إعداد: د. إبراهيم المرحبي
في العملية الإبداعية يمتزج المبدع مع ما حوله من مكونات طبيعية، كالطقس ومناخه لينشط فيه فكره ويتقد حسه فيصل بفضلها إلى مرحلة الإلهام والإبداع الكوني، إلا أن تأثير فصول السنة في مزاج المبدعين وطقسهم الكتابي يظل مختلفًا -نسبيًّا- بين الكتَّاب -عبر القرون- فهناك من يكون الشتاء له دفئًا يصف فيه هدوء الإنسان وعواطفه أو حدَّة حالته النفسية، ومثله الصيف. وهناك من يرى في الخريف منارةً يطلُّ منها على سكون الحياة وذبولها وعلى البقاء وأفوله، لتبقى للربيع صورته النمطية التي قد تعيد للحياة ألوانها بعد بياض الشتاء في تشكيل مريح للنفس وباعث لعواطفها، وكلها صور نسبية تختلف باختلاف نظرة الكتاب وطقوسهم الكتابية، فالعلاقة بين المبدع وبين فصول السنة ترتبط بالاتزان الانفعالي وشدة تأثيره في نفسيته وفكره وسلوكه وتفاعله مع ما حوله، وعن طريق كل ذلك، ارتأت "سياق" في سجال هذا العدد استقراء هذه العلاقة النفسية التفاعليّة للمبدع في فصل الشتاء بعدِّه فصلًا راهنًا يحتضن هذا العدد، ولما له -أيضًا- من حظوة خاصة عن كثير من الكتّاب. وحين نقارب موضوعًا يرتبط بالعلاقة بين الشتاء وحالة المبدع المزاجيَّة، فإن الأسئلة القديمة تتجدد وتظل مفتوحة في انتظار رؤى ملهمة ومحفزة تجيب عنها، ومن هنا فإن سياق تتناول في سجال شيئًا من الأسئلة المثارة حول ذلك؛ لتستعرض رؤى متمايزة لمجموعة من النقاد والمبدعين التي تحرض على مزيد من الاستقراء والتطلع.
فهل كانت مظاهر الشتاء أدوات للإبداع؟
وعن هذا التساؤل العميق يستهل الأديب والناقد بجامعة الباحة الأستاذ الدكتور سلمان القرني إجابته، قائلًا: "إنَّ الإبداع استجابة، ومظاهر الشتاء من أهم محفزات استجابة الإبداع الأدبي، إن لم تكن أهمها، وكل تلك المظاهر من بَرْدٍ وثلج ومطر، وما يصحبها من رياح عاتية، ومعاطف غليظة، وزوايا دافئة؛ وظفتها النواتج الإبداعية شعرًا ونثرًا." ويمثل لهذا بقوله: "لقد وجد الشعراء وجوهًا متعددة للشتاء لم يجدوا مثلها في بقية الفصول، فرأوا في تلك المظاهر ما يستحق التكثيف والتكييف. وذلك حين شبهوا الخدود بالثلج بياضًا، ووجدوا في لسعات البرد حنينًا للدفء وتجاوزوا الدفء الحسي إلى دفء المشاعر تلك التي لم تزدها ضراوة الشتاء إلا توهجًا واشتعالًا. حتى قمر الشتاء الذي لا يجد من يسامره، ضربوه مَثَلًا فقالوا: أضيعُ من قمر الشتاء".
