top of page
  • سياق

نص: أمي التي لم تنصحني بشيء



لينا سليمان السليم


“لم تفصلنا أمي عن عالمها الأكاديمي وكثيرًا ما كانت تصحبنا للندوات.”


***

“أمي منذ وعيت قارئة جيدة للدين وأحكامه، وعيها .. حمانا من موجة التطرف التي مرت علينا في الثمانينيات والتسعينيات.”


***





لم تكن أمي أنموذجًا للأم النجدية التقليدية كما تبدو من الخارج، تلك الأم ممتلئة القوام التي تخضب كفيها بالحناء، وتفوح من شيلتها رائحة البخور، وتجلس في البيت أمام قهوتها العربية المدللة بالهال والزعفران وماتيسر من التمر- أو الرطب- إن أمكن وتنتظر زيارة أولادها وأحفادها.


لم يتجاوز وزن أمي 57 كيلو غرامًا وفق نظام غذائي صارم وساعة يومية من الرياضة لا تمس ولا تقطع بأي طارىء، وتحب الملابس الأنيقة وتعتني بشعرها وأظافرها. أتذكر في آخر لقاء لنا مع والدي في المستشفى في لندن نظر إلينا بلطفه المعهود: “مين الأم ومين البنت؟”


منذ وعيت وأمي امرأة عاملة تشارك أبي مسؤولياته وتصاحبه في رحلاته كزوجة لمعالي الوزير ومشغولة بين طموحها العلمي حتى وصلت للأستاذية في الأدب العربي ومسؤولياتها العملية في التدريس الذي تعشقه، وظلت رافضة للمناصب كلها التي عرضت عليها في جامعة الملك سعود ولم توافق إلا على إدارة مركز البحوث لأنه يتوافق مع شغفها العلمي.


تلك هي أمي أ.د. نورة الشملان سيدة في شغفها العلمي وفي شغفها الأسري وفي شغفها الحياتي.

فرغم مشاغلها العلمية واهتماماتها العصرية ظلت أمي تحمل داخلها صفات الأم التقليدية، فلقد أنجبت في خضم انشغالها ستة أطفال -ولاتزال نادمة أنها لم تنجب أكثر- كانت ولا زالت تحب أن يظل بيتنا مفتوحًا للأقارب، ورغم انشغالها، لم يتزوج أحد من أقاربها وأقارب والدي إلا وأقامت له/لها وليمة في بيتنا، فظل بيتنا ملتقى الأصدقاء حيث تطبخ لهم بيديها أطباقها المشهورة مثل المطازيز والشبزي وكبة الرز.


أتذكر في الثمانينيات الميلادية كانت الحكومة تنتقل إلى الطائف وبحكم عمل والدي كنا نسكن في فلل فندق الإنتركونتيننتال، وكانت ذات أجنحة كثيرة فلم يبق أحد من أقاربنا أو زميلات أمي في الجامعة لم تدعه أمي للإقامة عندنا، كانت تستقبل الضيوف في المطار وترتب لهم رحلة لمكة للعمرة، وكان يرتفع عدد الضيوف أحيانًا فنضطر أنا وإخوتي [إلى] إخلاء غرفنا للضيوف وسط سعادة أمي التي ترتفع كلما زاد البيت ازدحامًا.


لم تفصلنا أمي عن عالمها الأكاديمي وكثيرًا ما كانت تصحبنا للندوات التي تحضرها، ناهيك عن شعر المتنبي -الذي كان موضوع رسالتها في الدكتوراة -الذي حفظناه لكثرة ما رددت أبياته.


أمي منذ وعيت وهي ملتزمة دينيًا وقارئة جيدة للدين وأحكامه، وعيها هذا حمانا من موجة التطرف التي مرت علينا في الثمانينيات والتسعينيات، فعندما نسألها عن فتوى متطرفة سمعناها من أحد كانت تفندها بالعلم والحجة مع حرصها على أن تجعلنا نحب الجميع ونحترمهم ولا نقصي أحدًا لذلك لم تحسب أمي يومًا على أي تيار من التيارات المتصارعة في مجتمعنا.


شيء آخر تعلمته من أمي رغم نجاحها العلمي والعملي والاجتماعي كانت تكن احترامًا كبيرًا للرجل، وتراه داعمًا ومكملًا لنجاح المرأة ولم تره عدوًا يومًا.


ها نحن اليوم استقل كل منا في بيته وأسرته، وها هي وقد اقتربت من عقدها السابع لا تزال تلك المرأة المستقلة التي تعطي ولا تطلب، بالشغف نفسه للكتابة. حتى حزنها وانكسارها على أبي حولته لكتاب عنه -وبالشغف نفسه للعلم والتعلم- آخره قرارها تعلم اللغة الإسبانية واستعانتها بمدرسة لهذا الغرض.


تعلمت من أمي حب العلم، حب الأسرة،التسامح، الترفع، حب الحياة، الاستمتاع بالأشياء البسيطة، الوفاء للأصدقاء، عزة النفس، الكرامة.


لم تنصحني أمي بشيء، واكتفت أن تكون قدوة .. فتعلمت منها كل شيء!


*من كتاب (سيرة الأمهات)، فوزية أبو خالد، عبدالعزيز الخضر


أحدث منشورات

Comments


bottom of page