top of page
نشرة سياق

مراجعة كتاب "خارج المنهج: مقاربات ثقافية للأدب والنقد"


د. رانية محمد شريف العرضاوي

محمد الشحات. خارج المنهج: مقاربات ثقافية للأدب والنقد، ط1، (القاهرة، الدار المصرية اللبنانية)، 2022


يستفزّ عنوان هذا الكتاب كلّ مَعنيّ بجدلية المناهج النقدية، وضرورة إقامة الضبط المنهجي عند المقاربة النقدية، وهو في الوقت ذاته، يجتذب الهوى المخالف للضابط المنهجي النقدي الذي جاء ردة فعل لفوضى المناهج المستند على فوضى المصطلح، وبروز تناقضية بعض المناهج مع بعض، وتداخل أدوات بعضها، وربما غموض الأدوات وعدم تفنيد الإجراء المنهجي النقدي وانقطاعه إبستمولوجيا عن النظرية النقدية في بعض تشعبات هذه المناهج التطبيقية. فكان من المتوقع أن تكون هنالك موجة مقاومة لهذا الشعث الذي أرهق التكوين النقدي الإبداعي، وربض على أنفاسه منذ بدايات القرن العشرين.


ود.الشحات هو أستاذ النقد ونظرية الأدب العربي، ودرّس في عدد من الجامعات المصرية والعربية، مهتم بالسرديات والدراسات الثقافية ونظرية الأدب والنقد الأدبي الحديث. كما له عدد من المساهمات العميقة في الساحة التثقيفية النقدية عبر منابر متنوعة، ومن مؤلفاته: "بلاغة الراوي"، و"سرديات المنفى"، و"سرديات بديلة"، و"هوامش ثقافية" وغير ذلك.


ويأتي كتاب الشحات هنا لينازل الفكر النقدي تنظيرا وتطبيقا عبر طرح فرضية (المنهج المرِن) غير المشدود إلى مركزية ما، ليستدعي من الناقد ذاتيته السامقة مع معرفته العميقة بالمنهج والنظرية النقدية. حيث يقدّم نموذجا لمنهجية نقدية تنتمي للنقد الثقافي، ولكنها لا تختنق بالصرامة النقدية المنهجية بقدر ما تكون مرنة حُرّة في تطبيق الأدوات الثقافية النقدية، مع علو واضح لراية الذات الناقدة الإنسانية وحضورها الثقافي المعرفي.

والكتاب يشغل ما يقارب 380 صفحة، تطّرحُ عليها مقدّمة وقسمان يندرج تحتهما خمسة فصول. فأمّا المقدمة فيعلن فيها الكاتب عن أهمية المنهج النقدي والنظرية النقدية والأدبية، مع إقرار بالدور الفاعل للدائرة التاريخية للتراكم النقدي المعرفي. ولكنه يعلن كذلك محاولته "الخروج من أسْر المنهج الضيق بغية تحقق شكل من أشكال التجاوز النقدي القائم على خبرات الناقد وممارساته الواعية بالنصوص وسياقات تشكّلها". ولكنه أيضًا ليس ضد النظرية ولا هو ضد المنهج، وكأنّ في هذا التصريح تميمة أمام أية تهمة -كاللاعلمية واللامنهجية-قد توجّه للمؤلف. كما يؤكد في مقدمة كتابه على "حياة الناقد"، ولكن بهوية بعيدة عن الهوية التقليدية التي تقولب فيها لفترات زمنية طويلة: هوية الشرير المماحك للنصوص. ويستعرض عددًا لا بأس به من الأفكار النقدية في زمن ما بعد الحداثة التي أسست للحالة النقدية الراهنة، وشكَّلت الوعي النقدي القائم ثقافيًا ومعرفيًا.

ويرتب المؤلِّف كتابه بعد المقدمة المكتنزة بتأطيره "المنهجي المرن" للامنهجية الثقافية، في قسمين كبيرين، أولهما هو "قراءات ثقافية"، ويُلحظ هنا استعماله لمصطلح (قراءة) مقابلا لمصطلح (هوامش) في القسم الثاني "هوامش ثقافية"، ليكون حضور الذات في القسم الأول حضورًا سافرًا بممارسة القراءة المباشرة للنص ثقافيًا، وفي الثاني يكون حضورًا مراقبًا خارجيًا في كينونة الفعل المعاكس أو المرآتي لعمل قائم ومنجز بصيغة الهامش التابع لمركز متحرك.


ويتضمن القسم الأول فصلًا بعنوان: "ممارسات في نقد الثقافة" مطبقًا فيه رؤى نقدية ذاتية متنوعة بين تسعة نماذج يظهر على أغلبها التنقيب في نسق ثقافي عبر طرح فكري لمؤلِّف أو مؤلَّف، مثل "تمثلّات العرب، تمثيلات الآخرين، مواجهات ثقافية"، و"قارئ رحلات ابن بطوطة بالعربية" و "عقبات ثقافية في ترجمة الإحالات النصية" وغيرها.

