محمد عبد النبي*
يمكننا رصد التاريخ الإنساني بكامله مِن زاوية تميز أهم وأضخم محارق الكتب والمكتبات، ذلك الطقس الهمجي المرافِق للحروب والاجتياحات والقصف والإبادة، وكان خادمًا مطيعًا في بلاط محاكم تفتيش الضمائر، من أيام الرومان، مرورًا بمكتبة الإسكندرية، وحتَّى مكتبة بغداد في عصرنا الحاضِر، والقائمة لا تزال مفتوحة، توجد مؤلّفات تؤرّخ لهذا الجُرم المتواتر(1). لكنَّ بعض الكتب تُحرَق لا بسبب محتواها أو إعلانًا لهزيمة أصحابها ومبدعيها، بل بعدّها وسيلة للتدفئة لا أكثر ولا أقل، شأنها شأن أي مادة قابلة للاشتعال، يُشهرها أصحابها سلاحًا في وجه توغل برودة الشتاء في عظامهم. هي هزيمة أخرى أمامَ قسوة الطبيعة والظروف والحِصار والبرابرة، لكنها تأتي بطعم الاستسلام للدفء، وربما الاستسلام للفَناء واندثار الحضارة كما نعرفها، بحسب ما تخيَّل كاتبان على الأقل.
أتذكّر في هذا السياق مقولة فالتر بنيامين: "ما يجلبُ القارئ إلى الرواية هو الأمل في تدفئة حياته المُرتجفة بموتٍ يقرأ عنه"، بينما أستدعي الحالات التي صارَ فيها الاستدفاء بالكتب طقسًا حرفيًّا لا مجرد مجاز جميل. لعلَّ أحد أهداف الفن الروائي والأدب الرفيع هو تأمّل موت الآخرين أو ضياعهم وانهيارهم بينما ننعم -نحن القرّاء- بالأمان أو نظن أننا كذلك، لكن ماذا يكون الحال عندما نصير نحنُ أبطال الحكاية المكتوبة، ونجد أنفسنا واقفين على حافة الهاوية فإمَّا أن نحتفظ بتوازننا وإمَّا أن نستسلم ونسقط، هل يكون من حقنا آنذاك أن نحرق الكتب لنحظى بدقائق أخيرة من الدفء قبل الغياب الأخير؟
رصدت بعض الأعمال الأدبية لحظات ومشاهد تُحرَق فيها الكتبُ استدفاءً، منها مشهدٌ أساسي ومطوَّل في رواية بول أوستر (في بلاد الأشياء الأخيرة)(2). في مدينة غير مُتعينة، تشهد مستوياتٍ غير مسبوقة -وفانتازية بدرجة ما- مِن الانهيار والخراب والفوضى، تصل آنا بحثًا عن أخيها الذي ابتلعته المدينة في وقت سابق، مدينة تتداعى حرفيًّا تسودها حالة كابوسية أقرب إلى ديستوبيا نهاية الحضارة الإنسانية وسيادة الوحشية والجنون، فالمدينة تُفاجئ آنا بأنَّ مهمتها أصعب ممَّا تخيّلت، وأنّ الشارع الذي يقيم فيه أخوها قد مُحي من الوجود.
بعد عدة منعطفات، تلجأ آنا ذات يوم إلى المكتبة الوطنية المنهارة؛ لتحتمي بها من مطاردة الشرطة. وهناك تلتقي صامويل، وتقيم معه في المكتبة ويربطهما الحب، ويعملان معًا على كتاب في وصف المدينة. يحدث هذا خلال شتاء قاسٍ للغاية، ظلَّ سكَّان المدينة يتذكرونه ويؤرخون به لسنوات. دام الصقيع شهورًا، وحطَّم الناسُ الأثاثَ المتاح وأحرقوه، وتحولت بعض تلك النيران إلى حرائق يومية أبادت عمارات وأحيانًا مجموعات سكنية كاملة.
