top of page
سياق

نص: مسؤولية!

د. نوال السويلم*

"لم يكن اختيارك للون طلاء الجدران موفقا، قلتُ لكِ خطوط وتعرجات الاستيكو لا تظهر في اللون الأبيض، فإشباع اللون على الحائط في بيت شقيقتي أعطى خلفية قوية واضحة، فهو مصقول ولامع كقطعة رخام، أما جدارك فأراه معجون طلاء عادي لايستحق ثمنه المدفوع!"


هذا ماقاله زوجي منتقدا ذوقي في اختيار اللون أوف وايت لطلاء غرفة المعيشة، شرحت

له أن الألوان الفاتحة على الجدران أنسب للمساحات الضيقة، لتمنحها اتساعا، وإن اللون مناسب جدا وهادئ سيتناغم البياض مع قطعتي الكنب الزرقاء الداكنة، وستخفف الستارة من توهجه وستنعش اللوحة السريالية بألوانها المتداخلة بياض المكان.


لم تكن كلمة جدارك التي قالها بنبرة هازئة خفيفة على قلبي، فقد أصابته بوخزة، لاسبيل للشفاء منها سوى وخزة بمثلها على قلبه الصلب الذي لايشعر كالجدار الذي نختلف عليه، بل هو أصلب فالجدار اكتسى لونا أبيض يعكس بياضه طمأنينة مفترضة في بيتي! اضطررت للقول:"صحيح الطلاء في بيت شقيقتك مذهل وأنيق، ويعجبني جدا لأن بيتها واسع، ونوافذها كبيرة فالخيارات عندها متاحة وليست كجدارك"!


شعرت أن جملتي الأخيرة ستفتح بابا من الغضب لا أحتاجه الآن، فالمقارنة التي تستهويه أن يضعني فيها، أجيب عنها بمقارنة أخرى تحبط مضايقته لي، حيلة دفاعية يضطرني إليها اعتذرت له بقولي:" أنا على عجلة من أمري ورئيستي في العمل تحتاجني، لابأس أحدثك لاحقا"

وأغلق الهاتف مستاء مني وغير راض وقال :"أنت تتحملين المسؤولية"!

قلت لنفسي:" لابأس أنا أتحمّل أيضا المسؤولية من إيقاظ الأطفال صباحا حتى تبديل ملابسهم

للنوم مساء"!


وانهمرت المسؤوليات الصغيرة المحشوة في يومي من ذاكرتي، لتشحننني بخصومة مرتقبة معه عند عودتي، فأنا المسؤولة عن شراء مستلزمات الأسرة، وأجرة الخادمة اليومية، ومواصلاتي الصباحية، ورسوم المدارس، ومتابعة حالة ابنتي الصحية، ومرضها المزمن، ودراسة طفليّ، وإصلاح المعطوبات، التي لاتنتهي ومتابعة انقطاع الماء وسداد الفواتيرأنا مسؤولة مسؤولة لابأس!


نداء المديرة من التلفون الداخلي قطع سلسلة المسؤوليات المنهمرة، فهرولت لها مسرعة،قالت لي: " لم تضعي الترويسة الجديدة، وخطابك ينقصه هذا قبل الإرسال"

قلت بابتسامة تبرير" نسيت من كثرة تغيير اسم إدارتنا" ولأن هذا التلميح مزعج لها، رمقتني بنظرة حادّة أفهم مغزاها، تعني أن مثلي يتلقى الأوامر من رؤسائه، ولا يرى و لا يسمع ولايتكلم، ولا يتنفس! هو مثل لوحة المفاتيح عليه أن يكتب الخطابات ويتناساها!


وددت لو تشكرني على إنجازي لملف كبير كله جداول ورسوم بيانية، وإحصائيات، لكن لا بأس، اعتدت على هذا!

