أماني أبو رحمة
من المهم أن ندرك، أولًا، أن النسوية حركة محلية وعالمية واجتماعية وسياسية وتاريخية ذات هدف تحرري ومحتوى معياري. إنها تطرح ذاتًا (المرأة)، وتحدد مشكلة (إخضاع المرأة وتمييزها من خلال العلاقات بين الجندرين)، وتعبر عن أهداف مختلفة (على سبيل المثال، تعديل علاقات الهيمنة، وإنهاء التمييز على أساس الجنس، وتأمين التحرر للإناث، والنضال من أجل حقوق المرأة ومصالحها، ورفع "الوعي"، وتحويل الهياكل المؤسسية والقانونية لصالح النساء؛ وإنشاء الديمقراطية ورعايتها) باسم مبادئ محددة (مثل المساواة، الحقوق، والتحرر، والاستقلال، والكرامة، وتحقيق الذات، والاعتراف، والاحترام، والعدالة، والحرية). وبوصفها حركة تاريخية، تتجه النسوية نحو تنسيق العمل والتحول الاجتماعي، واستجواب الظروف القائمة وعلاقات السلطة بهدف تغيير العالم فضلًا عن تفسيره، وبالتالي، فإن النقاشات الفلسفية والتحليلية التي تنشأ عن التنظير النسوي هي سياسية حتمًا، وليست فلسفية بحتة.
وفي سياق متنوع فلسفيًا ومتقلب سياسيًا، ربما كانت القضية الأكثر إلحاحًا في النظرية النسوية خلال العقديين الفائتين هي كيف (وما إذا كان) يجب بناء ذات نسوي تحت فئة "المرأة". ويمكن تأطير هذا الجدل في سؤالين مهمين: هل يوجد مفهوم متماسك للمرأة يقف قبل بلورة اهتمامات المرأة أو وجهة نظرها، أو مفهوم أنثوي يعمل بوصفه لا وعيًا رمزيًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي الهوية الإبستمولوجية أو المعنى الذي يلتزم بمفاهيم هذه الذاتية؟
لوضع الأمور بشكل تخطيطي، قد نفهم الجدل حول المرأة (أو "الذات") من منظور ثلاث وجهات نظر مهيمنة تطورت على مدى عقدين من التنظير النسوي، وهي: نسوية الاختلاف التي تنقسم بدورها إلى "اجتماعية" و "رمزية"، ونسوية التنوع، ونسوية التفكيك ما بعد الحداثية.
تنشغل نسوية الاختلاف -سواء كانت اجتماعية أو رمزية- بإعادة تقييم "المرأة" من أجل تأكيد طرح إيجابي للجانب الأنثوي في ثنائية الجنس والجندر. وتنظّر النسوية في كلا شكلي الاختلاف لتماسك الهوية الجندرية بصفتها اختلافًا بين الرجل والمرأة، وتحدد تبعية المرأة وقمع فاعليتها ضمن نظام اجتماعي أو رمزي من التشعب الجندري المتجذر في العلاقات والبُنى النفسية. كما أنها تستدعي كلتاهما أيضًا -الجسد الأنثوي أو الاضطهاد العالمي للأم والمرأة- كوسيلة فريدة للوصول إلى طرق المعرفة في العالم أو التحدث والوجود داخل النظام البطريركي (الأبوي).
ولم تستطع نسوية الاختلاف التنظير الكافي للاختلافات بين النساء، أو دمج التنوع الثقافي والتاريخي في مفهوم "الموقف" النسوي الذي يعتمد فلسفيًا على "ذات مستقلة وواعية بذاتها". وهكذا -على مستوى السياسة العملية والتنظيم الاستراتيجي- فإن التعبير عن خبرة المرأة والطابع شبه التوجيهي لتعميمات نسويات الاختلاف يبدو محدودًا ومختزلًا، ليس أنه يميز النساء البيضاوات و"الوعي"، فحسب، ولكنه يستبعد -أيضًا- محاور الهيمنة والقمع الأخرى غير الجندر والجنس.
في معارضةٍ لنسوية الاختلافات الاجتماعية -فلسفيًا وسياسيًا- تتحدى النسوية التنوعية فكرة الذات الأنثوية والتماسك التام لمفهوم "المرأة"، وتعمل النسوية التنوعية على تعقيد المفهوم وتضاعفه من خلال النظر في العرق والطبقة والإثنية والجنس وفئات الهوية الأخرى. وعلى الرغم من نظرتها إلى "المرأة" على أنها مركب هوية من اللون والطبقة والعرق والثقافة والجنسانية والجنس، وما إلى ذلك، فإن هذا القطاع من النظرية النسوية لا يتخلى بأي حال عن "الذات"؛ إنه فقط يعقد الأمر ويموضعه، بحيث يكون السؤال السياسي السائد هو: كيف ترتبط هذه المعارف المتموضعة أو المنظورات الجزئية أو الذوات المعقدة عبر "اختلافات متعددة متقاطعة" لا تقتصر بأي حال من الأحوال على الجندر؟. وتولِّد "نظرية التنوع" أو "التعددية الثقافية المتنوعة" والمشكلة الإبستمولوجية المصاحبة لـ"الاعتراف بالتنوع" قدرًا كبيرًا من الجدل حول إجراءات سياسات الهوية النسوية ومعناها وعملياتها.
