top of page
سياق

سجال | في ظلال الأدب الساخر

تحرير: د. إبراهيم المرحبي




من قال إنّ الأدب الساخر كُتب لمجرد الضحك والترفيه فقط؟! إنه فنّ رفيع وعدسة عبقرية تستهدف المفارقة ورصد تناقضات الحياة والتعبير عنها وعن موقف الذات منها بوعي وتوازن، هو عدسة ينفذ من خلالها الكتّاب إلى واقعهم قارئين وناقدين وساخرين مُشكِّلينَ ذلك كله بمفردات واعية ظاهرها فيه الطُّرفة، وباطنها فيه البكاء! فتضحك وهلة وتبتسم ثم تبكي وهكذا مرارًا مع كل نص جاد وقراءة واعية. إنه كتابة تستكشف الآلام والحقائق المستترة، وتفتح أعيننا على تناقضات الحياة ومفارقاتها، لتدعونا بطرفاتها للتفكير والتأمل بعمق ونحن نبتسم، ففي طياتها أبعاد نفسية وحمولات ثقافية واجتماعية عميقة قد لا تتأتى للمتلقي إلا بعد إمعان النظر. ورغم أنه أكثر ألوان الأدب نفاذًا إلى نفس المتلقي، إلا أنه أكثرها تعقيدًا وصعوبة؛ لما تتطلبه كتابتها من موهبة وذكاء ومهارات عالية وثقافة رفيعة؛ فالتقاط المفارقات وربطها بصورة ساخرة يرسم الابتسامة على وجه قارئ يائس أو سامع ملَّ السماع، مهارةٌ لا تتأتى لكل كاتب! إنها وصال فكري مع المتلقي، "مبعثه وصال المحبوب"، فهي سلوى للأرواح المتعبة، ووسائد الرؤوس المثقلة، تستعمل النقد اللاذع والتعبير بروح الفكاهة الهادفة، كي لا تهوي تلك الأرواح والرؤوس بثقلها في مسرح الحياة! 

وحدهم من يمتلكون عبقرية الكتابة والتأثير هم من تنقاد لهم الكتابة الساخرة؛ لأنهم مجردون من كل عوامل التأثير في المتلقي إلا من نفس خفيفة ولغة لا يحسها القارئ؛ وهي لغة -وصفها شكري عيَّاد في سياق غير هذا- تثب إلى نفس قارئها وتضع الفكرة في علاقة مباشرة معه دون تعقيد أو غموض، فلا يشتبك مع جملة يظلّ يفك رموزها حتى يعرف ماذا يريد الكاتب أن يقول!. إنها لغة: "النص الذي يرتبط بممارسة مريحة للقراءة"، كما يقول رولان بارت، إذ يتفاعل معه القارئ ويستلذ في فضاء اللذة النصوصيَّة، في لحظة وصفها بارت، بتلك "التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة؛ ذلك لأن أفكار جسدي ليست أفكاري"!.


في سجال هذا العدد، وجّهنا مجموعة من الأسئلة الملحّة حول الضحك والأدب الساخر إلى ثلاثة من الأدباء والنقاد، وهم: القاص والناقد (محمد الراشدي)، الذي أصدر مجموعة من الأعمال الأدبية والنقدية التي نال بها مجموعة من الجوائز الأدبية والثقافية، ومن هذه الأعمال: مجموعة "سقف مستعار" القصصية، ومجموعة "العقرب" القصصية، ونصوص "نكز" الساخرة، وكتاب: "شهد على حد موس: مقاربات في الثقافة والأدب"، و"أيقون الرمل: مقاربات نقدية في تجربة الشاعر محمد الثبيتي"، وأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة قطر، الدكتور: عماد عبد اللطيف الذي نشر مجموعة من الأبحاث العلمية المحكمة باللغتين: العربية والإنجليزية، وأصدر مجموعة من الكتب النقدية، منها: "البلاغة العربية الجديدة"، و"تحليل الخطاب السياسي"، وأستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتورة: فوزية النفيعي التي أصدرت أخيرًا كتابها: "خطاب النادرة: قراءة تداولية".


فما هو الضحك، ولماذا نضحك؟


من جانبه يقول الأديب والناقد الأستاذ محمد الراشدي: "إنّ الضحك يتخطى بداهة التعريف الأولي الذي يحصره في الاستجابة الغريزية أو الفطرية لمثيرات معينة ينشأ عنها الضحك؛ إلى معان أدق وأعمق وأليق بالضحك من مجرد اختزاله في ردود الأفعال العابرة، ليكون شكلًا من أشكال المجابهة المتقدمة للحياة في نزالاتها المختلفة، والتفاعل مع الوجود البشري وفق آليات يتخلى فيها الضحك عن مفاهيم السرور والرضا والقبول...، ليتقاطع مع البكاء في بعض تجلياته، ويحضر في النقيض تمامًا من بواعثه الممكنة، شاهد عدل على شر البلية، وضحكًا مؤجلًا للسائرين على هدى "من يضحك أخيرًا..."، وقاتلًا يقتنص القلب الذي يستكثر منه، وناقضًا للصلاة كما تصنع نواقض الوضوء، ووصمة سذاجة موجعة حين يكون أيسر تعريف للساذج "مضحوك عليه"...، وهكذا -والقول للراشدي- فكلنا "مضحوك عليه" حين نتوهم أن الضحك يسلمنا قياده بهذا اليسر الذي يمكن معه أن نتطامن إلى بلادة التعريف أو سطحية المعنى".


