top of page
سياق

خليج الجوائز

د.رانية محمد شريف العرضاوي



د. رانية العرضاوي

تقتضي القيمة التاريخية والثقافية والاقتصادية والسياسية لمنطقة الخليج العربي أن يكون لهذه المنطقة الحضور الكبير في عالم الجوائز الأدبية والثقافية، وليس من المبالغة وصفه ب "عالم"؛ فللجوائز الثقافية والأدبية مسيرة طويلة في ترسيخ وجود المجتمعات والدول على اختلاف حضاراتها وانتماءاتها. والجوائز بعيدة عن الابتداع في مجتمع الجزيرة العربية الذي أجزل العطايا للشعراء مذ وجودهم ومنح الأدباء قيمة عالية، وجعلهم واجهة المجتمع ولسانه بل ووزارة إعلامه -إن صحّ التشبيه- واعيا بالدور الذي تؤديه القوة الأدبية، قوة الكلمة، من التمكين الوجودي للهُوية، وتثبيت السُّلطة المعرفية وأخواتها.


وبالنظر إلى منطقة الخليج العربي، يجد المتابع بأنّ الجوائز الثقافية والأدبية تحرزُ أهدافا ثمينة، من اجتذاب للمواهب العربية والعالمية، ولفت النظر العالمي للقيمة الثقافية العميقة للمنطقة، مع حرص على إبراز الجهود السياسية في تكوين هُوية خليجية متميزة بالمعرفة والثقافة والفاعلية في المشهد الثقافي والأدبي العالمي. إضافة إلى اكتشاف المواهب وتسليط الضوء على العقول الواعية بأهمية الثقافة والأدب؛ مُشكّلة بذلك قوة ناعمة بعيدة الأثر في إبراز الإنسان الخليجي والعربي معا.

إذن؛ نحن أمام حراك "جوائزي" قوي، انطلق من عام 1977 بإعلان جائزة الملك فيصل التي كان من مجالاتها اللغة العربية والأدب، وتوالت بعدها جوائز يُذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- جائزة العويس وجائزة البابطين وجائزة الشيخ زايد وجائزة السلطان قابوس وجائزة الملك عبدالله العالمية وجائزة الشيخ حمد، وغيرها مما يربو على ثلاثين جائزة يرفد بها الخليج المشهد المحلي والعربي والعالمي.


وقد تنوعت هذه الجوائز لتشمل الأدب والترجمة والفنون والثقافة والمنجزات الإبداعية، ومنها ما خُصِّص للشعر كجائزة سوق عكاظ وجائزة أمير الشعراء، ومنها ما انفرد بالرواية كجائزة البوكر للرواية العربية، ومنها ما كان للترجمة فقط وبعضها للمسرح وقليل منها للكتابة النقدية. وبنظرة شمولية يلحظ القارئ بأنّ هذه الجوائز قد ارتبط بعضها بشخصية سياسية أو ثقافية، وبعضها جاء مرتبطا بالمادة الأدبية أو الثقافية. وتأتي هذه الجوائز مرتحلة بين دول الخليج العربي لتكون المملكة العربية السعودية على رأس القائمة بعد انطلاق رؤية 2030 الطموحة، حيث انطلقت أكثر من أربع عشرة جائزة وطنية ثقافية، إضافة للجوائز الموجودة مسبقا، ممّا جعل المملكة العربية السعودية ترعى ما يزيد على عشرين جائزة ثقافية وأدبية محلية وعالمية. وتلتها الإمارات العربية المتحدة في أكثر من ست جوائز، وتقاربت الكويت والبحرين وسلطنة عمان وقطر في عدد باقي الجوائز.


هذا المشهد العامر بصدى الإبداع وتشجيع المبدعين، الكثيف بحضور المجتمع الخليجي ذي الهوية المميزة بالعمق الحضاري استجلب عددا من التساؤلات، وكثيرا من الجدل في الساحة الثقافية العربية والعالمية، إذ غدت منطقة الخليج العربي، المملكة العربية السعودية خاصة، قبلة جاذبة للعقول المبدعة الأدبية والثقافية في الداخل والخارج، مما كوّن صورة جديدة لمركز الثقافة العربية، الذي غدا اليوم الخليج العربي، وتزحزح من الأقطاب الثقافية العربية الأخرى، دون أن ينقص من قدرها أو دورها أو أهميتها؛ إذ تشكّلت اللجان المحكّمة لهذه الجوائز على الغالب من جنسيات عربية مختلفة إضافة إلى الخليجيين، ومن ثمّ تميزت لجان التحكيم فيها بالخبرة الواسعة في مجالات الثقافة والأدب والفنون والترجمة، وهو ما أضفى على الجوائز سمة التنوع والعمق الفكري العربي العالمي. من جهة أخرى، برز للشخصية الخليجية الحضور المعرفي والثقافي في الأوساط العربية والعالمية، وزاد استقطاب العقول الخليجية لمحاضن البحث والدرس الأدبي والثقافي العربي والعالمي.


