د. أحمد بن حامد الغامدي
قسم الكيمياء - جامعة الملك سعود
يومًا ما قال الأديب الإيرلندي المشاكس أوسكار وايلد: (الحديث عن الطقس هو الملاذ الأخير للخيال). والغريب في الأمر أن أوسكار وايلد، وهو يحاول التقليل والتحقير من أهمية (سواليف الجو)، قد فاته إدراك حقيقة نشر إحدى أهم وأشهر الروايات في الأدب الإنجليزي (مرتفعات وذرينغ)، وذلك قبل ولادته بنحو عشر سنوات. تلك الرواية التي كانت العمل الأدبي الوحيد الذي أنتجته الكاتبة إيميلي برونتي، وبالقطع هي رواية لا ينقصها الخيال، كما أنها متخمة بسواليف وأحاديث الجو. فكلمة (وذرينغ) في عنوان الرواية هي من كلمة wuthering المأخوذة من كلمة الطقس weather لكن بلهجة مقاطعة يوركشاير في شمال شرق إنجلترا، فضلًا عن أن أحاديث وأخبار الطقس متكررة بصورة ملحوظة في هذه الرواية، فمثلًا ترد كلمة الربيع 25 مرة والشتاء 23 مرة والصيف 22 مرة.
إن من الصعب التنبؤ بالحالة المستقبلية للطقس المتقلب، ولهذا فهو مغر للحديث والدردشة حوله، كما أن السؤال أو التعليق عن حالة الطقس (يذيب حاجز الجليد) بين الأشخاص المصابين بالبرود الاجتماعي وبالتالي ينفع هذا التكتيك في كسر حاجز الصمت بين الغرباء. ما سبق ذكره موجود في طبيعة أفراد المجتمع الإنجليزي، ولهذا أصبح الجنتلمان الإنجليزي هو أكثر شخص بين الأجناس البشرية حديثًا عن أحوال الطقس. أما في البلاد العربية فالطقس دافئ أو حار في أغلب أشهر السنة والشذوذ البارز هو ما يحصل في أشهر الشتاء حيث يتغير المناخ بصورة جذرية وندخل في دائرة (الطقس المتقلب). وبسبب تشابه تذبذب أجواء الشتاء، سواء في بلاد العرب أو أرض الإنجليز، نجد أن تلك (البيئة) خصبة ليس فقط للدردشة والحديث ولكن (على عكس ما استبعده أوسكار وايلد) بوصفها بيئة تساعد على تحفيز الخيال لاختلاق واختراع العديد من الأساطير والأمثال الشعبية التي لا تجد لها مقابلًا في أجواء الصيف الاعتيادية.
من ناحية علم الطقس فإن مبتدأ فصل الشتاء بصورة فعلية حسب علم الفلك الذي يضبط بدقة زمن الشتاء ما بين ظاهرتي الانقلاب الشتوي (21 ديسمبر) والاعتدال الربيعي (20 مارس). في مقابل هذه الفصول الفلكية المنضبطة نجد العديد من الشعوب لها موروث شعبي أشبه بالفلكلور في تحديد مواعيد (الفصول النجمية) التي ليس لها في الغالب أسباب علمية منضبطة. في موروثنا الشعبي الدارج يوجد زعم شائع بأن (شدة البرد) تقع خلال موسم المربعانية الذي يمتد لمدة أربعين يومًا، والمثير للشك أن بداية مربعانية الشتاء على خلاف الظواهر الفلكية المنضبطة يوجد فيها اختلاف كبير وجدل متكرر، فهل هي تبدأ في الأول من شهر ديسمبر أو السابع من ذلك الشهر. الإشكال الآخر يكمن في أنه وفق إحصائيات علم الأرصاد الجوية فإن أغلب أيام الشتاء الأشد برودة تقع في شهر يناير وشهر فبراير. وربما يكون التناقض بين الزعم بأن المربعانية هي أشد البرد وبأن أيام فبراير (شباط) هي الأبرد فعليًا وحسيًا هو ما دفع البعض لنسج القصة المعروفة في الموروث الشعبي عن المربعانية وهي توصي ولدها شباط بقولها: (يا وليدي ترى أنا مريت ولا ضريت)، بمعنى أن بردها كان خفيفًا وليس ضارًا كما هو برد شهر شباط/فبراير. وفي تكملة المثل الشعبي أن برد المربعانية لم يؤثر إلا في الأشخاص ضعاف الأحوال المادية الذين لا يستطيعون شراء حطب السمر وأكل التمر (ما قويت إلا اللي شبوبه ليف وأكله دويف) وهذا تأكيد إضافي على أن برد المربعانية في الغالب ليس بردًا قارصًا.
