top of page
  • سياق

تشكيل: ميتافيزيقيا الشتاء

نوف السماري

فنانة تشكيلية



حين ينقلب فصل الشتاء لينثر برده على الأرض ويضفي حلمه بالتجلي، يخاتل الشمس ويجمع الغيم المطر فاردا جنحان الريح  لتعبر صدر الإنسان، وتتبوأ دورها في بعثرة همومه وكل ما ينزوي طويلًا في قلبه، فتكون إما باعث أمل في التغيير وإما أن تدفعه إلى الركود والانعزال مراجعًا فصول أفكاره وذكرياته. ولو نظرنا للشتاء هنا في وقفة مع صورته وما تتركها من حالة ذهنية وأبعاد نفسية، وبكل سردياته وسماته وإسقاطاته المجازية، سنجده في حالات كثيرة رمزًا لبداية جديدة وفصلًا مختلفًا في حياة إنسان يحملها معه في كل ما يقدم وتتسلل لتفاصيله دون قصد، وتشكل شيئًا من نمط حياته ليتحول إلى سلوك في ممارساته.


 نجد الشاعر مثلًا يستعير البرد الفعلي عاطفيًا ليصف ويلات شعوره و أيامه حينًا، و في أيام أخرى ينادي الشتاء الماطر استبشارًا بالخير، أما الرسام فيعيش في سباق لانعكاسات ألوانه وخطوط أشكاله وحياكة قصصه وشخوصه. كان العرب وما زالوا يصفون شديد البرد بـ"برد الأزيرق"، وذلك في منتصف عزم الشتاء، ولو تأملنا سبب تلك التسمية سنجد أن قسوة البرد تسبب زرقة الوجوه والأطراف وتدمي أنوف المواشي والجمال حتى سمي  برد "مبكية الحصني".




فهد الحجيلان في مرسمه                      لوحة من معرض" عصفور البرد "


  


يقول الشاعر النميري: "تحجر الطير من قيدومها البرد"؛ أي أن الطير يتجمد لشدة غربته وهمه، ولما يخلقه ذلك الشعور بالوحدة أحيانًا في مقاومة عواصف الحياة. وهنا أود أن أشير إلى عصفور البرد للفنان فهد الحجيلان -رحمة الله عليه- الذي رحل عنا عام 2018 إثر نوبةٍ قلبية و بعمر يناهز ٦١ عامًا. قبل ساعات من وفاته، كتب الحجيلان رسالة يدعو ربه شاكيًا الظلم، وتعاطف معه جمهوره وعشاق فنه، لكن لم يعرف أحد سبب تلك الرسالة، وظل قهره سرًا أخذه معه إلى مرقده الأخير دون أن يجد من يدفئ عصفور البرد؛ اللقب الذي صار يعرف به الفنان الراحل.







 عُرف الحجيلان بهذا اللقب بعد معرضه الشخصي الذي كان قد قدمه عام 2011 حيث عُرضت له ٤٠ لوحة، واستحضر فيه ذكريات طفولته الملفوفة بمتاعب الحياة اليومية التي انغرست في ذاكرته. يأتي إلينا دائمًا كأنما هو باحث عن امرأة مفقودة في لوحاته أو بالأحرى، كأن هناك ملامح مألوفة وضائعة بين أعماله. في أحد لقاءاته ذكر: "من الألوان أحاول إرسال أفكاري ورسائلي، من خلال لون وفراغ، من منطلق إيماني بأهمية اللون وقوة إيحاءاته والدلالات المختلفة التي يتركها لون واحد في الوقت نفسه" ~ فهد الحجيلان



و في تدرج "الأزيرق" بكامل أحواله مضى الفنان السوري صفوان داحول بين لوحاته الزرقاء والرمادية في محاولة لتقصي "الحلم" لتكتسي اللوحات بشيء من برودة فزع الاغتراب وعزلته في لوحاته، يردد دائمًا بأنه كان يحلم أن يكون رسامًا، ولمدة أربعين عامًا مضى في إنتاج أعمال تترك انطباعًا باردًا بالوحدة تتجلى في ألوانه الأحادية المتراوحة بين الأزرق لمجموعات كبيرة في بدايات أعماله، بينما تشيع درجات الأسود والرمادي




                                                    بدون عنوان – لـ صفوان داحول

 

في أعماله الأخيرة عاكسة لون هموم الحرب في سماء بلاده، لكن تظل المرأة هي العامل الساكن دائمًا في معظم أعماله، إن لم يكن في أعماله جميعها، والصمت يبدو دائمًا العامل الأساسي المختبئ  في ملامح لوحاته الأبواب المواربة والنور البعيد، كلها تلمح بدرجات متفاوتة لشيء من العزلة والاغتراب. يقيم الفنان السوري صفوان داحول حاليًا في مدينة دبي، التي انتقل إليها من دمشق بعد اندلاع الحرب في سوريا، وقد أقيم معرضه الشخصي الأخير في صالة "أيام" بمدينة دبي تحت عنوان "يقظة" عام 2022 .




" امرأة تحت المطر "  لـ صفوان داحول



 وبالعودة لـ "مبكية الحصني" التي تأتي كأحد مسميات فصل الشتاء، كناية عن  البرد الذي تدمع العين لشدته، وكأنما هو المطر الذي تسيل له عيون السماء، نتذكر أن موقف الفرد في استقبال المطر يختلف بين الثقافات والدول على مر العصور، ففي الثقافة الغربية يكاد يكون الشتاء والمطر بسمائه الشاحبة أحادية اللون دلالة على الكآبة، بينما في مجتمعنا هو دلالة خير وفرح واستبشار لتحول الأرض لنعيم واخضرار. يقول داحول عن هذا المعرض: في إحدى اللوحات التي عملت عليها 2016 بعنوان "نشيد المطر" حيث تعبر عن حالة ما بعد هطول المطر مباشرة وما يتركه من آثار لوجوه تعبيرية في خيالي، يطبع على الأرض بقطراته ملامح متداخلة بدرجات الأزرق ومايتلاءم معه من ألوان، وكأنهم جميعًا ينشدون في حالة شعرية لاستقباله، وكأنما بوابة السماء جهزت لاستقبال الدعاء والأمنيات والبهجة.








" نشيد المطر "                        


للشتاء شخوصه المتلونة التي تعبر عن حالات الإنسان في مواجهة فصول حياته. وللتعامل مع جوهر مفهومه مفارقات في مجتمعات منها من يستبشر ببرده الماطر لشح المعيشة أملًا فيما يجلبه من خيرات في أرجاء الصحراء المترامية في بلادنا. ولو تأملنا معنى كلمة شتاء في اللغة العربية لوجدنا كلمة (شاتٍ) أي ذو مطر، وجمعها (أشتية)، لكن في المجتمعات الغربية تتوالد الكثير من الأساطير التي تدعي أن الشتاء يأتي لمعاقبة البشر، حيث تعبّر الأمطار والعواصف عن غضب السماء العنيف، وفي الأساطير الأوروبية يقال إن هناك ثلاث سنوات من التجمد ستسبق نهاية العالم، ليرتبط هذا الفصل لدى الكثيرين بمشاعر الحزن والأسى والكآبة و الانعزال. وبالمجمل فإن بعض الانعزال يساعد كل أولئك المبدعين من صناع الفن أو الكتاب أو الموسيقيين على استمطار أجمل المعاني والصور والجمل وصياغة أعمالهم ومشاركتها لتترك بهجةً تشبه حالة ما بعد فصل العواصف والرعود.




أحدث منشورات

Comentarios


bottom of page