيقاتِه عند تناوله النصوص الإبداعية بالدرس والتحليل، ومقترحين تعهّد المفهوم بمزيد من البحث العلمي والدرس النقدي الجادّ الذي يبدّد عنه الضبابية، ويختبر أدواته النقدية كيما يكون قادرًا على تناول الأدب تناولًا نقديًا مُعتبرًا.

ويرى الأستاذ الدكتور علي الحمود في النقد البيئي مثالًا على تطوّرِ المناهج النقديّة وتعاقبها في الظهور في مجتمعٍ حيويّ دائم التطوّر للتعبير عن حركة منطقيّة لتطوّر الأدب أيضًا، فظهور المذاهب النقديّة يأتي لسدِّ الفجوات الموجودة في المناهج السّابقة، إضافةً إلى محاولة الكشف عن الإبداع بإجراءاتٍ مختلفة. ويعدُّ الحمودُ هذا المنهجَ النقديّ مثالًا على تجسُّد ما يسميه «التعالق بين النقد والعلوم»؛ فالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغة وغيرها مسؤولةٌ عن نشوء عددٍ من مناهجِ النقد الأدبّي الحديث، وعن تطورِّها اللاحق. كما يرى الحمود في نشوء النقد البيئي -استجابةً لدعوات العناية بالبيئة، وتقصّيًا لاهتمام الأدب بالبيئة- أمرًا إيجابيًّا من حيث المبدأ؛ فمحور النقد البيئي البحثُ في العلاقة بين الأدب والبيئة المادية التي يتناولها؛ لأن النقدَ الحقَّ -في رأيه- هو ما نشأ بناءً على نصوصٍ كُتبت في بيئاتٍ محددةٍ وتفاعل معها.

ولا يستغرب الحمود الاهتمامَ الذي لحق أخيرًا بمنهج النقد البيئيّ في المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، مشيرًا إلى جملة من المحاولات التي سعت إلى مناقشة المصطلح وتشكيله والإفادة منه في الدراسات الأدبية، ومنها ندوةٌ عُقدت في وحدة السرديات بقسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود عام ١٤٤١هـ تحت عنوان: «النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات» وكتابٌ أسهم فيه مجموعة من النقاد بعنوان: «النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات»، هذا بالإضافة إلى عددٍ من الرسائل العلمية التي أُنجزت منطلقةً من هذا المنهج.

ومن جهته يردُّ الأستاذ الدكتور عبد الله بانقيب الانشغالَ النقديَّ بالعلاقةِ بين الأدبِ والبيئةِ إلى محاولاتٍ مبكِّرةٍ؛ إذ تزخر المدونةُ النقديةُ العربيةُ -من وجهة نظره- بمحاولاتٍ شتّى رمت إلى ربط الأدب بالبيئة، ويضرب على تلك العناية النقدية بالملمحِ البيئيّ للأدب مثالًا بوضع ابن سلّام الجمحيّ في طبقاته طبقةً خاصةً لشعراء القرى والمدن، إلى جانب المرويّات الكثيرة التي تُظهر أثر تغيير البيئة في شعر الشاعر، كما في قصة تأثر علي بن الجهم ببيئته، وتطبّع شعراء الأندلس بطبع الأندلس نفسها. إضافة إلى ذلك يجادل بانقيب بأنّ دعواتِ بعض النقاد إلى أقلمة الأدب، مثلما فعل كلٌّ من أمين الخولي في كتاب: «الأدب المصري»، ويوسف خليف في كتاب: «في الشعر الأموي: دراسة في البيئات»، ويوسف نوفل في كتاب: «بيئات الأدب العربي في الدراسات المعاصرة» على سبيل المثال، تندرج تحت تصوّرات النقد البيئي من حيث إنها تراعي البيئة المادية للأديب، وتكشف عن التزامِ الأدب باتصالٍ وثيقٍ بتلك «الأزمات البيئية المعاصرة الناجمة عن الاستغلال المفرط لموارد الطبيعة، وما يترتب على ذلك من تهديدٍ لبقاء الأرض والإنسان».

يزيدُ على هذين الرأيين رأيُ الأستاذ الدكتور محمد أبو ملحة الذي يعدّ النقدَ البيئيَّ –بوصفه مدخلًا حديثًا في تناول النص الأدبيّ– نموذجًا لانفتاحِ الدراساتِ الأدبيةِ على مختلف المجالات، وتولّد المناظير المختلفة في تناول النص الأدبي من خلال التفاعل بين الأدب والنقد من ناحية، والسياقات الاجتماعية والفكرية والمجتمعية والعلمية من ناحية أخرى.

ومع اتفاق النقاد –آنفي الذكر– على أهمية النقد البيئي وآنيّة اشتغالاته وتزايد الحاجة إلى تبنّيه في مقاربة الإنتاج الأدبي؛ شعرًا كان أم نثرًا، فإن هناك توجّسًا من ضبابية المفهوم وغموض تصوراتِه، ومن الكيفية التي ينبغي أن يتعاطى بها الأدب مع البيئة، الأمرَ الذي ينعكس على مدى الاستفادة منه في دراسة الأدب وتحليله.