وعن ذات المحور يتحدث الدكتور عماد عبد اللطيف، قائلًا: "الضحك مجموعة من الأفعال والتعبيرات الحركية والجسدية التي يتخذ فيها الوجه وضعيات معينة تجعل منه وجهًا ضاحكًا، ويصدر أصواتًا معينة يتعارف عليها أفراد المجتمع على أنها أصوات ضاحكة، ويفرز فيها الجسم رسائل كيماوية وهرمونات (مثل الأندروفين) تعزز حالة "السعادة" والفرح. والضحك من الأفعال التي يشترك فيها الإنسان والحيوان، إذ يستطيع الطفل الضحك في عمر أربعة أو خمسة شهور فهو يضحك لتحقيق أغراض قريبة من أغراض الكبار؛ أهمها تمتين العلاقات مع مَنْ حوله، حتى يتمسكوا به، ويقدموا له الرعاية الضرورية. وهذه وظيفة اجتماعية مهمة للضحك بين جميع الأجيال في كل المجتمعات. وبالمثل فإن بعض الحيوانات تضحك بطريقتها الخاصة لإنجاز وظائف اجتماعية شبيهة؛ فالشمبانزي -على سبيل المثال- يضحك أثناء اللعب، ليحث الآخرين على المواصلة".

ويستكمل د. عبد اللطيف حديثه عن الضحك والفكاهة من منظوره الخاص نحو الواقع: "يضحك البشر لمئات الأسباب في حياتنا اليومية، قد تحفزهم مشاهد خارجية مثل رؤية أب يداعب ابنه بحركات مضحكة في الشارع، أو مشاعر داخلية مثل تذكر موقف مضحك، أو قراءة نصوص مضحكة، أو الضحك بالعدوى في حالة الجلوس مع مجموعة من الضاحكين، وغيرها. والأسباب التي تجعل المرء يضحك تتباين من إنسان إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. لذا فإن أسباب الضحك وطريقته فيهما أثر ثقافي إلى حد ما. ففي حين تتقبل بعض المجتمعات القهقهة الصاخبة في قلب الشارع، تتحفظ مجتمعات أخرى على مثل هذا السلوك في الفضاء العمومي. والعبارة الواحدة قد يدركها بعض الناس في مجتمع ما على أنها نكتة تقتل سامعها ضحكًا، ويراها آخرون عبارة مستفزة، أو غير لائقة".


أما الدكتورة فوزية النفيعي فتنطلق في إجابتها من مكانة الضحك عند الفلاسفة مستعرضةً أهم الأسس الفكرية والمنطلقات الفلسفية حول الضحك، قائلة: "إنّ المتمعن في مفهوم الضحك يلحظ أنه جذب -منذ قديم الأزل- اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس، فنجد الفيلسوف اليوناني (أرسطو) يحدّد ثلاثة أنواع من الكوميديا، وهي: الكوميديا القديمة التي تبالغ أو تسرف في عرض الأشياء المضحكة، والكوميديا الجديدة التي تتجه نحو كل ما هو رفيع، والكوميديا الوسطية، وهي التي تتوسط بين النوعين السابقين. أما (هوبز) فقد رأى أنّ الضحك نوع من الإعجاب بالذات والفخر والتباهي والبهجة المفاجئة، أما الفيلسوف (شوبنهاور) فقال: "إنه حيث توجد حياة جدية يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض يكون الضحك موجودًا". في حين عدَّ (فرويد) أرقى الإنجازات النفسية للإنسان وتصدر عن آلية دفاعية في مواجهة ما يهدّد الذات. وتحوّل هذه الآلية الدفاعية حالة الضيق إلى حالة المتعة؛ فالنكتة -في رأي فرويد- "قناع عدواني أو جنسي لكي يخفي الشخص حالات الإحباط الخاصة به". أما الفيلسوف (هنري برغسون) فقد رأى أنّ الضحك نوع من الإعجاب بالذات والفخر والتباهي والبهجة المفاجئة، كما نحا -خلافًا لما يصوره كثيرون- إلى أنّ الضحك عملية عقلية وليست وجدانية، وأنّه يتطلب إعمالًا للعقل". أمّا أبو حيان التوحيدي فكان تفسيره للضحك -من وجهة نظر د. النفيعي- "أنه قوة ناشئة من تفاعل قوتي العقل والغريزة في الإنسان، وهو حالة من أحوال النفس تنشأ عندما يرد إليها استظراف أي شيء طارئ يجعلها تتعجب". 


إذن "لماذا نضحك؟"