وتشترك معه في اقتناص هذه الأهمية للشتاء الأديبة والناقدة بجامعة الأميرة نورة الأستاذ الدكتور زكية العتيبي، حيث ترى أنَّ "للشتاء عند الكاتب مكانة خاصّة؛ فهو أحد أهم مواسم الإبداع خاصة في البلاد التي تتمتع بالطقس الصحراوي المشمس؛ فهو الموسم الذي لا يعطلك عن الحياة، بل يُعينك على تأمل جمالها في جميع الأوقات لا سيما نهارًا، ففيه تفيض كوامن الشعور ويُستنطق الحنين؛ فيأخذك الخيال إلى الحارات والزقاق الضيقة وأصوات الأطفال وهم يتراقصون بأصواتهم الغضّة تحت المطر. وهذه المكانة تتبلور في مشهد الغيوم والمطر والنسمة الباردة التي تعبر الأديب وهو يستمتع بالحياة نهارًا، فعندما يخترقه هذا الجمال يسيل على إثره الشعور بالكلمات والصور والتراكيب الجديدة مع كل شعور جديد". وعلى الرغم من هذه الأهمية للشتاء في استنطاق المشاعر الوجدانية، إلا أنَّ أ.د. العتيبي ترى: أنَّ "هذه التغيرات الجمالية والتماهي مع الجمال لا تختص بموسم الشتاء، بل إنَّ إرهاصاتها تبدأ قبله، "فمعظم هذه الكوامن مرهونة بطلعة سهيل اليماني وتشرين الحنين في فصل الخريف؛ حيث تروي الطبيعة قصصها الوشيجة مع المشاعر." وأبرز مشاهد استدرار الجمال عند المبدع -من وجهة نظرها- تتمثل في "نزول المطر الذي نستبشر به لأنه حديث عهد بربه، فيُخيل إلينا أننا نشتم رائحة الحياة المتجددة".
أما أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد الدكتور عبد الحميد الحسامي فلا يرى أنَّ بواعث الإبداع يختص بها موسم دون غيره، بل بطقوس الكُتَّاب الكتابية حتى وإن "ذكرت بعض المقالات أن عددًا من المبدعين في مجالات الحياة المختلفة أنجزوا في الشتاء كثيرًا من إبداعاتهم التي حازت جوائز عالمية"؛ حيث يرى أن الإبداع –على عمومه- أشبه بنهر لا يعرف مناسبات محددة للجريان، والتعبير عن حركته، وتدفقه، فكل
الفصول له مواتية، لكنَّ المزاج الفردي لدى المبدعين هو ما يجعل من باعث ما أولى من آخر للإبداع؛ ولذلك قيل إن أشعر الشعراء: امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا شرب! وزهير إذا رغب، والنابغة إذا (رهب)، فبواعث العملية الشعرية تختلف من شاعر لآخر، وكذلك الأزمنة الخاصة بالإبداع تختلف من أديب إلى آخر، فنجد أحدهم يكتب في لحظة الصباح الباكر حيث تطلق العصافير سيمفونية بدء النهار، وآخر لا يكتب إلا إذا سامر النجوم، وناغى القمر، وثالث يكتب في لحظات الغروب، ورابع يكتب في "دفء الشتاء، وارتعاشة الخريف" وهكذا.
في هذا السياق تؤكد الشاعرة أ. حوراء الهميلي، أنَّ الشتاء من وجهة نظرها يعدُّ محفِّزًا شعريًّا فريدًا قادرًا على استنطاق الوجدان وما فيه من لواعج وأشواق، حيث ترى أنَّ "مفردة الشتاء تحمل دلالات كثيرة؛ الليالي الطويلة الباردة، التي لا ترتدي معطفًا سوى معطف الدفء الذي تمنحه الكلمة، لطالما كان الشعراء مشغولون بالحالة الرومانسية التي يمنحها الشعراء إياهم، الحالة التي تستنطق الوجدان بما يختمر عليه، ربما الشعراء بما يملكون من عصا سحرية أضافوا أبعادًا أخرى ومنحوا هذا الفصل القارس والقاسي ربما هالة أسطورية للعشق وللشعر الذي ينبع من أصفى أنهاره".