في لحظةٍ ما، يُضطران لإضرام النار في الكتب؛ طلبًا للدفء، تكتب آنا بعد وصف دقيق للأحوال التي آلت إليها المكتبة الوطنية كمقبرة للكتب المكوّمة على الأرضيات: "أعرفُ أنَّ هذا يبدو أمرًا فظيعًا، ولكن في الحقيقة لم يكن لدينا أي خيار. فإمَّا أن نفعل ذلك، وإمَّا أن نموت من البرد. ولا أغفلُ طبعًا السخرية من هذا: أن نعمل كل تلك الأشهر على إنجاز كتاب واحد، ونحرق في الوقت نفسه مئات من الكتب الأخرى متوسّلين الدفء. والشيء اللافت في كل هذا هو أنني لم أشعر البتة بأي ندم. وأظنني صراحةً استمتعتُ حقًّا برمي تلك الكتب في النار. وقد يكون ذلك فرّغ غضبًا خفيًّا داخلي، ولربما كان بكل بساطة اعترافًا بواقع أنه ما كان يهم البتة ما حلّ بها. فالعالم الذي كانت تخصه قد انتهى، وهي الآن على الأقل تُستخدم لغرض ما".
تحرق آنا مع صديقها عشرات الكتب لينجزا كتابًا واحدًا يخصّهما، كأنَّ التضحية بكتب الآخرين وحكاياتهم -مجازًا أو حقيقة- مباحة طالما نحن نعمل على تحرير سيرتنا الخاصة، لنخلّص أنفسنا من براثن كتب الآخرين وأفكارهم، وهي تتلذذ بإلقاء الكتب في المحرقة كأنها تنتقم مِن رموز الحضارة المنهارة، من بقايا العالَم الذي خذلها والتهم أخاها.
***
النموذج الثاني هو مسرحية (وقّاد النار)(3) للروائية البلجيكية إيميلي نوتومب التي صرَّحت في حوار معها ورد في مقدمة الكتاب باستلهامها فكرتها من وقائع جرت خلال محاصرة سراييفو، حيث أحرق الناس الكتب للاستدفاء، وعلى الرغم من هذا جعلت المكان والزمان غير محددَين، بحيث تصدق الأحداث على الوقائع المشابهة جميعها في أي مدينة قد توجد بها جامعة وسكن طلّاب عامة، واكتفت بالإشارة للعدو بكلمة البرابرة.
تتفق مدينة نوتومب مع مدينة أوستر الخيالية غير المُتعينة؛ لأنَّ تحديد الكارثة بوقائع مسجّلة ومعروفة تاريخيًّا سيبدو -شئنا أم أبينا- دفاعًا عن شعب ما أو عن عقيدة ما في مواجهة عدوان أو غزو، وبالتالي دفاعًا عن لغة وكتبها في مقابل بقية اللغات والكتب، لكنَّ النار لا تحسن القراءة، ولا تعرف غير لغة الفناء والدفء، رقصة النهاية المضيئة، لذلك لا يدافع أوستر عن الإنجليزية أو مكتبة نيويورك ولا تخصص نوتومب مدينة بعينها في أوروبا، حتّى إنها تخترع كتابًا ومؤلفات خيالية لهم؛ ليكونوا موضوع جدال شخصياتها الثلاث، بروفيسور جامعي في الخمسين وأستاذ مساعد وطالبة في السنة الأخيرة، بتراتبية سلطوية واضحة تتداخل فيها المستويات الأكاديمية بالاجتماعية والنفسية، بل وربما الجنسية كذلك.
دخلت الحرب سنتها الثانية، وأطلَّ شتاء الحصار القاسي بلا وقود وبلا طعام، والبروفيسور أتى على أغلب قطع أثاث بيته في موقد المدفأة، وأتى مساعده للإقامة معه منذ قُصفَ حيّه السكني، ثمَّ بدأ يتكشف له جانبٌ جديد من الأستاذ الكبير، لا يدري إن كان هذا هو وجهه الحقيقي أم الوجه الذي أسفرت عنه الحرب الممتدة والقصف والفظائع والأهوال. ثم تنضم مارينا إليهما في شقة البروفيسور وهي طالبة سنة نهائية وحبيبة الأستاذ المساعد، تدخل ببراءتها ونحولها وجوعها وإحساسها العميق بالبرد، وتقترح إضرام النار في بعض الكتب طلبًا للدفء، فيبدأ الجدال حول معقولية وصواب هذا الفعل، في ظل الظروف القصوى المحيطة بهم. هل علامة الهزيمة هي تحوّلنا إلى حيوانات لا تأبه للفن والثقافة والمعنى والقيمة؟ أم في استسلامنا للبرد والموت والانتحار المعنوي والمادي؟ وما جدوى الكتب وما قيمة الأبدية [وهي طموح الفن بشيءٍ مِن المُبالَغة] أمامَ دقائق من الدفء؟ الأستاذ الكبير صاحب البيت يدافع عن الأبدية بشراسة، لكنَّه أيضًا يطمع في البنية الرقيقة الهشَّة، يطالبها بالحركة لتشعر بالدفء، ويراقصها عنوة وينتهي به الأمر للالتصاق بها، حتى يدفعها الاستدفاء بجسده للنوم معه في غياب أستاذها وحبيبها.