أما المنظور الثالث في النظرية النسوية المعاصرة -النسوية التفكيكية ما بعد الحداثية- فقد تطور من مفهوم التنوع والهويات التقاطعية، وهنا تضع السياسة النسوية للهوية نظرية نفيها من خلال تصنيف "المرأة" كمجال من الاختلافات التي لا يمكن اختزالها في أي فئة أو محتوى هوية وصفي.
وتعمل النسوية التفكيكية على تعطيل وتفكيك جميع الفئات متعددة البؤر المكوّنة مسبقًا (العرق واللون والطبقة والجنس….. وما إلى ذلك)، والتي تروج لها نظريات التنوع باعتبارها فئات ذات أهمية ثقافية وسياسية، كما تحاول -مستلهمة رؤى ما بعد الحداثية- تفكيك الاستقطاب الجندري المثبّط للذكور والإناث على حدٍّ سواء. ويرفض هذا المنظور أي فكرة عن ذات أنثوي بدئي متأصل في جسد مجنس مسبقًا، أو أي مفهوم عن "المرأة" كأساس لسياسات نسوية، أو أي تصور للاختلاف الجنسي الذي يجسد الأنوثة كموقع متميز للأخلاقيات أو الوجود. ويشكل الجسد والجنس والجندر -من المنظور التفكيكي- أنظمة المعنى والدلالة والأداء والتمثيل والقابلية للتكرار. وتحت مظلة التفكيكية وما بعد الحداثية تحولت العديد من النسويات إلى نماذج البناء الاجتماعي.
لقد ركزن على دور اللغة في تكوين الواقع الاجتماعي، ما يعني أن الممارسات الخطابية تشكل الوضع الاجتماعي للمرأة. كما انخرطن في تحليلات مثمرة وتفكيكات واسعة النطاق للمفاهيم التي تعرّف المرأة وتقلل من شأنها. ولا يمكننا أن ننكر أن التحول إلى اللغوية والخطابية كان منتجًا للغاية بالنسبة للنسوية؛ لأن هذا التحول قد عزز التحليلات المعقدة للترابط بين السلطة والمعرفة والذاتية واللغة، كما سمح للنسويات بفهم الجندر من منظورٍ جديدٍ ومجدٍ، كأن سمح لهن -على سبيل المثال- بفهم كيفية بناء الجندر بعلامات متقلبة أخرى، مثل الطبقة والعرق والجنسانية، داخل أنظمة الاختلاف الثقافية التي تعمل مثل اللغة.
إن أهم نتائج لقاء ما بعد الحداثية والنسوية هو زعزعة أي أفكار ثابتة ومعترف بها بشكل موحد حول موضوع النسوية؛ فلبّ المسألة بالنسبة للنسويات في مواجهة تحديات ما بعد الحداثية هو أنه لا يحق لهن الجمع بين كلا الاتجاهين - أي لا يمكن للنظرية النسوية أن تدّعي أن المعرفة والذات يتشكلان في التاريخ والثقافة، وأن النظرية النسوية تتحدث نيابة عن "امرأة" عالمية -وتتبنى في الوقت ذاته- الاختلافات بين النساء، وتقبل موقف المعرفة (المعارف) الجزئية. وقد كلّف هذا العرض للمعضلة النسوية -والذي يتشابك أيضًا مع المواجهة الثقافية والسياسية بين الحداثية وما بعد الحداثية النسوية- الدخول في دوامة الاختيار المستحيل بين جذورها، وافتراضاتها التحررية (الحداثية)، ونقد (ما بعد الحداثية) لطابعها الشمولي.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل الخلافات والتناقضات، فقد تمكنت النسويات من التوظيف الاستراتيجي للحداثية وما بعد الحداثية. وظلت المفاهيم "الحداثيّة " عن "الذات" و"الجسد" مهمة للنسويات عمومًا، ولكنهن، في الوقت ذاته، وظفن ما بعد الحداثية لدراسة الطرق التي تبرر بها المجتمعات المعتقدات حول الجندر في الحاضر والماضي من خلال "الخطابات" الأيديولوجية المضمَّنة في التمثيلات الثقافية أو "النصوص". "النص" ليس فقط الفن والأدب ووسائل الإعلام، وإنما أي شيء أنتجته مجموعة اجتماعية، بما في ذلك الصحف والبيانات السياسية. إن "خطاب" النص هو ما يقوله، وما لا يقوله، وما يلمح إليه، كما أن السياق التاريخي والاجتماعي والظروف المادية التي يصدر فيها النص تعد جزءًا من خطابه. إضافة إلى ذلك، يُشكل الجمهور، أيضاً، أي نص، وقد يقرأ معانٍ مختلفة تمامًا عن تلك التي يقصدها المنتجون، وهنا يأتي دور "التفكيكية" التي تعمل على فحص كل هذه الجوانب من "النص".
يمكننا القول، أخيرًا، إن هدف النسويات ما بعد الحداثيات هو تحليل الدور الذي تلعبه علاقات السلطة الاجتماعية والثقافية، والمعرفة في تشكيل تصور المرأة للمجتمع من أجل ابتكار الطرق التي يمكن من خلالها تغييره لصالح القيم النسوية المنشودة.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Commentaires