هذا ما تراه أيها القارئ العزيز من الضفة المضيئة لخليج الجوائز، وأمّا على الجانب الآخر، فسترى معي ضفة جدلُها حمل الهمز واللمز حيال الجوائز الخليجية الثقافية والأدبية، واعتبر أنّها مجرد اجتذاب ماديّ ولائي، وزاد على ذلك مسألة الأوضاع الاقتصادية العربية والعالمية المضطربة، فكانت الجوائز الخليجية -من وجهة ظنّهم- جني قطف سهل، لا جديّة فيه. في الوقت ذاته، ارتفعت روح المنافسة في التقديم على هذه الجوائز، وهو ما يحدث عادة حالة طبيعية من الهرج والمرج عند فوز اسم دون آخر، وتكثر عندها نظرات التشكيك وغمزات التسييس. ولا أظنّ أنّ هذه الضفة طارئة على ساحل الخليج وحده، فلم تمرّ -في معرفتي المحدودة -جائزة دون أن تهبّ بها رياح التشكيك أو التحبيط، حتى جائزة نوبل العالمية التي تعدّ أعظم جائزة في العصر الحديث لا زالت تحاك أثواب قصص الغول والثأر والاستغلال حولها.


لذلك، لنعرض عن ضفة مضطربة الميناء، مكسورة الشراع، ولنعد مرة أخرى لخليج الجوائز، ولتكن هذه المرة الأسئلة حيال: ما الذي ينقص هذه الجوائز؟ هل القيمة المادية العالية لبعضها يربك المتلقي فيرفع من درجة حرارة لسانه؟ ويجعله مُدبرا غير مُقبل؟ أم هي المعايير غير المعلنة من بعض لجان التحكيم المنوطة بالعمل على هذه الجوائز وضعف بعض هذه اللجان؟ هل تحتاج جوائز الخليج الثقافية والأدبية لضجة إعلامية "تويترية" تفتح أبواق القاصي والداني والساخط والراضي فينال منها ومن قيمتها لأي سبب صغر أم كبر؟ أليست جوائز الخليج العربي اليوم في الثقافة والأدب والترجمة فرصة ثمينة لاكتشاف المواهب وتعزيزها؟ ألا ترى معي بأنها قطفةٌ يستحقها من أنفق جهده وعمره في خدمة الثقافة والأدب والترجمة والفنون، فتكون بمثابة وسام الشكر الذي يناله استحقاقا بدون مجاملة؟ ماذا لو أننا أغلقنا بابها واكتفينا بالتصفيق بعد نهاية كل قصيدة يلقيها علينا الشاعر الذي احترق كبده حتى جاء بعظيم القوافي، وسجّل تاريخنا وحضارتنا وعروبتنا وأبرز هوية خليجنا العريقة؟ ماذا لو أننا حجبنا جوائز الرواية، ألسنا بذلك نخاصم شهريار وننحر شهرزاد بسيف غير مسرور ولا سارّ، وننهي رحلة الحكّائين بتجاهل ديوان البشرية الأول :الحكاية؟! وحتى لا أكثر عليك أيها القارئ الفطِن، دعني أتساءل معك: ما الذي سيحصل لو اكتفى الأدباء والمثقفون بالدراهم اليوسفية المعدودة التي تصلهم أو لا تصلهم، من دور النشر جزاء بعيدا عن الوفاق على إبداعهم، ماذا سيحصل لهم وسط كدّ العيش وأرق الكتابة ولوثة الشعر وجنون الاقتصاد؟ أظن المسألة تحتاج إلى إعادة تفكير وتأمّل في ضرورة وجود هذه الجوائز والاستزادة منها.


إنّ الجوائز التي يحملها الخليج للمشهد الثقافي والأدبي والفني- على ما فيها من بعض زلل بشريّ- لهي اليوم مفخرة للحضارة الخليجية والعربية والعالمية، وهي أبواب تسهم في تشريع أهمية الوجود الثقافي والأدبي الإنساني، وترطّب أيام البشر الساخنة وسط تغيرات العالم الاقتصادية والسياسية المتتالية، وإن كانت مفردة "جائزة" في بعض معانيها هي مقدار الماء الذي يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، والشربة الواحدة التي تُعطى للظامئ، فماء الخليج في هذا المقام ماء عذب فرات، وبشيء من التصفية والتنقية سيزداد عذوبة وريًّا. إنّ ما تقوم به جوائز الخليج العربي من دور مهم عمل يستحقّ من المجتمع الثقافي دعمه عبر تطويره، وتقديم الأفضل لمسيرته، وطرح الأفكار المبتكِرة والمبدعة للنهوض به وتقديمه في أفضل صوره، ونقده البنّاء هو واحد من أهم صور هذا الدعم. فعلى سبيل المثال، ليت جوائزنا الخليجية تلتفت إلى ظاهرة قلة الفائزات من النساء الأديبات والمثقفات مقارنة بأسماء الفائزين الرجال، وهي ظاهرة لافتة جدا، وأيضا تخصيص جزء من هذه الجوائز للمواهب الشابة من الجنسين ودعمها حياتيا وليس فقط ثقافيا، كذلك ليت جوائزنا باختلاف مساراتها أن تعطي للمتلقي الخليجي والعربي والعالمي معاييرها الواضحة، وأن تتخلى عن كثير من الشكليات التي قد تأخذ من ميزانياتها ما يمكن به تقديم المزيد والمزيد من الدعم للثقافة والأدب والترجمة والفن. وهنيئا مريئا لكل من ارتوى بماء الخليج، بجائزة من الخليج العربي، والشكر لكل ساقٍ وساقية موصول.

انتهى

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa

١٣٢ مشاهدة

أحدث منشورات

مصطلح: دراسات المناطق

إعداد: أ. سمر المزيد، د. سماهر الضامن هيئة التحرير رئيس التحرير د. إبراهيم الفريح مديرة التحرير أ. سمر المزيد أعضاء هيئة التحرير د....

Yorumlar


bottom of page