تجيب د. النفيعي، قائلة: إن "الناس لا يضحكون للأسباب نفسها، وإنما عن سياقات اجتماعية خاصة، ومعظم المواقف المثيرة للضحك مواقف اجتماعية، والضحك لا يعبر عن الفرح دائمًا، بل ولا حتى عن الطابع الهزلي للأشياء، ولكنه شكل من أشكال الارتباط الاجتماعي الغريزي تقدح الفكاهة زناده، فيكون أحيانا تعبيرًا عن الفرح أو إبعاد عاطفة ما أو تحدي أشخاص مُخالفين، وفي أحيان أخرى يكون الضحك سلوكًا مصطنعًا يهدف المرء من ورائه إلى حفظ ماء الوجه أو إخفاء فشله في اتخاذ قرار ما أو يحضر حين يحس الإنسان بالحرج، وفي مواقف القهر قد يلجأ الإنسان إلى الضحك ترويحًا عن النفس وتنفيسًا لها، وفي بعض الحالات يصبح الضحك انتقاصًا للذات. والضحك قد يرافق النجاة التي تردف الخطر، أو يكون وسيلة دفاع ضد مواقف الخوف العفوية، أو هو تعبيرٌ عن التعاطف والتفاهم المتبادل بين البشر، أو ضحك اجتماعي يصحب الحوارات بغرض المجاملة الذي لا يعبّر في الضرورة عن أي إحساس بالمتعة أو الفكاهة". والضحك في ظني أنه فطري، والدليل على ذلك –من وجهة نظرها- "أنّ الطفل عندما تلاعبه وهو في أسابيعه الأولى يبتسم ثم يترسّخ لديه وهو ينمو، ويظهر الضحك العفوي في الأشهر القليلة الأولى من الحياة حتى عند الأطفال الصُّم أو المكفوفين"، وترى د. النفيعي أنّ الإجابة الدقيقة عن كون الضحك فطريًّا أو غريزيًّا يحتاج "إلى دراسة من خلال حقول معرفية مختلفة تشمل الفلسفة، وعلم النفس، والأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الأعصاب ...إلخ لوضع نظرية متكاملة عن الفكاهة والضحك تتضمن جميع جوانبها وظواهرها".



وبالانتقال مع المشاركين في هذا السجال وسؤالهم عن الكتابة الساخرة وتأثيرها في الجمهور أكثر من بقية أنواع الكتابة الأخرى؟ 


يؤكد بدءًا د. عبد اللطيف ذلك بقوله: "نعم، للكتابة الساخرة أثر جليّ في الجمهور لأسباب، منها: إنّ الكتابة الساخرة تملك لغة خاصّة في النقد الاجتماعي؛ فهي تنقد بواسطة التمثيل والاستعانة بالإشارة والكناية بمنأى عن اللغة المباشرة. كما أنها من أكثر أشكال الكتابة استجابة من القارئ والمتلقي؛ لأنها تعمد من جهة إلى أسلوب السهل الممتنع، ومن جهة أخرى ترتكز على المتعة في الأسلوب والتعبير، وتعتمد على المفارقة بين اللفظ والمعنى، وأحيانًا على التضاد؛ لترصد التناقض بين الأشياء وسلوكيات البشر وتعاملات الناس، ما يشكّل حالة صدمة للقارئ، فتثير لديه المتعة والدَّهشة". الكتابة الساخرة تشير -من وجهة نظره- "إلى الخطأ وتكشفه، تتعامل مع المفارقات، تقتحم كل شيء مسكوت عنه وتقدّم الأشياء التي يفهمها الناس وتهمّهم، تحتال على رؤساء التحرير والمجتمع".

وعن مقدرتها على التأثير في الجمهور، يقول د. عبد اللطيف: "إنّ للكتابة الساخرة مقدرة عالية على جذب المتلقين ولها سحرها؛ لا سيّما أنها تنعتق من كل ضرورب التنميق الكتابي، من خلال إخلاصها لإظهار اللقطة المؤثرة في متلقيها، وتشخص معاناته، من ثم تجسد رؤيته؛ لتكون صوته الخاص في وجه الأخطاء الموجودة، ما دام أنها تبرزها على نحو كاريكاتيري، حيث إنها تجسد شخصيات وكاريكاترات موجودة داخل معظم المجتمعات، نجد التنوع الهائل منها، والتجسيم الكبير لبعض عيوب أفراد المجتمعات والسلوكيات"، ويستشهد على عِظَم تأثيرها في النفس بمقولة لديكارت: "إنّ السخرية أو الاستهزاء هي نوع من الفرح ممزوج بالكُره يأتي من أنّنا نلمس عيبًا صغيرًا في شخص نعتقد أنه يستحق مثل هذا العيب. في قلبنا كُرهٌ لهذا العيب وفرحٌ أن نراه عند ذلك الذي يستحقه. وحين يحصل هذا بغتة فإن مفاجأة التعجب تكون سببًا في أننا ننفجر ضاحكين". 

 ويمثل د. عبد اللطيف للدور المهم الذي يلعبه تأثير السخرية والطُّرفة في نفس المتلقي، قائلًا: "في السنوات القليلة الماضية ران السواد على المشهد الإخباري والإعلامي والعالمي (حروب وقتلى، واستنزاف وأطماع، وكوارث، وغلاء أسعار، وأزمات غذائية واقتصادية...إلخ، وهي أمور تحتم على الإنسان/ المجتمع أن يغالبها فيغلبها، ضَحكًا وإضحاكًا، ويحافظ على سلامته النفسية. وقد ذكر فرويد في كتابه: "النكتة وعلاقتها باللاوعي" أنّ النكات تساعد المجتمع على تفريغ ضغوط عدوانية في عقله اللاواعي، بشكل آمِن وبدون صدام، حتى لا تتحوّل المشاعر المكبوتة إلى عنف، ولا أدلّ على ذلك من جائحة كورونا إذ تحوّلت السُّخرية إلى إستراتيجية عمَد إليها مستخدمو التواصل الاجتماعي، كنوع من الضماد النفسي؛ فالضحك وسيلة للتخلّص من الألم أو من ضغوط الحياة اليومية". 