ومن جملة هذه الآراء المتميزة تولَّد تساؤلٌ آخر ذو صلة بسابقه عن إمكانية عد فصل الشتاء أكثر مواسم السنة إبداعًا من عدمه، فتنوعت فيه الآراء تنوعًا يعكس جمال الشتاء ومدى تأثيره في المبدعين، والتلاحم النفسي الوثيق بين المبدع وإلهامه وبين ما يحيط به من طقوس مناخيَّة، وفي هذا تقول أ.د. العتيبي: إنَّ "الإبداع ليس مرتبطًا بفصل بقدر ما هو مرتبط بطقس، فمستودع الإبداع الطقس البارد أو المعتدل، ففي فصل الصيف في المدن الباردة تسيل الكلمات وتستيقظ الأخيلة أيضًا، فمن يقضي الصيف في أبها أو الطائف يتمتع بنفس الأثر النفسي والمزاجي الذي يلهمه مع برودة الطقس ومشهد الغيوم والمطر". غير أنَّ الشتاء -من وجهة نظرها- "يمتاز بصورة خاصة به لها دور في الإلهام وهي: (مشهد النار والحطب)، وصورة الأسرة المتحلِّقة حول المدفأة متبادلة دفء المشاعر، واحتساء المشروبات الدافئة، وهذه المشاهد كلها تجعل المبدع يفيض إبداعًا سواء أكان هذا الإبداع بالقلم أم الريشة أم تركيب المقاطع والتصوير". وتزيد أ.د. العتيبي قائلة، إنَّ "للشتاء عند الأدباء الذين يعانون من اكتئاب الشتاء ميزة يختص بها عن بقية الفصول، فهو يجعلهم على درجة عالية من الإحساس بالحزن الشفيف الذي يؤنسن الأشياء ويجعل فقدها مدعاة لحزن إبداعي حتى وإن كانت المفقودات جمادًا. الشتاء عند الأديب فصل الإلهام والتسامح والتصالح مع الحياة". وفي هذا السياق يستشهد أ.د. الحسامي بقصيدة جبران خليل جبران معلِّقًا: "ليس غريبًا أن نجد الشاعر اللبناني جبران خليل جبران، يصف سكون الليل بقصيدته الشهيرة التي ترنمت بها حنجرة (فيروز):
"سكن الليل
وفي ثوب السكون تختبي الأحلام،
وسعى البدر وللبدر عيون ترصد الأيام."
ليؤكِّد أ.د. الحسامي بهذه القصيدة قدرة الليالي الهادئة -لا سيما في فصل الشتاء- على توفير ما يلزم المبدع من هدوء وسكينة ليصفو فكره ويتقد إلهامه، حيث يقول: "حين تختبئ الأحلام، وترصد عيون البدر ساعات الحياة .. هناك قد تختبئ مظاهر الإبداع، وهجس المبدعين، ولا ينقر عنها المبدع إلا في لحظات سكون، وتأمل .. هناك تفتح المواهب أكمامها، كما تتفتح الأوراق، والأزهار في نسنسة الليال." إلا أنه يعود ليؤكد ما ذكره سابقًا بأن الإبداع يختلف باختلاف طقوس الكتاب الكتابية، ولذلك "فالأمر هنا ليس على إطلاقه".
وهو ما تراه أيضًا أ. الهميلي وتتفق معه، إذ ترى "أنَّ الإبداع لا نستطيع أن نعزوه إلى فصل معين أو إلى حالة طقسية حتى أثناء الكتابة، إلا أن الشتاء -من وجهة نظرها- ربما له هذه القدرة الخفية على لمس الداخل؛ الشتاء الذي يعني البرودة، الوحدة، العزلة، المطر، الريح، الليالي الطويلة، كلها محفزات تصب في الحالة الإبداعية التي تمنح المبدع مساحات حرة".
ومن ذات هذه الزاوية الإبداعية التي تصور تعالق نفسية المبدع بالشتاء وتأثرها به، يطل أ.د. القرني، قائلًا: إنَّ "الشتاء بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة، لكنني أظنهُ أبرد على من يمتلكونها؛ دون أصحابها، ويبدو أن الروائي الروسي دوستويفسكي حين صدع بمقولته السابقة كان منكفئًا على نفسه، حبيسًا للشتاء." ويضيف: "إنَّ الإنسان كائن متحرك. وحين يجبره الشتاء على السكون تظهر مواهبه وإبداعاته، وتتفجر في زاوية مجمرة ملكاته. يُذكر أن حماسة أبي تمام الرائعة كانت وليدة الحبس، حين حبسه الشتاء والثلج في بلاد فارس، فعكف على إخراج تلك المختارات"، ولهذا يؤكد أنَّ الشتاء -في رأيه- أكثر مواسم السنة إبداعًا وتجليًّا".
