أ.د. بسمة عروس
يعدّ توظيف المضامين النسوية في القصص المصوّرة أو ما يعرف بالكوميكس موضوعا حريا بالاهتمام والدرس ذلك أن القران بين جنس بيني يجتهد في إيجاد محل له، والخطاب الذي ينزع نحو الدفاع عن قضايا المرأة، يمثّل توليفا بين منظورين يستحق كل منهما أن يكون سؤالا في حدّ ذاته.

لم ترسخ جماليات (الكوميكس) باللغة العربية ولم تتأسس تقاليده في الثقافة العربية على النحو الذي عرفته الثقافات الأخرى، ولاسيما منها الثقافة اليابانية التي أبدعت فن المانجا والثقافتان الأوروبية والأمريكية بما أضافته من فنون في أسلوب (الكوميكس) وملامح خصوصية حفظت لكل منهما هويتها واتجاهها الخاص في موضوعات التأليف وخطوط الرسم وغيرها.
ويبقى الحديث عن مكوّنات فنّ (الكوميكس) وخصائصه مجالا فسيحا لطرح الكثير من القضايا النظرية التي لعل أبرزها قضية المؤلف الذي يكون جمعا> إذ إن إنتاج قصة مصورة مهما كان مداها البصري يفترض في أقصى حالات التقشف الفني والزهد في الإمكانات وجود شخصين: مبدع السيناريو ومبدع الرسوم والتصميم. وبالنظر إلى بعض هذه المعطيات يمكن القول إن وجود قصص مصورة يجوز تسميتها بالنسوية أو (الكوميكس) ذي النزعة النسوية يمثّل نوعا من الاستثناء ضمن تجربة في الإبداع لم تحقق التراكم الذي يسمح لها بتنويع زوايا الإبداع والتلقي.

ويعدّ الكوميكس فنّا هجينا، فهو فن مركب يقوم على جهود مشتركة بين رسم وتأليف وتحبير وتلوين وكتابة تنتج مشتركة ما يسمى بتوليفة الصورة / النص picture story على حدّ عبارة (رودولف توبفر)، إذ يشترط في القصص المصوّرة التسلسل التعاقبي لشريط الصور أو ما يعرف باللوحات. يجري تمثيل المشاهد والشخصيات والصور والحركة والانفعال وغيرها بشكل مرئي بأساليب فنية مختلفة أهمها أسلوب الخط والعناصر المكوّنة للتصميم واللوحة، مثيرة لدى القارئ استجابة مختلفة عما تثيره استجابته عندما يقرأ السرد المكتوب، ولذلك يكثر نشر هذا الفنّ في أوعية ذات طابع جماهيري مثل الصحف اليومية. ويمكن اختصار أهمّ المكوّنات الأساسية لفنّ (الكوميكس) في العناصر التالية: وهي اللوحة panel وتتكوّن بدورها من اللوحة والإطار frame والفجوات أو الفواصل بين اللوحات gutters، وتؤلف هذه العناصر جميعا ما يُسمّى بالتصميم layout الذي يكون منتظما وغير منتظم إلى جانب خلفية اللوحة وبالونات الحوار word balloon. وقد يكون من الإجحاف عدم الوقوف عند التفاصيل الكثيرة التي تتضمّنها المكونات الشكلية لشريط الصور القصصية، ذلك أن مجرّد الاختلاف البسيط في شكل بالونات الحوار وفي التكرار أو التدرّج في التماسك الأيقوني وغيرها يؤثر في تأويل الدلالة وكذلك الشأن بالنسبة إلى طبيعة الصورة أو اللقطة وزاوية النظر وغيرها.