ويضاف إلى ذلك أن لدى الشعوب الأخرى أمثال شعبية تعزز ملاحظة أن أكثر أيام الشتاء برودة تكون في آخر الشتاء وليس في أوله، ولهذا يقال في بلاد الشام: (خبي فحماتك الكبار لجدك آذار)، بمعنى وفر وقود حطبك الكبير لشدة برد شهر مارس. وعلى ذكر بلاد الشام وما جاورها من أرض فلسطين المباركة تجدر الإشارة إلى أن المربعانية عندهم لا تتشابه مع مربعانيتنا في التسمية فقط (تدعى بالأربعينية) ولكنها تتوافق كذلك مع بداية فصل الشتاء الفلكي من 22 ديسمبر وحتى 31 يناير ما يعزز فرصة أن تكون المربعانية عندهم متوافقة أكثر مع الأيام الأشد برودة لدينا في جزيرة العرب.
وهذا التوافق بين شدة البرد التي تبدأ من 22 ديسمبر، والرقم (أربعون) موجود في العديد من الحضارات الآسيوية كما هو الحال مع مربعانية جبال الهملايا الهندية المسماة تشيلي كلان (chillai kalan) أو مربعانية الشعب الفارسي في إيران المسماة شب تشيله (shabe chellh). وفي حين أننا بعيدون من ناحية التوقيت الصحيح لبداية المربعانية عن الأشقاء من عرب الشمال والجيران من الشعوب الأخرى إلا إننا نتوافق بصورة غريبة مع (مربعانية روسية) غير متوقعة. فمن المعروف أنه في فصل الشتاء في مناطق الدائرة القطبية الشمالية تختفي الشمس لفترة طويلة ويستمر الظلام المتواصل لعدة أسابيع. وما يهمنا هنا هو ذكر مدينة مورمانسك الروسية التي تدخل كل سنة في فصل الشتاء بما يسمى ظاهرة (الليل القطبي) المتواصل الذي يستمر لمدة أربعين يومًا هي تلك الفترة الممتدة من يوم الثاني من ديسمبر وحتى يوم الحادي عشر من شهر يناير، وهي تقريبًا توقيت موسم المربعانية نفسه في بلادنا.
لكن الأغرب من قصص وأخبار الطقس ليس المربعانية الروسية المظلمة وإنما المربعانية الإنجليزية الممطرة. فمنذ أكثر من ألف عام وحتى يوم الناس هذا تنتشر في البلاد الإنجليزية أسطورة مناخية طريفة تقول: إنه إذا حصل وهطل المطر في يوم عيد القديس سويثن فهذا يعني أن السماء سوف تستمر تهطل بالمطر لمدة أربعين يومًا متواصلة. ولمن يعرف (أو عانى من تجربة كآبة) الجو البريطاني في فصل الشتاء فإنه لن يستغرب من هذه الأسطورة الفلكلورية الإنجليزية؛ لأن الجو الماطر هناك كثيرًا ما يستمر لعدة أسابيع. وتكمن المفارقة ووجه التعجب في هذه الأسطورة في أن يوم عيد القديس سويثن ليس في الشتاء لكن في عز الصيف حيث يقع في يوم 15 يوليو. ومن هنا فمن النادر جدًا أن يستمر المطر طوال تلك الفترة من المربعانية المتواصلة. في وسط القارة الأوروبية نجد (مربعانية ماطرة) أخرى مشابهة بدرجة كبيرة للمربعانية الإنجليزية مع بعض الاختلافات الطفيفة، فهي تتعلق بعيد القديس ميدارد الذي يحتفل به في يوم الثامن من شهر يوليو لكن مع بقاء جوهر الأسطورة الأصلي: إذا هطل المطر في ذلك الصيف في يوم عيد القديس فيتوجب على من يؤمن بهذه الخرافة أن يحمل مظلته معه لمدة أربعين يومًا.
بقي أن نقول قبل أن نغادر عالم الأساطير والطقس إن الرقم (40) يقصد به في الغالب الكثرة وطول المدة ولا يقصد به المعنى الحرفي لذلك الرقم الحسابي. وكما نقول في اللغة الدارجة (عشرون مرة قلت لك ألا تفعل ذلك الأمر) فبالطبع نحن نقصد أننا كثيرًا ما كررنا عليك التنبيه. وعلى النسق نفسه عندما نسمع عن الظاهرة المناخية المسماة (رياح الخماسين) وهي الرياح الرملية العاتية التي تهب من الصحراء الكبرى وتستمر (لفترة طويلة) من الزمن ومن هنا نفهم أن الرقم (خمسون) في تسمية تلك الظاهرة المناخية ليس المقصود منه أن تلك الرياح تستمر لمدة 50 يومًا بالفعل. وأعتقد أن هذا هو المقصود في موروثنا الشعبي بموسم (المربعانية) وأنها دلالة على فترة زمنية طويلة من الأجواء الباردة.
