top of page
سياق

قراءة نقدية في الإبداع | خوان ميّاس كاتب فكاهي وساخر

أحمد عبد اللطيف



1

     في رواياته، ينطلق خوان خوسيه مياس (بالينثيا/ مدريد، 1946) من لحظة درامية تغير حياة البطل، قد تكون موت الأم، أو الزوج، وقد تكون الطرد من العمل، أو حادثة سير لعزيز، أو حادثة سير لغريبة نتيجة لهو طفل. هذا العنصر الدرامي، المأساوي، ما يلبث أن يتحول إلى عنصر فكاهي، مولّدًا السخرية ومتبنيًا عبثية الحياة.


2

   في رواية "امرأتان في براغ" تترمّل لوث أكاسو فتنقطع عن الكلام والخروج من البيت لمدة شهرين، ثم حين تقرر أن تخرج من الحداد تتجه إلى ورشة كتابة لتتعلم كتابة السيرة الذاتية. هناك تبدأ صداقتها بـ ماريا خوسيه، فتاة أصغر منها في السن. في مقابل موت الزوج كمأساة، يخلق المؤلف الفكاهة في الحياة الجديدة عبر ماريا خوسيه: فتاة تضع قماشة على إحدى عينيها لتبدو عوراء، وهي ليست عوراء حقيقةً، ثم تمتدح اليد اليسرى رغم أنها يمنى، وتحكي عن مغامراتها لتتحول إلى عسراء. هذا التبدل من حالة إلى حالة، من يد إلى يد، يؤطره رؤية أخرى: المرأتان تتفقان على أن مدريد تشبه براغ، في شوارعها وبيوتها وطقسها، رغم أن أيًا منهما لم يزر براغ من قبل.

تولد الفكاهة عند مياس، بعيدًا عن المواقف العابرة رغم سيادتها عبر عدة طرق، أولها، كما في "امرأتان في براغ" من طبيعة الشخصيات نفسها، من رؤيتها المخالفة للعالم، ومن بحثها عن هويتها. 

    غير أن ثمة فكاهة تولد من الفكرة الرئيسة للعمل، كما في قصة "الشوارع الخلفية"، حيث افتراض ماذا لو: سرنا في الشارع الخلفي، رأينا البيوت من الداخل، ارتدينا الملابس الداخلية فوق الخارجية، وهكذا. هل باختلاف موقعنا في الحياة تتغير رؤيتنا، أحكامنا وهويتنا؟ من هذا التلاقي بين الفانتازي والعبثي، يرسم المؤلف عالمًا مضحكًا يخفف من ثقل السؤال. يكرر ميّاس فكرة شبيهة في قصة "عندما لا يحدث شيء"، إذ تضطرب السلطة لأن لا شيء يحدث في المدينة: الاضطراب يبدأ من قسم الشرطة حين لا يتلقى بلاغًا من أحد، ويعجز عن تقديم خبر للصحافة، ما تضطر الشرطة نفسها لاختراع جرائم، واستئجار مجرمين، حتى يحدث شيء. 

  بطريقة ما، تتولد القصص من مخالفة المألوف، من تقديم واقع بديل يقع حيزه المكاني في الواقع نفسه الذي نعرفه، الواقع اليومي المعتاد، لكنه بالمقلوب. هكذا بكل بساطة يشغل الهامش مكان المتن، والمهمل حيز المهم، فنُفاجأ، نحن بصفتنا قراء، أن للواقع طبقات أخرى غير التي نعرفها، وفي التعرف على الواقع الجديد نبتسم، لأننا كذلك نرى ابتسامة الكاتب.


3

    من ضمن الثيمات التي يستخرج منها خوان ميّاس الفكاهة ثيمة المرآة، ورغم أنها ثيمة بورخسية في الأساس، وتعود أصولها إلى ألف ليلة وليلة، إلا أن المرآة الميّاسية تؤدي دورًا مختلفًا، لتبلغ فهم العالم عبر السخرية منه. ينطلق المؤلف في "لاورا وخوليو" من حادثة سيارة يتعرض لها مانويل، صديق الزوج لاورا وخوليو مبدئيًا، قبل أن نكتشف أنه عشيق لاورا. ثمة صورتين يقدمهما الراوي، في البداية، بوصفهما نقيضين: خوليو ومانويل، الأول مهندس ديكور يعمل مع شركة إنتاج سينمائي، رجل تقليدي في طريقة لبسه وتلقيه للحياة، مكافح حتى يبقى في الطبقة الوسطى، بلا موهبة تقريبًا؛ أما الثاني فكاتب بلا كتاب، ابن لسفير جاء إلى الحياة بملعقة من ذهب، ينظر للعالم من موقعه كشاب ثري وموهوب.