فعلى سبيل المثال، يشدّد بانقيب على أن مفهوم الأدب البيئي لم يتحدّد بعدُ تحديدًا دقيقًا، لا سيّما في الساحة العربية، ولم ينجح في التخلّص من أشكال التعالق النقدي المبكِّرة بين الأدب والبيئة. ويرى أن مسؤوليةَ بلورةِ المفهوم وتدقيقِه ومقارنتِه بما سبقه من مفاهيم منوطٌ بها الإنتاجُ الأدبيُّ البيئيُّ، بحيث يصبح على النقدِ مواكبةُ التراكم الأدبي وفحص مستوى اتصال الأدب بالتصورات الجديدة الواضحة لما يجب أن يكون عليه الأدبُ البيئي. ويهدف ذلك الفحص -في رأيه- إلى «تبيان حدود الالتقاء والافتراق بين التصورين القديم والجديد للنقد البيئي، والإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الذي بقي فاعلًا من المفاهيم القديمة في التصوّر الجديد؟ وما الإضافات التي انفرد بها التصوّر الجديد؟». هذه أسئلة مشروعة، ولن يكتمل منهجُ النقد البيئيّ من دون الإجابة عنها.

أما الحمود فيشير إلى مشكلتين تسِمان واقعَ المنهجِ النقديِّ البيئيّ، إحداهما ذات صلةٍ بموقع هذا المنهج من المناهج الأخرى، بينما تتعلق الأخرى بموقع البيئةِ من اهتماماتِ الأجناس الأدبية وموضوعاتِها. وينسب الحمود منهجَ النقد البيئي إلى مناهجِ ما بعد الحداثة التي يغلب عليها -بحسب رأيه- افتقادُ الرؤى الواضحة وإثارةُ تلك المناهج للاختلاف، ويرى أن النقد البيئي بعدِّه منهجًا تعتريه مشكلات علمية ومنهجيّة عدّة، لعلّ من أبرزها تقاطعه مع المنهجِ الاجتماعيّ؛ فالنقد البيئيّ، بحسب الحمود، ليس إلا «جزءًا من ذلك المنهج وامتدادًا له»، كما أن النقدَ البيئيَّ «بحاجةٍ إلى دراساتٍ تطبيقيةٍ ترسّخ مفاهيمَه ومنطلقاتِه، وتوضّح محدداتِه الفلسفيةَ والفنية».

إضافة إلى ذلك يجادل الحمود بأن النقدَ البيئيّ ما يزال محدودَ الأثر، وإن كان هذا لا يعني رفضه أو الاستغناء عنه، كما يُرجع -أيضًا- محدوديةَ انتشارِ هذا المنهج وانحسارِ أثره إلى جزئيةِ نظرتِه النابعةِ من كونه لا يتناسب مع كلّ الأجناس الأدبية؛ الأساسيّ منها والفرعيّ على السواء، فليس كلُّ جنسٍ أو نصٍّ أدبيٍّ يُولي اهتمامًا بالبيئة المادية. من ذاك أن الشعرَ والروايةَ التقليديتين تهتمّان بالبيئة المادية، كما في الشعر العربي القديم مثلًا، بينما تتعدّى اهتماماتُ كلٍّ من شعر ما بعد الحداثة والرواية التجريبية- على سبيل المثال- البيئةَ الماديّةَ التي تغيب عن كثيرٍ مما يُكتب في هذين الجنسين الأدبييَن.

ولا يذهب أبو ملحة بعيدًا -في رأيه- عن رأي كلّ من الحمود وبانقيب؛ فهو لا يمانع من توظيف مدخل الدراسة البيئية في الدرس الأدبي توظيفًا منهجيًا رصينًا، غير أنه يلفت النظرَ إلى إشكاليةِ تحقُّقِ الاشتراطاتِ المنهجيةِ في هذا المدخل النقدي، وإلى حاجته الماسّة إلى منظومةٍ اصطلاحيةٍ متكاملةٍ تمكّنه من استيفاء أدواته الإجرائية؛ بحيث يصبح توظيفُه في الدراسة الأدبية ممكنًا ومثمرًا. هذه المنظومة الاصطلاحية لم تكتمل بعد، وما زالت بحاجة إلى جهود نقدية حثيثة. ويرى أبو ملحة أن السبيلَ إلى تفعيل منهجِ النقد البيئي ودفعِه نحو النضج العلمي في الوقت الراهن يكمن في «الممارسات النقدية الجادّة التي تفعّله وتختبر أدواتٍ جديدةً في ضوئه وتفترع المصطلحاتِ العلمية المناسبة له»، ومن تلك الممارسات بناء الدراسات العلمية والرسائل الأكاديمية على النقد البيئيّ واتخاذه منطلقًا للدراسة الأدبية.

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مدير التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa


٣٨٥ مشاهدة

أحدث منشورات

Comments


bottom of page