وإذا كان الشتاء محفزًا رئيسًا على الإبداع وباعثًا مهمًّا للواعج النفس والوجدان عند الكتاب، فإن التساؤل عن قيمه في ثقافة العربي التي يحقق عبرها وجوده يظل ملحًّا؛ لاستقراء آراء النقاد والمبدعين حوله، ويفتتح أ.د. الحسامي حديثه عن هذا التساؤل بمروية عن ابن مسعود جاء فيها أنه يقول: "مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، ويعلِّق مُظهرًا قيمة الشتاء من الجانب الديني، فهو: "موسم (الغنائم الباردة) لدى الصالحين، وفيه تتجلى المصابرة في العبادات، وإسباغ الوضوء على المكاره، بحسب الحديث"، ومن هذه النقطة ينطلق أ.د. الحسامي إلى "الجانب المتعلق بقيم العربي، فإننا نجد منظومة قيمية تتعلق بخصال العربي في الشتاء، فحينما أرادت الخنساء أن تستعيد أخاها صخرًا عبر المرثية الشهيرة ربطت كرمه، ونحره الإبلَ بالشتاء:
وإن صخرًا لكافينا وسيدنا
وإن صخرًا إذا نشتو لنحارُ
فالشتاء -في رأيه- مرتبط بالكرم، و"تقريب البيوت" ليكون التآزر ميسورًا، والشتاء مرتبط بالنار، وبالمسامرة، وبقيم العربي في تلقف العابرين ليحلُّو لديه ضيوفًا مكرمين:
ومستنبح بعد الهدوء دعوته***وقد حان من نجم الشتاء خفوق
يعالج عرنينًا من الليل باردًا*** تلف رياح ثوبه وبروق
تألق في عين من المزن وادق*** له هيدب داني السحاب دفوق
أضفت فلم أفحش عليه، ولم أقل- لأحرمه-: إن المكان مضيق
فقلت له أهلًا وسهلًا ومرحبًا *** فهذا صبوح راهن، وصديق
...
كما أن الشتاء مرتبط عنده "بوعي العربي وتكوينه الأسطوري، وهو وعي إنساني عمومًا، فأسطورة الجدب والخصب، لها علاقة وطيدة بالشتاء، حيث نزول أوديسيوس، أو تموز إلى العالم السفلي، وفي الربيع تعود دورة الحياة".
ومن جهتها ترى أ. الهميلي أن القيم "تباينت الأخلاقية عند العرب تباينًا كبيرًا، مثلهم في ذلك مثل شعوب الأرض وقد حرص الإنسان العربي أن يتمسك بهذه القيم وأن ينقلها إلينا شعرًا.
فهناك الشتاء والكرم..
الشتاء والحرب..
الشتاء والناقة..
الشتاء والمرأة.."
وتمثل على بعض تلك القيم بشواهد عربية لبعض الشعراء، منها:
قول عنترة في مدح الشجاعة والمروءة:
"فتى يخوض غمار الحرب مبتسمًا
وينثني وسنان الرمح مختضِبُ
إن سل صارمه سالت مضاربه
وأشرق الجو وانشقت له الحجبُ"
أما أقرب قيمة أخلاقية ارتبطت بالشتاء لدى العرب -من وجهة نظرها- "فهي الكرم وضده اللؤم، وفي ذلك قال عدي بن زيد:
"يأبى ليَ الله خونَ الأصفياء وإن
خانوا ودادي لأني حاجزي كرمي"
وتضيف أ. الهميلي قائلة: "ومن شغف العربي جعله يهيئ السبل المختلفة لإكرام الضيف، وإحسان وفادته، وكان للشتاء خصوصية في ذلك؛ لقلة الطعام وحصول الجدب وصعوبة نوم المسافر في العراء كما الصيف.
كانت العرب توقد النار ليهتدي المسافرون،
يقول عبد القيس بن خفاف:
ونار دعوت بها الطارقين
والليلُ مُلقٍ عليها سدولا
إلى مَلِقٍ بضيوف الشتاء
إذا الريحُ هبت بليلٍ بليلا"
فالشتاء في رأيها يحمل قيمًا أخلاقية أصيلة عند العرب، كفضيلة الكرم التي "تتجلى أبهى صورها في فصل الشتاء، لذا فلا عجب عند قلة الطعام أن يفتخر الشاعر الجاهلي بكرمه، كمات في قول يزيد العبدي:
فَلَت عينَها عني سفاها وراقها
فتى دون أضياف الشتاء شروبُ
ويقول الأعشى:
المطعمو اللحم إذا ما شتوا
والجاعلو القوت على الياسرِ
من كل كوماء سحوف إذا
جفت من اللحم مُدى الجازرِ
كما أن أ. الهميلي ترى أن ارتباط الشتاء بالمرأة لم يكن إلا ارتباطًا وثيقًا عبر التاريخ، فالشاعر شبهها بالمزنة والمطر ولا ينفك هذا الوجود الشعري يحيله إلى النماء والوفرة والخصوبة، وتمثل لذلك بقول نزار:
"إذا أتى الشتاء..