وفي السياق نفسه ترى د. فوزية النفيعي أنّ "أنواع الكتابات الساخرة كثيرة ومتباينة، وأثر كل منها قد يكون مغايرًا عن الآخر؛ فالكوميديا السوداء تختلف في أثرها عن الكوميديا الخفيفة، وتأثير النكت قد يختلف عن تأثير الكاريكاتير. وبالمثل يختلف تأثير الكتابات الساخرة عن غير الساخرة. لذا تظنّ -من وجهة نظرها- أنه تصعب معرفة نوع الكتابة الأكثر تأثيرًا؛ لأنها تعمل بطرق مختلفة. وتزداد صعوبة المقارنة بالنظر إلى التفضيلات الشخصية للمتلقين؛ فبعض القراء والمشاهدين يفضلون الأعمال "الجادة" جدًا؛ مثل المسرح التراجيدي، والروايات الاجتماعية، والشعر المقاوم، وغيرها. ويكون تأثرهم بهذه الأعمال كبيرًا للغاية مقارنة بغيره". أما الكتابة الساخرة "فتؤثر بطريقة مختلفة عن غيرها؛ فالسخرية والفكاهة تجعل المرء يشعر بأريحية وسعادة، فيتهيأ لقبول أفكار وآراء ومعتقدات لم يكن ليقبلها لو أنه في حالة نفسية وعقلية مختلفة. لذا أدرك البشر منذ زمن بعيد أن نجاحك في إضحاك الشخص، يمهّد الطريق أمام حصولك منه على ما تريد. فالفكاهة إستراتيجية من إستراتيجيات التأثير الفاعلة التي يستعملها البشر في أكثر المواقف جدّية". وتؤكّد د. النفيعي وجهة نظرها هذه بالقول: "والزملاء المشتغلون بالعمل الجامعي يعرفون التوصية المتكررة بأهمية إضفاء جو من المرح والفكاهة في الصف لكي يحفزوا طلابهم على الانتباه والاستيعاب. كما أنه ليس من المستغرب أن الخطب السياسية -وهي أحد أكثر أنواع الكلام جدية- تكون عادة مطعَّمة بمقتطفات مختارة بعناية لتصنع بعض أجواء المرح والفكاهة؛ حتى يتمكن الخطيب من تحقيق الأثر المرجو لخطبته". وتعود د. النفيعي لتؤكد أهمية الطرفة والضحك، قائلة: "وفي الحقيقة فإن علامة النجاح الأوضح في القدرة على خلق تواصل مع الآخرين هي مشاركتهم الضحك. لذا تُعدُّ القدرة على إضحاك الآخرين -والقول لها- مهارة ثمينة لمن يملكونها. لا سيما بالنظر إلى أن الضحك يولِّد حالة سعادة وفرح يمكن أن تُعطل التفكير النقدي، والمساءلة العقلية الواعية. لذا يلجأ الماهرون في التلاعب الجماعي بعقول البشر إلى الأفلام الكوميدية، وأفلام الكارتون، والمسرحيات؛ لبث أفكارهم ودعواهم بشكل صريح، حتى تتسرب إلى عقول ونفوس المشاهدين المنغمسين في الضحك، وغير المنتبهين إلى الحيلة الماكرة التي يمارسها المُضحكون. ويمكن القول إنّ المجتمعات العربية المعاصرة جائعة للضحك، وبخاصة المجتمعات التي تعاني شظف العيش، وصعوبات الحياة. فالضحك يصبح متنفسًا، ومعينًا على تحمل الصعوبات. لذا نلحظ لجوء بعض المجتمعات إلى الفكاهة للتغلب على أوضاعها الصعبة، فيُنتج أفراد المجتمع نكتًا ورسوم كاريكاتير، و"ميمات"، وغيرها من أنواع الفكاهة المعاصرة، ويتداولونها للتعبير عن معاناتهم والسخرية منها".


وعن ذات السؤال يؤكد الناقد والقاص الساخر الراشدي أنّ "الضحك والبكاء سلاحان فاتكان، وكلاهما يملك قدرات تأثير هائلة، يمكن بها تحقيق الاستحواذ والتأثير لدى الجمهور، لكن السخرية -في تقديره- تملك مالا يملكه الحزن، وما يمكن تمريره في وعي إنسان يضحك في غيبة مؤقتة للعقل أضعاف ما يمكن للحزن أن يبذره في ذلك العقل!". "وأشنع المفاهيم وأعتى التابوهات والمحاذير -من وجهة نظره-؛ يمكن أن تقدم في نسخة مخففة بمزيج السخرية والضحك، فلا تحدث من الارتطام والصدام ما يحدث عادة لو قُدّمت في غير قالب الضحك". ويؤكد ذلك، قائلًا: "إنّ الكتابة الساخرة تشبه ضربة مزدوجة، تستثمر الضحك في شلّ قوى المقاومة في وعي الإنسان، وفي الوقت ذاته توظّف طاقات اللغة في تمرير الرسائل والمضامين!".



وحول تنوّع الأجناس الأدبية والقوالب التي يمكن أن تنهض بالأدب الساخر من جديد، كان لسجال هذا الحوار مع المشاركين:


بدءًا بالراشدي الذي يؤكد -انطلاقًا من تجربته النقدية والقصصية- أنّ التنقيب العميق في تراثنا الساخر لم يستكمل جهوده بعد، قائلًا: "إنّ الثروة الواسعة من الأدب الساخر في تراثنا الأدبي بمختلف قوالبه لم تستثمر حتى اللحظة على الوجه الأمثل إبداعيًا، أو نقديًا، وقراءتنا لذلك التراث لم تتجاوز السطح والحواف البعيدة لأجمل وأثرى خطابات السخرية بين آداب العالم كلها، ولذلك أرى -والقول له- أن استنهاض تلك الأشكال والقوالب القديمة المتنوعة، وإعادة إنتاجها وفق معطيات الحاضر يمكن أن تشرع أفقًا واسعًا ورحبًا للكتابة الساخرة من جديد".


