top of page
  • سياق

مراجعة كتاب صبا محمود: سياسة التقوى

ترجمة: عبير العبيداء

جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت ٢٠١٩



تثير صبا محمود، الباحثة الأمريكية من أصول باكستانية، في كتابها المهم (سياسة التقوى)، قضايا مثيرة للجدل حول مسلمات الحركات النسوية التي تسيدت الخطاب الغربي الليبرالي المعاصر، وتصوراتها عن وضع النساء الشرقيات، العربيات، أو النساء المسلمات بشكل عام، وموقعهن أو مواقفهن من الحركات الإسلامية. تسلط الباحثة الضوء في هذا الكتاب على المجتمعات النسائية المنخرطة في الحراك الإسلامي الدعوي في المساجد ودعمهن للحركات الدينية الأصولية وتبنيهن لنموذجها الأخلاقي والاجتماعي، مما شكل ظاهرة مثيرة للتأمل في ظل قلق التيارات النسوية الليبرالية من سيطرة الدين على الفضاء العام، وفي ظل الدعوات الغربية التي كانت تدعم الحراك الاستعماري تحت شعارات إنقاذ النساء من نهب الأصولية الإسلامية.


السؤال المركزي الذي تتمحور حوله أطروحة سياسة التقوى هو: لماذا تختار جماعات وأعداد متزايدة من النساء في أقطار مختلفة من العالم الإسلامي الانخراط ضمن حراك التيارات الإسلامية الأصولية، وهي تيارات طالما اعتبرت مصدرا للتشدد الديني فيما يتعلق بأحكام النساء وارتبطت بالاضطهاد الواقع عليهن وعرفت بأنها تعمل ضد مصالحهن؟ تتزايد أهمية السؤال الذي تطرحه صبا محمود هنا بسبب اللحظة التاريخية الحساسة التي قررت أن تقوم فيها بهذه الدراسة، وهي منتصف تسعينيات القرن الماضي، على أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تشكلت صورة الإسلام كمصدر لتغذية الإرهاب وإنتاج التطرف، وحين بدا أن الخيارات كانت متاحة للنساء نحو بدائل أكثر انفتاحا وتحررا، ورغم ذلك فإن أعدادا متزايدة من النساء تبنت الخطاب الديني واختارت طواعية أن تكون جزءا فاعلا فيه. مما شكل ظاهرة تدعو للريبة والقلق في أوساط النسوية ذات المركزية الأوروبية.


وفي الوقت الذي تسائل فيه صبا محمود هذه الظاهرة، كانت أيضا تطرح الأسئلة حول فشل اليسار الليبرالي، بكل شعاراته الداعية للحرية والعدالة وتمكين النساء وتحريرهن من الأغلال الاجتماعية والفكرية، في أن يكون نموذجا جاذبا لهؤلاء النساء عوضا عن التيارات الدينية الأصولية التي كان يعتقد أنها تعزز دونيتهن وتميل لمحاباة الرجال ومنحهم الامتيازات على حسابهن. وعوضا عن الانطلاق من الفرضية التي كانت رائجة لدى النسويات الغربيات أن هؤلاء النساء مستلبات وضحايا وجاهلات، تحاول الكاتبة، التي تنتمي بدورها لليسار الليبرالي، أن تتجرد من التحيزات المسبقة، وأن تخالط النساء المنخرطات في النشاط الدعوي وتتعقب تاريخ هذه المجتمعات النسائية وخلفياتها الفكرية، وذلك من خلال حضور الدروس والمناقشات التي كانت تجري في مجتمعات المساجد النسائية المغلقة ودراسة تفاعلات تلك الدورس مع مفاهيم التقوى وعلاقة ذلك كله بإعادة تشكيل موقع الذوات النسائية ومواقفها الفكرية ومواقعها الاجتماعية.


قامت الباحثة في هذه الدراسة المبنية على رسالتها للدكتوراه بإجراء تحليلات معمقة لما تسميه بمجتمعات التقوى النسائية في مصر (كنموذج يمكن تعميمه على العديد من الدول الإسلامية)، وذلك من خلال دراسة ميدانية لمجتمع النساء الناشطات والمساهمات في الحراك الدعوي "الداعيات" في عدد من مساجد القاهرة في نهاية تسعينيات القرن المنصرم. وقد حرصت الباحثة على تنويع شريحة الدراسة لتشمل فئات مختلفة من النساء من ناحية الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الفئات العمرية التي كانت تواظب على حضور تلك الدروس والحلقات الدينية. وبهذا يمكن أن يُعدّ الكتاب دراسة أنثروبولجية تشريحية لهذه المجتمعات، تسعى لاستنطاقها من جهة، كما تقدم نقدا للخطاب الليبرالي والطريقة التي يتعامل بها مع مفاهيم كالحرية والإرادة والقدرة أو الفاعلية agency (أو القوة- كما تترجم هنا).