بمعزل عن المنعطفات الدرامية السريعة التي تحفل بها المسرحية القصيرة في علاقات الشخصيات الثلاث، يبقى السؤال المركزي لسجالاتهم: ما الذي قد نضحي به وما الذي سوف نستبقيه، في ظل كل هذا البؤس ورائحة الموت؟ إنه معكوس السؤال الصحافي القديم الذي قد نزجّي به بعض الوقت في الأحوال العادية خلال السهرات والتجمعات: ما الكتاب الذي قد تصطحبه معك إلى جزيرة خالية؟ أو ما الكتاب الوحيد الذي سوف تنقذه إذا انتهت البشرية؟ يتحوَّل إلى صيغة معكوسة في ظل الحروب وشدة البرد، ما الكتاب الذي سوف تضحي به أولًا؟ وما التالي عليه؟ وما التالي؟ وبعده؟ وبعده؟ لكنَّ ما قد نضحي به وما قد نستبقيه في الأحوال العادية لا يظلَّان، بالضرورة، كما هُما عندما تنقلب حياتنا رأسًا على عقب ويتهددنا الفناء.
مارينا أيضًا -على غرار آنا في مدينة أوستر- تتلذذ بالانتقام عندما يناولها الأستاذ الكبير أخيرًا بضعة مجلدات ضخمة ممَّا اضطُرت لقراءتها لتجتاز امتحانًا، وقد أهدرت أيامًا طويلة من الربيع والسلام لتستوعب هذه الصفحات. وهكذا تبدأ المحرقة، التي تطال أعمالًا لطالما بجَّلها الأستاذ وهو يدرسها لطلّابه، لكنه في الحقيقة يكرهها. ربما كرهها فقط بعد الحرب التي أسقطت عنه كثيرًا من الأقنعة الزائفة، لأنها كُتب ألَّفها أشخاص لم يعرفوا الجوع، ومقالاته عنها كتبها شخص لم يشعر بالبرد، إذنْ فالنار أولى بها، وهكذا فمع مولد الجوع والخوف والبرد تتغيَّر اعتباراتنا لكل شيء.
يصل هذا التحوّل في المواقف إلى ذروته مع انحياز الأستاذ الكبير إلى رواية عاطفية ساذجة اسمها (حفل راقص في المرصد)، رواية لطالما استهان بكاتبها بلاتيك ورماه بأفدح الاتهامات الفكرية. ودفاعًا عن نفسه يتذرع الأستاذ بأجواء الحرب، حيث يموت الناس كالذباب من حولنا جوعًا وبردًا، عندئذٍ لا يكون قبيحًا للغاية أن يكون المرء برجوازيًّا صغيرًا، وأنَّ الرواية قصة حب رائعة بين مراهقَين. الرواية نفسها التي سيرمي بها في النيران في نهاية المسرحية فقط ليؤلم مارينا التي أعلنت تشبثها بهذه الرواية، لكي يبقى شيء واحد جميل في الحياة. يرغمها على أن تصرّح أنها تحوَّلت لحيوان، فتردد هذا عساه يحجم عن إحراق عمل بلاتيك، لكنه يثبت لها عمليًّا أنها لم تزل إنسانة طامعة في شيء من الجمال في حياتها على الرغم من البرد والجوع والانهيار النفسي.