واغتال ما في الحقل من طيوب..
وخبأ النجوم في ردائه الكئيب
يأتي إلى الحزن من مغارة المساء
يأتي كطفل شاحب غريب
مبلل الخدين والرداء..
وأفتح الباب لهذا الزائر الحبيب
أمنحه السرير .. والغطاء
أمنحه .. جميع ما يشاء"..
وتختم أ. الهميلي حديثها عن هذا الجانب بقصيدة عذبة لها، عنوانها: (لِتسكَرَ في فمي الأحلام)، تقول فيها:
"في سهلِ وجداني عدوتُ أُسَرِّح الأشواقَ
أشواقي الطريدةَ والشريدةَ
فابتكر مرعًى يلمُّ ضياعَها
مَعْفِيَّةٌ كلُّ الفصولِ فلا ربيعَ بغيرِ حبِّكَ
لا شعاعَ بغيرِ صحوِك
لا شتاءَ بمعطفِ التأويلِ إلا باستعارةِ دفءِ قلبِكَ
شالُكَ المغزولُ بالكلماتِ يندى بالقصائدِ
حين تعشبُها فيكسوها اخضرارْ".
ويشترك أ.د. القرني مع سابقيه في أنَّ "للشتاء قيمه التي ترسمها طبيعته، وفي الذاكرة العربية الجمعية يبرز الشتاء -عادةً- موسمًا للفاقة والعوز والجوع والشدة، حينما يكبل الشتاءُ السعاةَ في طلب الرزق، وحينها تشتد الأيدي على محاصيلها، وتبرز -حينها- قيم الكرم والبذل والعطاء." ويدلل على ذلك، قائلًا: "ألم ترَ الخنساءُ -من قبل- الشتاءَ وشدته معيارًا لمراقي القوم في معارج الكرم:
وَإِنَّ صَخراً لَوالِينا وَسَيِّدُنا وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحَّارُ
ألم يقل نزار -من بعد- وهو يتلمس معاني الدفء الغائب عنه، ممزوجًا بالوفاء ومرارة الفقد:
أخافُ أن تمطر الدنيا، ولست معي فمنذ رحت.. وعندي عقدة المطرِ
كان الشــــتاء يغطيني بمعطفه فلا أفكــر في برد ولا ضجرِ
وكانت الريح تعوي خلف نافذتي فتهمسين: تمسَّك ها هنا شعــري
والآن أجلس والأمطار تجلـدني على ذراعي على وجهي على ظَهَري
فمن يدافع عني.. يا مسـافرة مثل اليمــامة، بين العينِ والبصرِ
وكيف أمحوك من أوراق ذاكرتي وأنت في القلب مثل النقش في الحجرِ
وبين الخنساء ونزار أمةٌ من الناس يسقون إبداعَهم من قيم الشتاء، فيمنحون أعمالهم عمق التقصي، وامتداد الرؤية."