يأتي هذا الكتاب ضمن موجة الدراسات النسوية مابعد الاستعمارية التي نشطت في تسعينيات القرن الماضي، وهي الدراسات التي بدأت تتناسل من سؤال قاياتري سبياك الشهير: هل يمكن للتابع أن يتكلم؟ Can the Subaltern Speak? حيث دعت في مقالها الذي حمل ذات السؤال في عنوانه (نشر لأول مرة عام ١٩٨٨) والذي فتح بابا هائلا من الأسئلة عما تسميه سبيفاك بالعنف المعرفي وما يتربط به من التمثيلات، والتحيزات التي طبعت الدراسات النسوية وخطابات "الغرب" المعرفية حول الشرق عموما وحول النساء الهنديات في طقس حرق الأرملة على وجه التحديد. السؤال المحوري الذي طرحته سبيفاك هو سؤال التمثيل والتمكين والقدرة: هل يمكن لهذه الفئة التي يتنازع على تمثيلها الشرق والغرب أن تتكلم؟ وهل تتمتع أصلا بالقدرة على الكلام أو تمتلك أدواته؟ وهل يمكن أن يسمع صوتها (ويعتبر رأيها) إن تكلمت؟


من منطلقات مشابهة، تحاول صبا محمود في هذا الكتاب أن تستنطق وضع هذه الفئة من النساء (مجتمعات التقوى) وتختبر طبيعة علاقتها بالدين ومؤسسات السلطة السياسية والاجتماعية من جهة، وبالنسوية الليبرالية، والعولمة، أو ما يسمى بخطاب التغريب من جهة أخرى. توظف الباحثة حزمة من المفاهيم والفرضيات النقدية والفلسفية التي يمكن أن تشكّل قاعدة معرفية نظرية ملائمة لتفسير ظاهرة مجتمعات التقوى النسائية في مصر. فبالإضافة إلى المنطلقات النظرية مابعد الاستعمارية ومفهوم التابع لدى سبيفاك، تستعين صبا محمود بأفكار فوكو حول الحرية وإجراءات تنظيم الخطاب وتشكل الذات وخياراتها وعلاقتها بالسلطة. كما توظف أفكار جوديث بتلر حول ميكانزمات أدائية الجسد وعلاقتها بالحجاب والفروض الدينية والالتزام الشعائري ومفاهيم متعلقة بالنساء وتشكيل هوياتهن العامة كالفضيلة والحياء الأنثوي.


تخلص الباحثة إلى أن هذه المجتمعات النسائية الدعوية كانت تعمل على عدة أصعدة لقلب مفاهيم التمكين والإرداة والحرية، ولتحدي وضعهن الاجتماعي أيضا. فمن ناحية، نجحت هذه الجماعات في تغيير الصفة الذكورية تاريخيا للمسجد، وتمكنت من إبراز دور فعال للنساء في الفضاء العام وفي المجال الديني والفتيا التي ظلت حكرا على الرجال لأزمنة طويلة. ورغم أن الدروس التي كانت تتداولها النساء في هذه الحلقات كانت تركز على الشعائر والعبادات والحجاب والتربية الدينية والمسائل الفقهية المتعلقة بالمرأة، إلا أنه لا يمكن، كما ترى صبا محمود، فصلها عن الحراك السياسي والمجتمعي الذي كان يعبر عن الرفض الشعبي للهيمنة الغربية وأخلاق المستعمر التي يسعى لفرضها عنوة، ورفض الشكل الديني الليبرالي أو العلماني الساعي لفصل المعتقد الديني عن تفاصيل الحياة اليومية وتحويلها إلى نوع من الثقافة الشعبية.. وتوضح صبا محمود كيف وظفت هذه المجتمعات النسائية ما يسميه فوكو :مفارقة الإخضاع "ليعدن تشكيل وعيهن ومواقعهن من خلال عمليات معقدة تعتمد لا على مجرد المقاومة لعلاقات الهيمنة، ولكن من خلال "القدرة على الفعل التي تنشئها وتفعلها علاقات محددة من التبعية." (محمود، ٢٧) فبدلا من المقاومة للمبادئ المجتمعية المحلية المعززة بالخطاب الإسلامي الأصولي، تقوم النساء في هذه المجتمعات بتعزيز ما يعرف بالأخلاق الإيجابية والتمارين الروحية والأداء المتكرر للمارسات الفاضلة التي تعين على الانضباط السلوكي والالتزام بالشعائر والواجبات والفروض الدينية التي تعبر في نهاية المطاف عن خيار الذوات في التزامها بالفضائل والأخلاق الإسلامية. وهو ما تعبر عنه بتلر في أن إرادة الشخص ورغباته وفكره وجسده تتجه كلها نحو الوصول إلى تشكيل ذاته والحصول على شكله الخاص.