كما في الأجواء السوداوية والكابوسية المهيمنة على رواية بول أوستر، للموت الاختياري هنا أيضًا في هذه المدينة المتخيّلة حضوره القوي، لكن ليس على المرء أن يبتكر طريقة أو أن يبحث عن عون لدى الآخرين، ما عليه إلَّا أن يخرج للتمشية أو الفُسحة بتعبير الشخصيات، إلى الساحة العامة المفتوحة حيث يكمن قنَّاصة البرابرة لا يفلت منهم أحدًا يتحرَّك أمامهم. بعد إحراق الكتاب الأخير، وكما قررت مسبقًا، تخرج مارينا للتمشية، ويتبعها الأستاذ المساعِد، كما يعرب حتى البروفيسور عن نيته للحاق بهما بعد أن ينتهي من إحراق آخر المقاعد في شقته.
من الطبيعي أن تتغيَّر نظرتنا للوجود في ظل ظروفٍ استثنائية، ومن ضمن هذه النظرة قد يكون تقييمنا للأدب والمنتَج الفني والفكري آخِر ما نتطرق إليه عند إعادة النظر في كل شيء، لأنه ليس أولوية إلَّا عند التفكير في تلك المنتجات كأسلحة مثلًا أو كوسائل دفاع أو في الأخير كوقودٍ محتمَل، يعين على برد الشتاء وقسوته. تعود الكتب في الحرب وأمام قسوة البرد إلى أصلها، تعود إلى الشجرة، إلى الغابة، تعود حطبًا للنار، كما يعود البشر جميعهم أيضًا وقودًا لأطماع الطغاة، سواء في ذلك البروفيسور والأستاذ المساعد والخبَّاز والساعي.
تقول مارينا: "إذا لم تجلب قراءة الأدب الدفء، فليذهب إلى الجحيم"، وطرافة الجملة أنها تحتمل الدفء بالمعنيين الماديّ المعنوي. وتستحضر عبارتها مقولة فالتر بنيامين، فهناك دفء المسترخي تحت الأغطية في أمان بيته، محتضنًا إلى صدره رواية حافلة بالأحداث والأفكار والمشاعر، نيابة عنه يخاطِر أبطالها بوجودهم ويتأرجحون فوق الهاوية ويمرون بالأهوال. وهناك الدفء الحقيقي، عندما نحرقُ الأدب حرفيًّا لشعورنا بالبرد، ولا أظنّه وضعًا دراميًّا خياليًّا أو بعيد الاحتمال عن أي شخصٍ يعيش في هذا العالَم شديد الهشاشة، عالَم تتعلّق فيه حياة ملايين البشر بخيط واهن، خيط الهوى والمصالح والتحالفات التي تحكم العالَم. لذلك، فحينما نقرأ ريلكه (بترجمة نسيم مجلّي) يقول:
من بين فصول الشتاء
شتاء لا ينتهي همُّه
فإذا استطاع القلب أن يجتازه
خرج عفيًّا واستدام نبضه.
لا ندري هل من المفترض أن يمنحنا هذا الأمل والبسالة لنستميت ونعبر شتاءً آخَر قاسيًا، ونقول معركة وليست الحرب، أم نستسلم أمامَ شتاءٍ واحد مقيم ومتجدد، بلا رجاء في طلوع براعم الربيع، أي ربيع.
*كاتب ومترجم مصري من مواليد ١٩٧٧، صدرت له مجموعات قصصية ورايات عدة، حصل على عدد من الجوائز الأدبية، منها جائزة ساويرس، وجائزة معهد العالم العربي في باريس، كما ترشحت روياته أكثر من مرة ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، من أعماله: "في غرفة العنكبوت"، "رجوع الشيخ"، "كل يوم تقريبًا".
_____________________
الهوامش
إبادة الكتب- ربيكا نوث، ترجمة عاطف سيد عثمان، سلسلة عالم المعرفة (الكويت) عدد 461 – يونيو 2018، وأيضًا: إحراق الكتب- ريتشارد أوفندن، ترجمة زينة بارودي، الدار العربية للعلوم ناشرون 2021.
In the country of the last things – Paul Auster- صدرت بالإنجليزية عام 1987، ولها أكثر من ترجمة في اللغة العربية، من بينها نسخة دار الآداب بترجمة شارل شهوان، سنة 1993.
صدرت في لغتها الأصلية بعنوان (المحروقات) أو (مواد محروقة) عام 1994 وترجمها إلى العربية محمد ماشتي، وصدرت عن سلسلة المسرح العالمي الكويتية - العدد 405 مارس 2020.
Comments