عدلت الترويسة، وحوّلت الإيميل للموظفات، وعدت لكلمة زوجي الغاضبة، ومسؤولية اللون التي علي أن أتحملها، هل يقصد إعادة طلاء الغرفة، ودفع ثمن تكاليف أخرى؟


أنا تحملت مسؤولية اللون فليتحمل هو مسؤولية تغييره مابي طاقة لمصاريف أخرى جهزت ردي

الذي سأقوله إن فاتحني مرة أخرى منتقدا ذوقي الذي لايعجبه دائما، ولكني لا أستطيع أن أقول" لا تنتقد ذوق زوجتك فقد اختارتك أولا" لأني لم أختره حقيقة، هو اختارني!

المديره الآن تناديني بضجر معتاد!

  • كيف تحولين الإيميل للموظفات قبل أن أجيزه؟ مابك اليوم؟؟

  • ظننت أن ملاحظتك الوحيدة تعديل الترويسة، فهمت من قولك ينقصه هذا قبل الإرسال إجازتك له ، فعدّلته وأرسلته، ولم أقل" لأنك عادة لا تقرئين سوى الترويسة والعناوين، فما حاجتك الآن لهذه الغضبة؟ "قلتها سرا لنفسي فأنا دائما أتحدث مع نفسي عن الآخرين!

  • ولو ينبغي عليك التأني افترضي أن شيئا طرأ علي وأحببت الإضافة عليه؟

  • وهل طرأ عليك شيء؟

  • لا، أقول افترضي !

أنت تتحملين المسؤولية في توجيهه قبل موافقتي! انصرفت وقيد مسؤولية آخر يلتف حول رقبتي، وانهمرت الذاكرة في هذا العمل الذي يقتات من صحتي وأعطيه وقتي، ولا يعطيني حتى كلمة شكرا، لا بأس أتحمل مسؤولية طباعة وإخراج 30 ورقة استهلكت مني يومي عمل متواصلين، فعاجلا تعني في عملي أن أنجزه في بيتي لا عملي، فاستقطعت ساعات متابعة دراسة طفليّ لإنجازه، وأهملت التواصل الإلكتروني مع أهلي، وزيارة أمي المريضة، والجلوس مع أطفالي، حتى الضجر من زوجي نسيته! لا بأس سأتحمل مسؤولية أي خطأ محتمل وارد، يدق عنقي، وهي تتحمل مسؤولية الثناء الذي يطيل عنقها ولا أتقاسم معها كعكة التصفيق!

آآه!

نسيت زوجي والمديرة وعواقب المسؤولية فالمعلمة المناوبة في مدرسة ابنتي تتصل بي وكعادتها تعاتبني فابنتي آخر من يخرج من المدرسة!

ركبت سيارة السائق المهترئة فالتكييف عطلان والهواء الحار يتسلل إلى جوفي، فيلهب عطشي، بيد أن الآيات القرآنية من سورة التوبة التي أسمعها من مسجل السيارة كانت رسالة طمأنينة،"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، اختنقت بدموعي، وشعرت أن بي طاقة صبر تواسيني!

استلمت ابنتي من المعلمة المناوبة وعاتبتها:

  • الفناء حار جدا، والبنت مريضة سكر، ووجهها شاحب!

  • والله أنت تتحملين المسؤولية، تعالي بدري وخذي بنتك ، هذي مدرسة مو مستشفى!

مللت من تكرار وشرح اعتذاري لكل مناوبة ، ومقابلته بلا مبالاة، فهو كما يقولون مشكلتي لا مشكلتهن، هو صحيح مشكلتي فأنا لا أستطيع دفع رسوم مواصلات لها في الحافلة، ولايسمح لي بالاستئذان لإحضارها كما يتسلل معظم الموظفين من أعمالهم متذرعين بحجة مواصلات المدرسة لأبنائهم، ليلقوا بجثثهم المنهكة على فراش بارد فرارا من تنور الظهيرة!