والفصل الثاني جاء معنونًا بـ"مقاربة الأدب ثقافيا"، ولعل هذا يشي بأنَّ الكاتب يمارس لعبة التنويع الاصطلاحي في حضور الذات الناقدة المتكئة على أداتين متداخلتين هما: القراءة والمقاربة، فالقراءة تميل إلى تحري الضبط الثقافي الممنهج على درب النقد الثقافي ما أمكن، لكنَّها تحمل طابع التلقي الذاتي الذي يغوص في المعرفة التراكمية لدى الناقد عبر فحص نتوءات النص الداخلية؛ للخروج برؤى الذات للعالم من خلال النص. وأما المقاربة فتكون أوسع رحابة بنظرتها التي تقود النص عبر الذات الناقدة أيضًا ولكن إلى السياقات الخارجية المكوّنة له والمحتضنة لإنباته بشكله الموجود في عالم الذات أيًا كان هذا النص تشكلًا أو نوعًا أو انتماءً نسقيًا. فيكون الفصل الثاني تحت عباءة القراءة لكنه يتجاوزها. ويتناول هذا الفصل (الأدب) كما يظهر في ست مقالات أولها يخوض غمار الشعرية، ويمتد الباقي في السردية. ومثاله: "شعرية الفيتوري: مجازات التخوم والاستعارات السوداء" و" جوخة الحارثي: "سيدات القمر" بعيدا عن الأيديولوجيا، قريبا من بلاغة النص".


وأما الفصل الثالث والأخير من القسم الأول فهو بعنوان: "قراءة الثيمة، تأويل الثقافة"، وفيه يعود الشحات من جديد للمصطلح المتقلّب، ولكن هذه المرة بصورة (الثيمة) ليكوّن هنالك خط سير واضح لحركة الذات الناقدة في الكتاب، متنقلة بين: نوستالجيا البداوة، ورمزية الجدار، وسردية الحلم، والخوف، وغواية المرآة، وفتنة الصبر. كل هذه الوقفات عبر سبر لسياقات نصية محدّدة.

وأمّا القسم الثاني: "هوامش ثقافية"، فاندرج تحته فصلان: "هوامش على نصوص أدبية" و"هوامش على نصوص نقدية". وبدت الموضوعات في الفصل الأول من القسم الثاني أشبه بقبسات سريعة تكوّنت من أربعة وعشرين عنوانًا، يُضئ للقارئ في كل مرة نصًا بقراءة خاطفة لكنها عميقة في حريتها. وأمّا "هوامش على نصوص نقدية" فهو الفصل الأخير من القسم الثاني ومن الكتاب كله، ويضجّ بنقد النقد في خمسة عشر موضعًا، مارس فيها الشحات تحليلًا نقديًا لنقد منجز بروح الناقد الموضوعي الذي لا يخجل من إعلان مخالفته أو موافقته لحالة نقدية بارزة.


ومن خلال مراجعة هذا الكتاب المهم، يتبين للقارئ أنّ المؤلّف بصدد تأسيس تأطير نقدي خاص يرتفع بشجاعة إلى صورة "المنهج"، ويضجّ بالذاتية الممارسة المنضبطة بأصول النظرية النقدية من منطقة وحِجاج وعللية، وفي مقابل ذلك يتخذ من عباءة النقد الثقافي أفقًا رحبًا يحاول التحرر فيه من صرامة المدرسة النقدية المعاصرة. وهو يقارب في ذلك متونًا نصية أدبية متنوعة، متخذًا من التأويل أداة جريئة لا تقف تحت سقف مدرسي محدّد، باعتبار أنّ المنهج هو "أسلوب والأسلوب هو الإنسان، والإنسان كائن ثقافي"، مما يعني استمرارية تطور المنهج وتغيره بأنسنته الثقافية. أضف إلى ذلك، يبرز المؤلف تراكميته المعرفية في طرحه واختياره للنص الأدبي والنقدي المقدّم، ويجيد ربط متناثرات النص بما لديه من واسع أفق معرفي، ليكون التطبيق النقدي لديه في الكتاب صاحب صدى ذاتي يعلو على جدران النظرية وأوتاد المنهج.

والسؤال الذي يُختم به هنا، هل الخروج على المنهج النقدي اليوم مطلب سيرفع عن الناقد حالة "الموت" ويبعثه فينيقيًا من جديد؟ وهل ما قدّمته فرضية الكتاب من مرونة التطبيق النقدي للمنهج والنظرية النقدية نموذجًا يمكن أن يحلّ جدلية المنهج واضطرارها الصارم؟ وماذا عن استعمال المؤلف لمصطلحات (مقاربة، قراءة، تأويل، ممارسة، هوامش) في تطبيقه للنقد الأدبي الثقافي؟ هل نجحت لعبة التقليب الاصطلاحي هنا والتنويع بغرض إثبات حرية الناقد دون التفات إلى تحديد هوية المصطلح، وترك القارئ أيضًا حرًا في تلقيه هو الآخر للنظرية النقدية والمنهج والمصطلح؟ إنّ الكتاب يثير أسئلة مهمة تحتاج إلى إعادة نظرة تكوين ووجود في النقد الأدبي حيال أركان أربعة قام عليها الكتاب هي: المنهج، والنظرية، والمصطلح، والتطبيق. وهو ما ينتظره القارئ من المؤلف أو غيره من المعنيين بهذه الجدلية، ولكنه نجح رغم كل هذه التساؤلات المفتوحة في إعلان "حياة الناقد".

 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa


٢٠١ مشاهدة

أحدث منشورات

نشرة "سياق": الرؤية والتطلعات 

نشرة «سياق» الإلكترونية هي نشرة دورية متخصصة، تصدرها شهريًا الجمعية السعودية للأدب المقارن، بالتعاون مع هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة...

Comments


bottom of page