الطقس وأيام العرب
الجدير بالذكر أن الحديث والمسامرة بذكر أخبار وقصص (موسم المربعانية) ليس قديمًا في الثقافة العربية والموروث الشعبي. فالمتصفح لكتب الأنواء والمواسم المناخية لدى العرب لا يجد ذكرًا لمصطلح (المربعانية). فهذا مثلًا كتاب الأزمنة والأنواء لعالم الفلك ابن الأجدابي والمتوفى في منتصف القرن السابع الهجري، ويذكر فيه أوقات دخول الفصول المناخية كما نعرفها اليوم وارتباطها بالأبراج السماوية مثل بداية الشتاء مع دخول برج الجدي، وكذلك يذكر الكتاب المطالع النجمية المشهورة لدينا مثل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية، كما يذكر المؤلف كل الأمثلة الشعبية المتداولة لدينا حتى الآن عن هذه المطالع النجمية، ومع ذلك لا توجد أي إشارة لكلمة (المربعانية). بل إن الموروث الشعري العربي القديم يركز في رصد ظاهرة الفصول المناخية وتغير الأجواء والطقس ليس على دخول البروج السماوية ولكن على ظهور النجوم. فكما هو معلوم فإن ظهور نجم (الثريا) يرتبط بدخول فصل الشتاء وهطول الأمطار وهذا ما نجده في مطلع القصيد فائقة الرونق للشاعر الأموي ذي الرمة التي استهلها بالدعاء بهطول المطر على دار محبوبته وقت حلول نوء نجم الثريا:
يا دار ميّة بالخلصاء فالجردِ سُقيا وإن هِجتِ أدنى الشوق للكمدِ
مُجلجل الرعد عرّاصا إذا ارتجست نوءُ الثريا به أو جبهة الأسدِ
وقوله في موقع آخر:
أمنزِلَتَي مَيَّ سلامٌ عليكما على النأي والنائي يودّ وينصحُ
ولا زال من نوء السِماك عليكما ونوء الثريا وابلٌ متبطحُ
وأما فصل الصيف اللّهاب فيتوافق معه ظهور نجم (الشعرى اليمانية) ويكفي للاستشهاد بالعلاقة بينهما ذكر بيت الشعر الساخن الذي وصف فيه الشاعر الجاهلي الشنفرى كيف أنه في أحد أيام الحر الشديد وقت ظهور نجم الشعرى تتقلب الأفاعي على الرمضاء وتتململ:
ويومٍ من الشّعرى يذوب لُوابُهُ أفاعيه في رمضائه تتململُ
وفي المقابل فإن ظهور نجم (سهيل) يكون متوافقًا مع نهاية فصل الصيف وبداية انكسار حدة الحر والقيظ ومن هنا وظّف أحد الشعراء خيبة الأمل وحظه العاثر حتى مع الطقس:
جاء سهيلٌ بالحرور والفزع قد كنت أرجو نفعه فما نفع
وبمناسبة ذكر أشعار العرب الأثرية الغابرة والمرتبطة بالطقس والفلك، أليس من الغريب أننا نعرف عن موروثنا الأدبي والحضاري القديم أدق التفاصيل بينما صار موروثنا الشعبي القريب أشبه بالأساطير التي لا نعرف كيف ظهرت؟ وبالرغم من وجود مئات الدواوين الشعرية المخطوطة وآلاف الكتب الأدبية التراثية المطبوعة إلا أنه في القرون الزمنية الأخيرة (عصور الانحطاط) دار الزمان دورته ورجعت أشعار العرب وأخبارهم تتداول بالمشافهة وليس بالتدوين والكتابة. قد لا نعلم كيف وأين ومتى ظهر مصطلح (المربعانية) لأن الأجيال التي سبقتنا قد انتشر فيها الجهل والأمية، ولهذا لم يوثقوا لنا الأبعاد الحقيقة لحكايا الشتاء المبهمة مثل برد العجوز وبياع الخبل عباته أو كيف أن للعقارب سمًا ودمًا ودسمًا.
المؤسف حقا أنه بعد أن كان يجمع أشعار العرب كبار أهل اللغة من أهلها من مثل المفضل الضبي والأصمعي وأبي زيد القرشي، وصل بنا الحال إلى أنه قبل قرنين من الزمن لم يحفظ الشعر النبطي القديم من الضياع إلا بعض المستشرقين. وصرنا إذا أردنا فهم ودراسة فلكلور الشعر النبطي، نلجأ إلى جهود المستشرق الألماني ألبريت سوسين الذي كان أول من جمع ديوان الشعر النبطي، وكذلك الرحالة والمستشرق الفرنسي شارل هوبر الذي أكمل مسيرة سوسين وجمع في منتصف القرن التاسع عشر ثلاثة دواوين للشعر النبطي. أما فيما يتعلق بالظواهر المناخية فليس لنا إلا الخيال لمحاولة تفسير فلكلور موسم المربعانية بسبب انعدام التوثيق للموروث الشعبي.
Comments