    تدور الرواية على هامش احتجاز مانويل في المستشفى في حالة "كوما"، حينئذ يكتشف خوليو تطابق شقة صديقه مع شقته، كأن شقة أحدهما مرآة للأخرى. ثم سريعًا ما يحدث تحول خوليو إلى مانويل: يكتشف خوليو أن هويته في مكان آخر، بعيدًا عما كان يظنه. في عيادة دكتور النساء يكتشف أن الكتب التي تملأ مكتبة صالة الانتظار كتب ديكور، كتب مزيفة. وبعد قليل يكتشف أن حمل لاورا حمل كاذب. تكتمل الصورة بقصة أطفال يحكيها عن الظلال، عن بلد صار سكانه بنصف ظل، وعلى كل منهم أن يبحث عن نصفه الآخر. المرايا تتكرر على طول الرواية كانعكاس لحياته نفسها، إذ علاقته الزوجية هي الكتب المزيفة والحمل الكاذب وأنصاف الظلال. تجربة كان يجب أن يعيشها ليصير مانويل، مانويل مرآته.

    وإذا كانت اللعبة تبدأ من مرآة وتنتهي إلى تحول تام في "لاورا وخوليو"، فاللعبة تتكرر بين امرأتين: إلينا رينكون وأمها، في "هكذا كانت العزلة". إلينا شبيهة أمها، لها قرينة مثلها، تصاب بورم في الصدر وتكتشف ذلك في أحد فنادق بلد أجنبي كما حدث لها. تنطلق الرواية من حادثة موت الأم، وبداية من هذا الموت كحدث درامي تشق "إلينا" طريقها إلى هويتها، لكن قبل ذلك نفهم العداء بين الأم والابنة، عداء لا نجد له تفسيرًا إلا التشابه.


4

    إذا كان العمل على الحياة اليومية وتفاصيلها الصغيرة أحد اختيارات ميّاس الفنية للفكاهة والسخرية، فثمة اختيار آخر لا يقل أهمية: الألعاب اللغوية. في رواية "المرأة المهووسة"  تتسلل كلمة "بوبريما"، وهي كلمة لا وجود لها في المعجم، من نافذة بائعة سمك لتسألها عن وجودها. تبدأ البطلة البحث في المعجم عن معنى الكلمة بلا جدوى، وتقترح بائعة السمك، وهي حبيبة لشاب لغوي، أن تجري لها عملية تجميل: من أجل أن يكون لها وجود يجب أن تزيل عنها مقطعًا، لتصير "بوبري" (فقير)، أو تصححها فتصير بروبليما (مشكلة). بهذه السلسلة من المشاهد الفكاهية يطرح الراوي سؤاله الكبير حول الوجود الإنساني، الاختيار بين أن تكون كما أنت بلا وجود، أو التخلي عن جزء منك ليتعرّف عليك الآخرون. بهذه البداية يدخلنا مياس في عالم من الثنائيات، ما بين الكمال والنقص، والحقيقي والمزيف، مرة أخرى، وكلما تقدم العمل تتجلى لنا الصدفة كبطل رئيس متوارٍ، حيث كل شيء يحدث ببساطة، بدون تخطيط. الصدفة وحدها تحكم العالم السردي كما تحكم الواقع المعيش، حتى الأشياء الفظيعة مثل القتل، لا يجب أن تحدث بناء على كراهية أو انتقام، إنما محض صدفة في ليلة شتوية ماطرة.

   المدخل الساخر من الوجود الإنساني وكماله يتقولب أكثر مع ظهور خوان مياس كصحفي يلعب همزة الوصل بين الأبطال، ليكسر الإيهام الدرامي من ناحية وليفتح مساحة للميتافيكشن من ناحية أخرى: هنا تظهر ثنائية جديدة تخص الكتابة: الرواية الحقيقية والرواية المزيفة. لا يكتفي ميّاس المؤلف من السخرية من الواقع والوجود، فتكون التصورات حول الكتابة كذلك مصدرًا للسخرية. بطريقة ما، الرواية هي تزييف الواقع، فكيف تكون الرواية في حد ذاتها حقيقية أو مزيفة؟ 

   يمرر المؤلف هنا، في هذه الرواية كما في روايات متعددة له، أفكاره حول الكتابة، ليس بوصفها متعة أو عذاب، وإنما عملية تُشيّد عبر سلسلة من مخالفات قانون الحياة أو المتفق عليه. بمعنى آخر، عبر السخرية.



روائي ومترجم عن الإسبانية، يعمل بالصحافة الثقافية منذ 2002. صدرت له روايات "حصن التراب"، و"عصور دانيال في مدينة الخيوط". وترجم من الإسبانية العديد من الأعمال من بينها "من الظل"، و"أحمق وميت" لخوان مياس.



أحدث منشورات

مقدمة العدد | (ههههههههه)!

هيئة التحرير هل تستطيع أن تكتب ضحكاتك؟ هل هي: (ها ها ها) أم (هههههههه) أم (ههاي)؟ ولو كنت من غير العرب، هل ستبقى خيارات صوت الهاء هي...

متابعات العدد الثامن عشر

من أروقة النقد: ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ ينطلق ⁧‫ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ في مدينة الطائف في يومي 5-6 يوليو 2024 بتنظيم من هيئة الأدب...

Comments


bottom of page