ويمكن القول إن تاريخ ظهور (الكوميكس) النسوي يعود إلى سبعينات القرن الماضي عندما ظهرت المجلة الفرنسية المعروفة باسم (AH! NANA) والمجلة الأمريكية (Wimmen`s Comix) التي كانت الرسامة ترينا روبنز Trina Robbins من أبرز مؤلفيها، وكانت هاتان المجلتان لسان حال الجمعيات المنادية بحرية المرأة والمعتنقة للفكر النسوي في أبعاده النظرية، وذلك في طرحها قضايا متعلقة بجنسانية الأطفال والمثلية والتحوّل الجنسي والنظرة الاجتماعية وغيرها. ويلاحظ الناظر فيهما نوعا من التراسل في الموضوعات والطروحات فضلا عن الاشتراك الذي يكاد يجعل منهما صورة لأصل واحد لولا ما يلاحظ من اختلاف الأسلوب والخطوط بين المدرستين الأمريكية والفرانكوبلجيكية. ولذلك كان ظهور مؤلفة (الكوميكس) الإيرانية (مرجان سترابي) إعلانا عن مرحلة مهمة من (الكوميكس) النسوي لم تكتف بإثارة قضية التحيّز ضد الأنثى وجذوره الدينية والاجتماعية في المجتمعات الشرقية، بل تميّزت باستعمال اللونين الأبيض والأسود فقط في الرسوم وإدراج السيرة الذاتية في مضمون القصص المصوّرة. واشتهرت لها في الألفية الثالثة سلسلة من الكوميكس في أربعة مجلدات تحت عنوان برسيبوليس Persepolis. وقد جرى تحويل (برسيبوليس) إلى الصورة السينمائية والرسوم المتحرّكة وحظيت بشهرة واسعة، لفتت الانتباه إلى الطاقة التأثيرية التي تشتمل عليها القصص المصوّرة ومساحة النقد الجريء التي تتيحها إمكاناتها الفنية مع المحافظة على ميزة فارقة وهي التخلّص مما في مقالات الرأي وخطابات النضال من صفة المباشرة. دشّن (الكوميكس) النسوي الانتقال إلى نوع من أبرز أنواع ال(cyber militantism) بوصفه مرحلة متقدّمة لا تقتصر على الصورة وعلى الاستفادة من سهولة تداولها وسرعة انتقالها، بل تفيد كذلك من الإمكانات الرقمية، ولذلك تحوّلت الكثير من المجلات إلى روابط رقمية. وقد أتاح الانتقال الرقمي المحافظة على شكل الكوميكس مع منح مساحة إضافية للتعليق والملاحظات وتوسيع القاعدة الجماهيرية ومعرفة طبيعتها وحجمها. لم يلغ التحوّل الرقمي الحضور الورقي للمجلات النسوية، فشهدت الألفية الثالثة بروز أعمال عربية تميّزت بخصوصية الأسلوب الفني وخصوصية التجربة ومن أبرزها مجلة "الشكمجية" المصرية وأعمال المغربية (زينب فاسيكي) التي صدر بعضها باللسان الفرنسي وجلّها باللغة العربية أو اللهجة المحلية.

صدرت مجلة (الشكمجية) عن مؤسسة نظرة للدراسات النسوية ملتزمة بطرح قضايا المرأة والشباب من منظور نسوي وحقوقي مركّزة خاصة على قضايا الشارع المصري مكتفية بالغمز الخفي لجانب التشريعات وملمّحة إلى عدم كفاية بعضها في ضمان الحماية الاجتماعية للمرأة خاصة من خلال طرحها قضايا مثل التحرّش والعنف ضدّ المرأة. وتميّزت (الشكمجية) بصورة خاصة بالالتصاق بالخصوصية المحلية، يظهر هذا بداية في اختيار العنوان، ويظهر على نحو أوضح في طبيعة التصميم الذي يقوم على سيناريو متأثر بالدراما المصرية ، إذ تصوّر المرأة دائما بصورة الكائن الضعيف الذي يحتاج الحماية ويقع فريسة لمشكلات اجتماعية أبرزها تعنيف الزوج وتسلّطه الذي تواجهه الزوجة مواجهة غير جذرية فتلجأ لأمها ثم إلى قسم الشرطة ثم إلى سلاح الكيد. ويلاحظ في الرسوم اختيار اللونين الأسود والأبيض المتناسبين مع فكرة القتامة في الواقع ومع فكرة تقسيم العوالم المتباينة، إضافة إلى التدرّج في اللونين حيث يصبح الرمادي وسيلة لملء الفراغ حول الشخصية خاصة في اللوحات التي تصوّر تفكير الشخصية وعوالمها الباطنية وتشتدّ قتامة الألوان في تصوير المواجهات أو العنف حيث يجري تمثيل الزوج وهو يعنّف زوجته في صورة بدون ملامح ولا أعضاء تعتمد تركيز لون واحد وهذا شبيه بما نجده في كثير من أنواع القصص المصورة النسوية في تصويرها التحرش بالمرأة حيث يجسّم الرجل بصورة كائن مثل المارد أو الكائن الخيالي المخيف (اللاأنسنة). أما من الناحية الفنية فنجد استعمالا لخطوط الحركة والتهشير في لوحات قليلة منها لوحة العنف عندما تضرب الزوجة أو عندما تعبّر أمها عن دهشتها. ويبقى هذا النموذج من الكوميكس النسوي على الرغم من كل ما أسلفنا، بسيطا ولا يدل على تفنن كبير في الإمكانات التي يتيحها هذا الفن. ويتأكّد هذا من خلال دور الفجوات الذي يعكس تمشيا تقليديا في نظام الأحداث باستثناء بالونات الحوار التي تعرف بعض التعرّج والتغير في شكلها تبعا للتطوّر الدرامي. ويشبه أسلوب الرسم هنا أسلوب ما يعرف ب" الـ(clear line) وهو متناسب مع تأدية المضمون الواقعي.