بينما يجيب د. عماد عبد اللطيف قائلًا: "لقد ساعدت وسائل التواصل المعاصرة على انتشار الكتابة الساخرة، وابتكار أنواع جديدة منها، مثل: "الميمات" والكوميديا الارتجالية والفيديوهات الكوميدية القصيرة. وأصبح الأدب الساخر جزءًا أساسيًا من فضاءات تواصل مهمة، مثل: الفضاءات الافتراضية ووسائل الإعلام الجماهيرية مثل الصحف والتلفاز"، ويؤكد أيضًا أنّ الأشكال الفنية الساخرة تعدّدت "بفضل القدرة على صنع أدب ساخر متعدّد العلامات، يمزج بين الكلمة، والصورة، والحركة"، ولعله برأيه هذا يخالف ما يتداول باستمرار في المشهد الثقافي الخليجي والعربي عن تقهقر الكتابة الساخرة وتراجعها. غير أنه يستكمل حديثه عن الاستمرارية والتقدم الذي تشهده الكتابة الساخرة برؤية لافتة قد تثير بعض الآراء النقدية في المشهد الثقافي لتكون موضع اتفاق أو اختلاف، قائلًا: "وفي الحقيقة، فإنّ الأدب الساخر شهد تحولًا عاصفًا في الشهور القليلة الماضية، غيَّر على نحو جذري من عملية إنتاجه في البشرية قاطبة." ومردّ ذلك إلى "قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على إبداع نصوص ساخرة، حيث أصبح باستطاعة أي شخص الحصول على أدب ساخر يُعدّ له خصيصًا، بما يتلاءم مع متطلباته واحتياجاته. فالذكاء الاصطناعي التوليدي -من وجهة نظره- يمكنه ابتكار أنواع جديدة من الأدب الساخر بواسطة الدمج بين الأنواع المتاحة لديه، ويمكنه تطويع أيَّ فكاهة لتتلاءم مع خصوصيات ثقافية أو دينية أو عمرية أو مهنية معينة. وسأضرب -والقول له- مثالًا بسيطًا في هذا السياق، حيث اقترحتُ على ChatGPTs الطلب الآتي: "أرجو أن تصنع لي كتابة ساخرة عن الكتابة الساخرة"، فجاء إبداعه الآلي، كالآتي:

"الكتابة الساخرة هي الفن الذي يجمع بين العبقرية والغضب، فهي تُكتب عندما يكون الكاتب على وشك الانفجار من الواقع، ولكنه يقرر بدلًا من ذلك أن ينفجر بالضحك. هذا النوع من الكتابة هو مثل لعبة الكراسي الموسيقية؛ الجميع يعرف أنها تنتهي بالفوضى، لكنهم يستمرون في اللعب على أي حال. الكاتب الساخر هو شخص يستخدم القلم كسلاح، ولكن بدلًا من القتال، يقوم برقصة مدهشة تجعلك تضحك حتى البكاء. إنه الشخص الذي يستطيع أن يجعل من فنجان القهوة الذي انسكب على الطاولة قصة عن مؤامرة دولية لإفساد صباحه. وفي عالم الكتابة الساخرة، كل شيء مبالغ فيه، حيث يصبح الطقس الحار محادثة عن نهاية العالم، والزحمة المرورية رحلة إلى الجحيم، وقطعة البيتزا الباردة دليل على انهيار الحضارة الإنسانية. الكاتب الساخر لا يخاف من الحقيقة، بل يواجهها بابتسامة عريضة ويحولها إلى نكتة. فهو يعرف أن السخرية هي أفضل طريقة لمواجهة العبثية، ويعلم أن الضحك هو السلاح الأكثر فعالية ضد الجدية المفرطة". ويختم إجابته د. عبد اللطيف بالقول: "وفي الحقيقة فإنّ نص تشات جي بي تي السابق ذكره عن الكتابة الساخرة لا يقل إبداعًا عن أي كلام بشري مماثل!".

 أما د. النفيعي فترى بإيجاز أن كل الأجناس الأدبية والقوالب قادرة على النهوض بالأدب الساخر وفي مقدمتها: "الشعر، والرواية، والقصة، والمسرحية، والتغريدات".



ولأنّ من شأن كل تجربة أن تستقرأ أو ينظر لها من عدة جوانب، اتجه الحوار هذه المرة ليكون عن العلاقة بين الكتابة الساخرة والكوميديا. فهل الكتابة الساخرة هي نواة المسرح الكوميدي؟ أو الكوميديا؟ وهل الضعف الذي لحق بالكوميديا المعاصرة اليوم عائد لضعف الأدب الساخر؟