وصحيح أيضا هو مشكلتهن فهن مكلفات بالمناوبة حتى خروج آخر طالبة نظاما لاتكرما، لا بأس

أحتاج أن أكتم غيظي فهذه المناوبة لسانها طويل، وتشتاق كبش فداء تسكب عليه ضجرها، لتعود لزوجها خفيفة من كل ضجر ومتاعب، خرجت ودوار المسؤولية يلف رأسي، أسعفت ابنتي في المستوصف، حرصني الطبيب أيضا بعدم إهمال وجبة الإفطار، فالبنت لم تتناولها، وسألت ابنتي:

  • لم لم تتناولي فطورك ؟ ألم أنبهك ؟

  • نسيتها في السيارة ماما

وقال الطبيب:

  • أنت تتحملين المسؤولية، تبقى طفلة تحتاج متابعة ورعاية واهتمام خصوصا أن سكرها من النوع الصعب.

  • لابأس لا بأس شكرا دكتور!

اتصلت مرارا بزوجي ليأخذنا فالسائق أوصلني للمشفى وذهب لكنه لايجيب على اتصالاتي ربما

جواله صامت! بالتأكيد نائم الآن! لم أضع احتمالا أن يكون قد أصابه مكروه فقد اعتدت على أن قلقي يخيب ظني وأن مابه سوى الوفاء لراحة جسده ففي غيبوبته لا يمكن الاتصال به!

لابأس

فتحت التطبيق وطلبت سائقا، وصلني بعد دقيقتين و حين استويت في المقعد وابنتي مجهدة بين

يدي انتبهت لصورته، ليست هي التي في التطبيق! لم يضع صورة مخالفة لصورته الشخصية؟!

ما الأمر هل قصص السيدات في الواتس اب عن تلاعب هؤلاء السائقين والحذر منهم صحيحة ؟!سألته بحدّة عن مخالفته للنظام، فأجابني بهدوء وثقة:

  • أخي حارس أمن وراتبه لايغطي نفقات أسرتنا الكبيرة، ومصاريف علاج أمي، فأتعاون معه في التوصيل وقت فراغي وانشغاله، الحياة صعبة ونحن ضعفاء مساكين.

  • "قاطعته" لا تسرد علي قصة حياتك ! مو ناقصة أفلام أنت متحايل و مخالف للنظام ،

  • مضطر وربك، نبحث عن لقمة العيش بالحلال.

  • ياسلام ! وهل هذا حلال؟

  • الله لايحوجك يا أختي وتحمليني

  • وهل أنا أتحمل مسؤولية ظروفك؟؟

  • لا محشومة يابنت الأجواد.

شعرت أن لساني هذه اللحظة سليطا كلسان زوجي وحادّا كلسان المديرة وطويلا كلسان المناوبة، فقطعته، وألقيته من النافذة لتدوسه السيارات بلا رحمة، ارتمى بصري على صفحة خده الأيمن الذي يبدو متعرجا كخطوط الاستيكو الباهتة على الجدار، وددت أن معي نقودا لأكرمه، وصلت لبيتي، وقيّمته خمس نجوم لأنه لم يحملني المسؤولية هذا اليوم!



المصدر: المجموعة القصصية "بانتظار النهار"



د. نوال بنت ناصر السويلم

أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية / كلية الآداب بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن, شاركت في العديد من المؤتمرات العلمية حول الأدب والنقد , وهي المؤلفة لمجموعة من الأعمال الأدبية والكتب النقدية مثل كتاب ومضات سردية سرد سير ذاتي لكاتبات سعوديات(2023م), المسرحية الشعرية في الأدب السعودي(1442ه), فضاءات النص( 1437ه), بالإضافة لنشرها لعدد من الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية المحكمة.

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa























٥٣ مشاهدة

أحدث منشورات

سجال: النسوية

تعد النسوية من التيارات النقدية الحداثية الجدلية التي انتقلت بحمولاتها الثقافية المختلفة - وعبر حركات عالمية متتالية - إلى الحقل الثقافي...

Comentários


bottom of page