أما بالنسبة إلى (زينب فاسيكي) فقد اختارت مسارا مختلفا تماما أهمّ سماته الطابع الشخصي، واستخدام صورتها الشخصية في محل الشخصية في القصة المصورة، وتركيزها على رسم الجسد الأنثوي. وتعدّ قصصها أكثر المجلات النسوية إثارة للضجة، وقد توّجت بجائزة الدفاع عن حقوق المرأة في المملكة المغربية لما في رسومها من جرأة واضحة وتضمين للكثير من الشعارات في اللوحات. أهم سمة فيه هي ما نسميه بالانعكاس الذاتي حيث اتخذت (زينب فاسيكي) من صورتها الشخصية قالبا بحيث تكون الرسامة وفي الآن نفسه المؤلفة والموضوع وهذه اللحظة فريدة، كون المبدعة تنتج بدائل من صورتها وتنمذجها مُشكّلة منها ما يشبه أيقونة، مؤكدة عدم الفصل بين القضية والذات، ومؤسسة لخط في (الكوميكس) النسوي هو الانعكاس الذاتي وليس السيرة الذاتية (السيرة الذاتية عند اللبنانية لينا مرهج خاصة). وتدلّ تسمية (حشومة) التي اختارتها عنوانا لمجموعتها الأولى عن تحدّ صارخ للمجتمع المحافظ بفضح الازدواجية في سلوكه بين التشديد في فرض الأعراف الاجتماعية التي تحدّ من حرية المرأة وتراها تهديدا للأخلاق وبين انتهاك هذه القيم من قبل المجتمع الذكوري. ويمكن القول إن الجديد في خطابها هو فكرة العري أسلوبا ومعنى ورسالة (يختلف عن توظيف العري في مجلات القصص المصورة الامريكية والفرنسية في مطلع القرن 20 والعقود التالية حتى السبعينيات وما بعدها)، إلى جانب توظيف المنمذجات الاجتماعية المحلية في تصنيف المرأة ونعتها، في بالونات لحوار بغرض دكّها واستئصالها من الذاكرة، فضلا عن تمثيل المرأة رسما في صورة امرأة واثقة متحدية يانعة حتى في حالات الضعف والانكسار، والتصريح بشكل سافر ومباشر بتوظيف العقد الاجتماعية واشكال التحيز اللفظي والسلوكي وتحويلها الى رموز وأيقونات في اللوحة ( يتجلى مثلا تشكيل الخلفية من صور الكثير من العيون وراء صورة جسد المرأة ) وكذلك في التصميم بحيث تنتفي الفراغات و يجري ملء المشهد كاملا بحضور الجسد الأنثوي ، فاللوحة ليست غنية بالتفاصيل والتصميم غير موجود تقريبا، ونجد في المقابل صورة واحدة تستوطن اللوحة والإطار كاملين وهي صورة الجسد الأنثوي يملأ كل المشهد في أسلوب يعرف بـ splash- page.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments