فاطمة محمد سعيد
(الضحك) من (ضَ حِ كَ) يحمل معاني عديدة جلُّها حسنة؛ فالبهجة والسرور والبشاشة والانبساط والقهقهة والتبُّسم كلها تستخرج من هذا الجذر، فهو في اللغة ضدُّ البكاء والعبوس والوجوم، وجمعه: ضَحَكات وضَحْكات، ومن يُضَحّك الآخرين يسمَّى (مُضحِكًا)؛ لأنه يشعرهم بالسعادة ولو جعل من نفسه (ضُحْكةً) لهم. وفي عصرنا الحالي صار (إضحاك الآخرين) مهنة نبيلة، و(المضحكون) أبطال؛ والنتاج كثير من المسلسلات الكوميدية التي لا هدف لها إلا رسم الابتسامة على وجوه المشاهدين وسماع أصوات قهقهاتهم، منها: مسلسل (أشغال شَقَّة) الذي قدّم عبر منصة (شاهد) في أولى مواسمه (15) حلقة، وحصد أعلى تقييمات المشاهدة؛ لأنّ حشد الإضحاك فيه مذهل، وهو ما يدفع للسؤال: ما علَّة الإضحاك التي كسرت أفق التوقع للأحداث عند المشاهد؛ فانفرط عقد الضحك معها ولم يزل حتى آخر حلقات المسلسل؟
تدور جلّ أحداث المسلسل كما يظهر من عنوانه في شقة د. حمدي وزوجته ياسمين، ومن أولى حلقاته تتكشّف صراعات الزوجين ومحلّ والدة كل منهما في علاقتهما؛ إذ تمثّل أم حمدي (دريَّة) الشخصية العتيقة والنمطية في الوعي الجمعي عن أمهات الأزواج، وبمسمَّى آخر (البعبع) الذي يتدخل في شؤون حياة ابنها الزوجية، ما يدفعه وزوجته للاستنفار في كل مرة تزورهما فيها بتنظيف وترتيب البيت قبل استقبالها منعًا لتعليقاتها السلبية التي تؤكد خيبتها في زوج ابنها، وعلى النقيض منها أم ياسمين (سوسن) حيث تمثّل الشخصية الراقية المدللة التي لم تحسن تبديل "حفاضات" حفيديها، وعوضًا عن أن تكون عونًا لياسمين بعد ولادتها صار وجودها في بيت ابنتها عبئًا عليها؛ ممَّا اضطر د. حمدي إلى التنازل وقبول فكرة ياسمين الملحّة في الاستعانة بخادمة تهتم بالبيت وتساعد على العناية بالطفلين.
ويمكن لجملة (عشان خاطري) التي تنال بها ياسمين من حمدي ما تريده ولو رفضه بداية أن تلخّص علاقة الزوجين، وتعّبر عن كل ما تحمله حلقات المسلسل من تنازلات حمدي "لخاطرها"؛ فكلما رفض أمرًا كررت بطريقة ودودة (عشان خاطري)؛ فنالت مرادها، من ذلك: مشاركتها الرقص لتحظى بشهرتها، ونومه بجوارها والقمل يملأ رأسها، ومداراته والدته دائمًا لتكف عن انتقادها.
وإذا خرجنا من الشقة سيتجه د. حمدي لمقر عمله (مصلحة الطب الشرعي)، ويلازمه فيه مساعده (عربي) الذي كلما واجهت حمدي مشكلة تقدم لحلها في قالب هزلي، يظهر شغفه بالمال واستعداده لفعل كل وأي شيء للحصول عليه، وسخافة وعبثية المشكلات وإن كبرت في عينيه، وبحلوله ينتقل حمدي لأزمة أخرى أكبر من الأزمة التي أراد منه حلها فيضحك المشاهد على إثرها.
وكثير من مشاهد الإضحاك في المسلسل اتكأ كاتبها على تعريف كونديرا للنكتة في كتابه الضحك والنسيان؛ فـهو إذ يعرَّفها يقول: "النكتة مثل قبعة تقع على التابوت في قبر قد حفر للتو، فتفقد الجنازة معناها ويولد الضحك"، فهكذا تحوَّلت كل الطقوس المقدسة والمهابة في المسلسل عللًا للضحك والتندر، ابتداءً من أولى حلقاته ومشاهده: قراءة عربي الفاتحة على روح الميت، وبحث ياسمين بعد ولادتها عن الشاحن، ونوم د. حمدي وقت التعب داخل ثلاجات الموتى؛ لتكون مستراحًا بدلًا من أن تكون خوفًا.
(د. حمدي، ياسمين، عربي، دريَّة، سوسن) بهذه الخماسية الرئيسة، و(عصام ورجائي) رؤساء عمل د. حمدي وياسمين اللذين لم يطلقا الكثير من النكات قدر ما حرَّكا العمل، ثم (دكتور غندور) الذي عبَّر عن المثل المشهور (بتاع كلُّو)، فعيادته يوم السبت للعيون، ويوم الخميس للأنف والأذن والحنجرة، و... يكتمل (المتن)، إذ تظهر هذه الشخوص في معظم الحلقات وإن كان نصيب (د. حمدي) و(ياسمين) ثم (عربي) الأكثر فيها، لكن عقد الإضحاك لا ينفرط حتى انضمام (الهامش) لشقة الزوجين ممثلًا بأولى الخادمات (أم صابرين)؛ لتحل أزمة رعاية الطفلين مع الوالدين العاملين، وبالرغم من النكات التي أطلقها أبطال المسلسل (المتن)، ونجاحهم في إمتاع المشاهد لم يكن للضحك أن يستمر بعد مرور أول حلقتين إذ تكشفت الشخوص الرئيسة، وباتت أفعالها وردود أفعالها متوقعة وإن أضحكته؛ لذا جاء (الهامش) ممثلًا بالخادمات متعددًا ومتنوعًا؛ ليكون عنصر الدهشة ومنقذ عِلّة الإضحاك من الانطفاء والموت، من ذلك: انفجار المايكرويف وانتهاء حفل (السبوع) بحريق سببته أم صابرين، وإفساد فاطمة النظام الغذائي لياسمين بإطعامها (الأرنب محسن)، وافتتان الرجال بجمال ورقة الخادمة إيلا التي تسرق عفش شقة الدكتور وتهرب به، وطبخ تيتة صفية كبدة رجل ميت لضيوف د. حمدي وإعجابهم بلذاذة طعمها، وإخراج القمل من شعر ياسمين في البث المباشر على التلفاز لينكشف سرها للعالم أثناء عمل الخادمة هناء المهووسة بالنظافة عندها، والخادمة معتزة التي لا تأخذ مرتبًا شهريًا كعادة الخادمات؛ فلكل خدمة عندها سعر دونته في دفتر الخَدَمَات التي لا تقدمها إلا بعد توقيع الموافقة على المبلغ الذي سيدفع لها جرَّاءها وخطة الزوجين للانتقام والتخلص منها، وهادية الثرثارة مشعلة المشكلات والفتن التي أظهرت وجهًا آخر لشخوص المتن انتهى بطلب ياسمين الطلاق، وأخيرًا فايزة التي سرقت شقة الزوجين واستقرت فيها مع عائلتها وحيواناتهم فتحولت الشقة لحظيرة أكثر من بيت.
كل شخصية من شخوص الهامش أضافت للمتن، وأضفت حياة التجدد في النكات أيضًا؛ فما إن يُفهم شخص الخادمة وتتأزم علاقة د. حمدي وياسمين بها حتى تنفرج الأزمة بحل مضحك تخرج معه الخادمة وتدخل لمسلسل الخادمة التي تليها بشخصيتها المختلفة وطباعها الغريبة، وبذا يكون الهامش في هذا النص هو البطل، محرك أحداث المتن، والمحافظ على عنصر المفاجأة، والدافع لعجلة الضحك بالاستمرار؛ فحضرت 7 خادمات في 15 حلقة بمعدل خادمة كل حلقتين، وفي آخر الحلقات كان 6 منهن جيش الزوجين الذي حارب به الخادمة فايزة وعائلتها.
انتهى المسلسل أمام بوابة المستشفى مع الخماسية الرئيسة، الذين خرجوا من الجلسة المعدة لطلاق د. حمدي وياسمين بعد سقوطها متعبة، وفي هذا المشهد تعرف ياسمين التي ولدت في أولى حلقات الموسم الأول توأمين، نبأ حملها بتوأمين للمرة الثانية، وفي خضم شجار (دريَّة) و(سوسن) تخبر ياسمين حمدي أن حملها يعني حاجتها لخادمتين؛ لأن واحدة لن تكفي أبناءهم الأربعة، فهل سيتكئ الموسم الثاني على الخادمات أيضًا في عملية الإضحاك، وهل سنعيش صراع الخادمتين وتأزم حياة د. حمدي وياسمين معهما؟ أم سيكون للمسلسل علَّة إضحاك متجددة تمنع الملل وتحفظ للضحك بريقه المتصل بالمفاجأة؟!
لم يكن للضحك مع (المتن) أن يستمر لولا (الهامش)، ولعل في منح (الهامش) بطولة تحريك الإضحاك، تأكيد على أنّ الضحك لا يكون دون الآخرين، وأنّ النكات لا يمكن أن تُطلق في الوحدة بل لن تخلق إلا في بيئة الاجتماع والاختلاف، وأنّ القهقهة لن تتعالى وأنت تشاهد هذا المسلسل وحدك، بل وأنت تشاهده مع الجماعة. فهل يمكن للكوميديا اليوم أن تؤكد لنا ببساطة ما سعى الفلاسفة لإثباته بالنظريات من أهمية (الآخر) في حياتنا، وأن (الأنا) لا تكون دون (آخرين)، وأن (الحواريَّة) هي فلسفة الحياة الحقيقية؟ ربما نعم!
باحثة ماجستير في السرديات العربية. حصدت جائزة الريشة الذهبية عن محور الأبحاث في العلوم الإنسانية مرتين، الأولى من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 2015، والثانية من جامعة الملك عبدالعزيز 2023. صدر لها روايتان مطبوعتان وعدد من القصائد المنشورة.
Comentarios