من جانبها تؤكد د. النفيعي أن الكتابة الساخرة هي نواة المسرح وأنّ ضعف النص الساخر قد أثّر في الكوميديا، حيث تقول: "نعم، ويبدو لي أنّ بؤس الكوميديا المعاصرة ليس ناجمًا عن شُحّ في المضامين، فالواقع ثمل بالعجائب والمفارقات، وبالسلوكيات الغريبة القادرة على تفجير أنهار من المضحكات- المبكيات الكثيرة، وملقاة على قارعة الطريق لمن يحسن التقاطها وتوظيفها توظيفًا كوميديًا ذكيًا. إلا أنّ الكتابة الساخرة تعاني من شُحّ في النصوص التي تعتني بتلك المفارقات. وقد انعكس ضعف النص الأدبي الساخر على أداء الكوميديا بشكل عام؛ ففرق شاسع بين الدعابة الذكية والعبث، لذلك لا يمكن نقد القبح والتفاهة، أو تقويم اعوجاج السلوك بأسلوب ركيك ممجوج". فالفيلسوف (برغسون) يرى أنه "حتى العبث الهزلي له معقوليته الخاصة، وهو في أبعد فلتاته وجنونه ذو منهج". وتضيف د. النفيعي: "تتجلى السخرية في الأدب المسرحي في المسرحيات التي ترنو إلى الضحك من أجل الضحك، لكن هذا النوع لا يصنع أدبًا ولا ثقافة"، وإنما يندرج -من وجهة نظرها- "تحت ما يسمى مسرح التنفيس، وعمره قصير، لا يحظى بمزيد اهتمام لأن الناس تبحث عن الكوميديا الراقية التي تحترم عقولهم". وتستشهد في هذا السياق بقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه "الضحك": "الكوميديا تسمو كلَّما مالت إلى الامتزاج بالحياة، وهناك مشاهد كثيرة من الحياة الواقعية التي تقترب من الملهاة الراقية، يمكن للمؤلف أن يستعيرها دون أن يغير فيها كلمة واحدة".

وتستكمل د. النفيعي حديثها مركزة على الوضع الراهن للكوميديا في الأدب الفكاهي، إذ ترى: "أن الأدب الفكاهي تأطّر اليوم، ولكن ليس بالطموح المطلوب؛ فالكوميديا لا تعتمد على الموضوع أو القيمة المعرفية للموضوع ولا النقد الموضوعي للسلوكيات الاجتماعية، بقدر ما تهتم بالنكتة الباهتة على مظهر الشخصيات أو لهجاتهم أو غيرها من الأساليب المعتمدة على الإسفاف الزائد عن الحد في بعض المسرحيات الهزلية. ولعل أسوأ أنواع الكوميديا على الإطلاق -من وجهة نظرها- هي الكوميديا التي تبعث على التقزز عن طريق إطلاق (النكات) الخارجة عن حدود اللباقة والآداب العامة، وحتى إذا افترضنا أن لبرنامج كوميدي ما رسالة فكرية مهمة، لكن أحداثه وشخصياته لا تضحك، فإنه سيفشل حتمًا، فقد نجح (موليير وبومارشيه وماريفو) وخلدت أعمالهم ليس لأنها تحوي رسائل اجتماعية ناقدة، ولكن لأنها تُضحك، فالعمل الكوميدي الناجح، سواء أكان مسرحية أم غيرها، هو الذي يحترم قيم معظم المشاهدين، ويتجنب جعل السماجة دافعا للإضحاك، لأنها إذا أضحكت فإنما  تضحك ثلة من المشاهدين، لا الغالبية العظمى لا تقدم  أي شيء جميل أو ذي قيمة، بل تجنح نحو الملل على جناح نكات مبتذلة."

وتختم د. النفيعي حديثها بأنه "لا بد أن يكون لدى كاتب النص الساخر إحساس بالكوميديا، وطريقة تفكير في القدرة على صناعة ضحكة من النظر في المفارقات والمتناقضات، لا بد أن يكون لديه تقدير شخصي لما هو مضحك من غيره. ولعل -ما ذكرته آنفًا- يفسر أسباب ضعف هذا اللون الأدبي".


ويؤكد د. عبد اللطيف اتفاقه معها في هذا السياق بأن الكتابة الساخرة "ركن أساسي للمسرح الكوميدي، ويتحقق ذلك عن طريق وسائل بلاغية عدَّة منها المفارقة اللغوية والمشهدية والاجتماعية، ومنها النكت المباشرة. لكن المسرح الساخر يستعمل وسائل وعلامات غير لغوية أخرى في إنجاز السخرية، مثل: التعبيرات والحركات الجسدية المحفزة المساندة للنص الساخر. علاوة على الديكور والإضاءة والرقصات والموسيقى وغيرها من أدوات إنتاج السخرية في المسرح". ويشدد د. عبد اللطيف، موضحًا: "يجب التأكيد على أن الكتابة المسرحية الساخرة ليس الكتابة المسرحية الهزلية، فالكتابة الساخرة قد تكون تراجيدية مبكية، على نحو ما نرى في الكوميديا السوداء، والسخريات الاجتماعية والسياسية".

وحول ضعف المسرح الكوميدي، يقول د. عبد اللطيف: "أظن أن هناك تباينًا بين المجتمعات المختلفة في انتشار المسرح الكوميدي وتأثيره. وبالطبع فإن وجود نص ساخر متقن يُعدُّ متطلبًا مهمًا لأي عمل مسرحي جيد. ومع ذلك، من الضروري التأكيد على أن نجاح المسرح الكوميدي الجيد لا يتوقف على النص الجيد وحده، فهناك عناصر أخرى لا تقل أهمية مثل الممثل البارع، والمخرج المبدع. وحين يجتمع هذا الثلاثي نرى عادة أعمال رائعة، على نحو ما تحقق مثلًا في سلسلة مسرحيات "لينين الرملي" مع "محمد صبحي" في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته".