وقد امتزجت هذه الرؤى النقدية مع بعضها بعضًا؛ لتشكل صورة بانورامية شاملة تدلل على القيم الأخلاقية العربية الأصيلة التي تتجلى بوضوح أكبر في موسم الشتاء وإبداع الشعراء فيه عبر العصور، وبما أن شواهد هذه المشاركات قد وردت متراوحة بين الشعر والنثر، فقد جاء التساؤل الأخير في هذا السجال إلى منطقة الدفء الشتوي متسائلًا هل الشتاء شعري لأنه يتسم بكثافة الشعر أو سرديٌّ بعدّ السرد ممتد كامتداد الشتاء وطوله؟
في هذا تقول الشاعرة أ. الهميلي: "الحياة الإنسانية تنقسم إلى الجانب النثري؛ أي أننا نفعل أشياء مجبرين عليها، خالية من المتعة، وإلى الجانب الشعري؛ الذي تنشرح له نفوسنا ويوحد عواطفنا.. فكل ما هو جمالي هو عنصر مندمج ومكمل للجانب الشعري في الحياة". وتستشهد في ذلك بقول "المفكر الأمريكي رالف والدو إيمرسون، حيث يقول: إن كل إنسان هو شاعر بما يكفي كي يكون منفتحًا على مفاتن الطبيعة". وتؤكد أ. الهميلي أنَّ الشتاء شعريٌّ بامتياز، "فالحالة الشعرية في المشاركة الوجدانية، والحب، واللعب، وفي فرحة العيد" بخلاف النثر، ولذلك "فالشتاء يميل إلى كونه شاعريًا، الشاعرية التي تمنحنها فرصة للتعبير عن مختلجات الروح وما استبطت به الحنايا.. فالشاعر المعاصر ياسر الأطرش، يقول:
كل شتاء
حين يصير القلب رصيفا
يعبره آلاف الموتى
نغلق دون البرد الباب
والقاتل يسكن غرفتنا
ومثله الشاعر عبد الله بوشميس الذي يقول في قصيدته (راحيل) بلسان أم يوسف الصدِّيق مخاطبةً إياه:
كم تحبّ الكواكبَ أنتَ
وتقفز من نجمةٍ في الخيال إلى نجمةٍ
وتسمّي بأسمائهنّ البشرْ
أمّيَ، الفرقدانِ أنا وشقيقي
وإخوتُنا أنجمُ النَّعشِ والدَّبران
والثريّا الجميلة جارتُنا!
_ وأنا وأبوكَ؟
أبي الشمسُ حتمًا
وأنتِ القمرْ!)
وأمدّ فراشكَ قربَ فراشي
أُعوّذهُ بتعاويذِ يعقوبَ والأنبياءْ
وأدفّئُهُ إذ تهبُّ رياحُ الشتاءْ
وأربّي حنيني إليكْ
أنت سرّي الذي ليس يعرفهُ
غيرُ كوبِ الحليبِ و(بنيامَ) والليلِ..
والليلُ يقسو عليَّ ويقسو عليْكْ".
أما أ.د. القرني فيختلف في رأيه مع رأي الشاعرة أ. الهميلي، قائلًا: إنَّ "الشتاء سردي، لكنه لا يحجر على الشعر. وليس للأديب خيار في جنس إبداعه؛ حضورًا ونوعًا وشكلًا. ومع هذا فإن امتداد فصل الشتاء على خريطة السنة يتناغم مع امتداد السرد، ولذلك تبدو الروايات إنتاجًا ومطالعة أكثر التصاقًا بالشتاء." ويضيف أ.د. القرني: أنَّ "حالة البيات التي يفرضها الشتاء تحتم على المبدع وعلى المتلقي أن يسلم نفسه للأعمال الممتدة أحداثًا، والمتناسلة حبكة، ويبقى يستدفئ سرده، حتى تشرق الشمس، ويذوب الثلج، وتتفتح زهرة التوليب الربيعية".
ويأخذ رأي أ.د. الحسامي مركزًا وسطًا بين رأييهما، إذ يقول: "يبدو لي أن الشتاء أقرب إلى إنجاز القصيدة التي تعد خطرة روح، وإن كان السكون يمنح المبدع فسحة للتأمل، بيد أن الرواية لا يمكن لمبدع أن ينجزها في خطرة كالقصيدة، إنها حولية العصر الراهن، بل قد تتعدى كتابتها الحول الكامل، وقد يتأتى للشتاء أن يكون سانحة لإنجاز الفكرة الروائية، أو الخطرة الإبداعية المتوهجة، لكن لحظات الشتاء – نسبيًا – أكثر قربًا من الومضة الشعرية". وهو ما توافق عليه أ.د. العتيبي فالشتاء عندها "هو دفء الكلمة سواء جاءت شعرًا أم نثرًا ولا يمكن ربطه بلون أدبي دون آخر، فالشتاء يحرر الصمت الذي في الصدور، والصرخة الخشنة التي تختبئ بين تلافيف الأعصاب ويسمح لها أن تدوي في الكون بكل رقتها وعذوبتها".
댓글