تشير صبا محمود إلى عدد من الممارسات والإجراءات البيداغوجية، والحجاجية، والأدائية والطقوسية التي تستعين بها النساء في حركة المسجد للوصول إلى حالة من "الطاعة الطوعية للتقاليد الاجتماعية المقررة شرعا. والتي كثيرا ما تنتقد على أنها مضاهاة عمياء بلا تمحيص، وعلى أنها تفيد إنتاج النظام الأبوي القائم، وتمنع النساء من التمييز بين الرغبات الخاصة والتطلعات، وبين تلك التي تملى اجتماعيا." (محمود، ١٣٨) وتجادل صبا محمود أن الخطاب الليبرالي، من خلال رفض الاعتراف بالفعالية أو حرية الاختيار لهؤلاء النساء في توجههن نحو أخلاق التقوى والالتزام الديني، يقع في مأزق التناقض إذ يلح على أن الحرية تكمن في رفض الأخلاق والمبادئ الدينية واتباع المبادئ التي يروج لها الخطاب الليبرالي. كما تميل الكاتبة إلى أن ممارسات النساء في مجتمعات التقوى لا تعني بالضرورة تبعية المرأة في الخطاب الإسلامي، ولكنها إذا اختبرت بعدسات أخرى، قد تعبر عن خطاب إيجابي وجوهري للوجود في العالم. بل إن هذه الخيارات (التي تبدو في ظاهرها خضوعية) قد تعبر عن طرائق مختلفة للقوة حيث تبتعد عن منطق المقاومة والتخريب، و تنبع من ترويض النفس وإلزامها بما يشق عليها كشكل للوجود يبدو مفصليا في حياة النساء اللواتي فرض عليهن العيش تحت ضغوط النظام الأبوي ومتطلباته التي لا تصب في مصلحة النساء بالضرورة.


ساهمت صبا محمود في هذا الكتاب، إلى جانب مجموعة من الباحثات النسويات مابعد الاستعماريات (مثل ليلى أحمد وفاطمة المرنسي وتشاندرا موهانتي وسواهن) في قلب أسئلة النسوية ذات المركزية الأوروبية، والتي نظرت دائما بعين الريبة وعدم الارتياح للتيارات الدينية والأشخاص الذين يتبنون ممارسات ومثلا عليا تضع المرأة تاريخيا في مرتبة التابع. وقد حقق التيار النسوي ما بعد الاستعماري إنجازات فكرية مهمة في مساءلة الافتراضات الليبرالية المعيارية حول الطبيعة البشرية ومفاهيم الحرية والإرادة والفاعلية. وإن كان يؤخذ أحيانا على هذا النوع من الدراسات ما يبدو ظاهريا نوعا من التعاطف والتطبيع مع الأوضاع غير العادلة التي تعيشها النساء في ظل المجتمعات التقليدية الأبوية.


النص الأصلي: Saba Mahmood: Politics of Piety, The Islamic Rivaival and the Feminist Subject. 2005.

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa






٢٦٠ مشاهدة

أحدث منشورات

سجال: النسوية

تعد النسوية من التيارات النقدية الحداثية الجدلية التي انتقلت بحمولاتها الثقافية المختلفة - وعبر حركات عالمية متتالية - إلى الحقل الثقافي والنقدي؛ لتقارب النصوص الأدبية من وجهات نظر متنوعة، تسائل فيها

  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page