أما الكاتب والقاص الراشدي فيرى "أن الكتابة الساخرة ليست نواة المسرح الكوميدي"، والفكرة تكمن -من وجهة نظره- "في عظمة المسرح واتساعه وقدرته على تطويع سائر أشكال البوح لتكون ضمن آليات العمل فيه، فانضمت الكتابة الساخرة إلى جوار بقية أشكال الكتابة المسرحية، وكانت لونًا ضمن طيف واسع من ألوان التعبير التي يحتويها المسرح". وعند سؤاله عند ضعف الكوميديا ومرد ذلك إلى تراجع الكتابة الساخرة، أجاب قائلًا: "المسألة في تقديري أكبر بكثير من اختزالها في تراجع أو ضعف الكتابة الساخرة فحسب، إذ الكوميديا جزء من مشهد عام ينهش الضعف كل تقاسيمه، والكوميديا طالها ذلك الضعف بعد أن سقطت في وحل الهشاشة والابتذال والسطحية، والخلط بين مفاهيم السخرية الراقية والبذاءات".



وعن قلة حضور الكتابات الساخرة في الدرس الأكاديمي، اتجه السجال إلى المشاركين للبحث عن الأسباب وراء هذا الغياب أو قلة الاهتمام النقدي:


يجيب الراشدي بقوله: "لست على اطلاع كبير بالمنجز النقدي الأكاديمي في حقل الكتابة الساخرة، ولكن المُعلن والمتاح من ذلك المنجز يؤكد سؤالك"، ويعيدُ أسباب ذلك "إلى ما يمكن تسميته باللوثة الأكاديمية التي تفترض أنّ الكتابة الساخرة لا تلائم صرامة الدرس الأكاديمي، ولذلك فهي "تهبد" في كل شأن مهما كان مبتذلًا ومكرورًا وتقليديًا، وتأنف في الوقت ذاته الاشتغال في ميدان الأدب الساخر، وكذلك فإنّ ندرة الكتابة الساخرة النوعية، وتهافت الكثير من النماذج المتداولة، ونقص الوعي بأهمية وأثر وتاريخ الأدب الساخر؛ كلها أسباب محتملة لذلك الغياب".


ولا يبتعد عنه في الرأي د. عبد اللطيف إذ يعزو بدوره قلة حضور الكتابات الساخرة إلى أن الأساتذة في الصروح الأكاديمية "عادة ما يميلون إلى تدريس نصوص (جادة)"، ويرجَع هذا -من وجهة نظره- إلى أسباب متنوعة، منها: "النظرة الاستعلائية على بعض أنواع الكتابة الساخرة مثل النكت والكاريكاتير والمسرح التجاري. كما أن كثيرًا من الكتابات الساخرة تُستند إلى انتهاكات مقصودة للتابوهات الاجتماعية بهدف تحقيق أثر مضحك. ويتجلى هذا -مع الأسف- في آلاف النكت والتعبيرات غير اللائقة التي تُستعمل للتنكيت والتفكه، وهذه المادة -برأيه- لا تصلح للتداول العمومي، ناهيك عن أن تكون مادة للدرس الأكاديمي في معظم المجتمعات، لا سيما تلك التي تستند إلى عبارات عنصرية أو تمييزية، أو تُهدد السلم الاجتماعي." ويضيف د. عبد اللطيف قائلًا: "وعلاوة على ذلك، فإن كم النصوص الساخرة الممتازة التي يمكن تدريسها أقل بكثير مقارنة بكم الكتابات الجادة الممتازة التي يمكن تدريسها. كما أن الكتابة الساخرة تتطلب أدوات تحليل خاصة في بعض الأحيان، فأنواع مثل "الميمات" أو الكوميديا الارتجالية الحية تتطلب أدوات تحليل تتجاوز اللغة إلى الصورة والصوت والحركة، وهلم جرا. لكنني أظن أن هذا الوضع سيتغير بفضل قدرة الحاسوب على إنتاج كتابة ساخرة على أعلى مستوى. فهذه الكتابات الساخرة يمكن تكييفها لتتلاءم مع الظروف المجتمعية والثقافية الخاصة بكل بلد".


بينما ترى الدكتورة فوزية النفيعي أن أسباب قلة حضور الكتابة الساخرة في الدرس الأكاديمي تعود إلى عدة عناصر، "أولها: أنّ الأدب الساخر لا يُقدّمُ في المناهج العربيّة، على أنه إبداع مستقل، هذا يكشف ضحالة النظرة قديمًا وحديثًا إلى الأدب الساخر. وثانيها: القمع الذاتي الذي يمارسه بعض الباحثين في بداية مشوارهم، حين يلاحظون أن مَن حولهم يستخفون بكتاباتهم ولا ينزلونها المنزلة التي تستحقها، أو يجدون من ينصحهم بأن يكتبوا في موضوعات أهم وبشكل علمي، فيأخذون بهذه النصائح ويتحولون عن الكتابة الساخرة إلى الكتابة الثقيلة والرصينة. ويصبح همهم ماذا ستقدم للمكتبة العربية؟  ما الهمّ الذي تحمله؟ هل ستجد حلًا لمشكلة؟ وثالثها: أن السخرية طالما عانت من نظرة سلبية في مسار تاريخ الثقافة الإنسانية عمومًا، وكذلك الأمر مع الثقافة العربية"، وتمثل على ذلك بأن إيمانويل كانط يحصر خطاب الهزل بالجسد دون الفكر، "فالهزل برأيه لا يحمل على التفكير وإنما يحقق المتعة فحسب"، حيث كتبَ مرة: "إن الموسيقى والفكاهة هما صنفان من اللعب يحتويان على أفكار جمالية أو تمثّلات فكرية، لكنهما، في نهاية الأمر، لا يحملان على التفكير، وإنما يمكن أن يسببا متعة نظرًا إلى سرعة تناوبهما لا غير، وبهذا يشيران بوضوح كاف إلى أن التنشيط يتم بهما جسمانيًا فقط، حتى لو كانت الأفكار هي التي تثيره".

وعلى هذا الأساس، اقترن مفهوم الضحك عند كانط -برأيها- "بالانفعال أو اللامعقول من جهة، وبالمفاجأة والزوال أو العدم من جهة أخرى ويكتسب خطاب الهزل وفقا لرأي كانط هذه الصفات من تكوينه الانفعالي، وهي صفاتٌ تَسِمه بالنقص وانعدام الفائدة، وتوقعه في أسفل ترتيب أشكال الخطاب".



ومن خلال النظر في آراء المشاركين الماتعة والعميقة حول حضور الكتابة الساخر في المشهد الثقافي وغيابها، تولد تساؤل مهم عن أهم كتّاب الكتابة الساخرة في الوطن العربي في الوقت المعاصر. 


عن هذا تجيب د. النفيعي، قائلة: "أذكرُ على سبيل المثال لا الحصر: طه حسين، إبراهيم المازني، أحمد رجب، وحسيب الكيالي، ومحمود السعدني وجلال عامر، وعزيز نيسين، وأحمد مطر، ومظفر النواب، وأحمد فؤاد نجم. وفي المملكة العربية السعودية غازي القصيبي -رحمه الله-، وأستاذي الدكتور عبد الله بن سليم الرشيد، وأستاذ السردية المعاصرة والمسرح الدكتور: حسن بن أحمد النعمي، ومحمد السحيمي، وخلف الحربي، وسعيد الوهابي، ومشعل السديري، وعبد الله المزهر". 


ومن جهته يرى د. عبد اللطيف أنَّ "العالم العربي زاخر بكتاب ساخرين مهمين؛ فأنا أحب أعمال كتاب صحفيين ساخرين، مثل: محمد عفيفي، ومحمود السعدني، وأحمد رجب، وجلال عامر، وبلال فضل، وغيرهم. وأعشق مسرحيات لينين الرملي، مثل: تخاريف، ووجهة نظر، والهمجي، وسيناريوهات وحيد حامد الساخرة". "شاهدتُ -والقول له- بعض أجمل المسلسلات الكوميدية القصيرة، مثل: راجل وست ستَّات، والبلاتوه، وأمين وشركاه. والجميل في هذه المسلسلات أنها تأليف جماعي غالبًا، فمنذ أكثر من عشرين عامًا عرفتْ مصر ظاهرة التأليف الجماعي للنصوص الكوميدية، وهي -من وجهة نظره- تجربة ناجحة جدًا بحسب الأعمال التي قدمتها".

ويعود د. عبد اللطيف مقلِّبًا الحطب على النار وفاتحًا الأفق لمزيد من الطرح النقدي حول دور الذكاء الاصطناعي في الأدب والثقافة، فائلًا: "أود أن أختتم إجابتي عن هذا السؤال بمفاجأة! فأنا أظن أن أهم مؤلِّف للكتابة الساخرة في العالم في الوقت الراهن هو الذكاء الاصطناعي التوليدي. والأدلة الداعمة لهذا الرأي -في اعتقاده- يصعب تفنيدها هنا". مؤكدًا: أن "الذكاء الاصطناعي قادر على كتابة نصوص ساخرة عن أي موضوع مهما كانت طبيعته. وهو يستطيع تطويع كتابته الساخرة لتتلاءم مع متلقي معين، فحين تطلب منه كتابة نص ساخر مقدم لطفل في الثالثة من العمر، سيعطيك نصًا مختلفًا كليَّة عن النص الذي يُقدَّم لأساتذة جامعيين في الموضوع نفسه. كما أن السيد المبدع "الذكاء الاصطناعي" يمكنه أن يكتب نصوصًا ساخرة لا نهائية، في اشتراك محدود يمكن ChatGPT أن يمدك بعشرات الآلاف من النصوص الساخرة يوميًا". ليس هذا فحسب، بل إن د. عبد اللطيف -في تقديره الشخصي- يعتقد "أن مهنة الكاتب الساخر ستصبح في زمن قريب من الوظائف التاريخية التي سيعفى عليها الزمن". فالذكاء الاصطناعي التوليدي -فيما يرى- يكفيه مجردَ الأمر: "أنْ اكتب نكتًا عن الكتابة الساخرة"! ليكتب نصوصًا ساخرة مختلفة ومتجددة، والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها!


أما الناقد والقاص الساخر محمد الراشدي فيخالفهما كليًّا في ذلك، إذ يقول: "ليس في مشهد الكتابة الساخرة في الوطن العربي حاليًا إلا محمد الراشدي!". وهي إجابة ذاتية لا تخلو من مشاكسة طريفة تختزل في باطنها دعوة لمزيد إسهام جاد من المبدعين في هذا المجال، فالوحدة في ساحة الإبداع الساخر غربة مبكية!


أحدث منشورات

مقدمة العدد | (ههههههههه)!

هيئة التحرير هل تستطيع أن تكتب ضحكاتك؟ هل هي: (ها ها ها) أم (هههههههه) أم (ههاي)؟ ولو كنت من غير العرب، هل ستبقى خيارات صوت الهاء هي...

متابعات العدد الثامن عشر

من أروقة النقد: ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ ينطلق ⁧‫ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ في مدينة الطائف في يومي 5-6 يوليو 2024 بتنظيم من هيئة الأدب...

Comments


bottom of page