نوف السماري
فنانة تشكيلية
في التصور الشائع لمفهوم الفن عادةً ما يرجح فكرة أن الفن موقف تحرري للإنسان في ساعات إبداعه. الفنان ذلك الذي رأى من الحياة ما رأى وبقي في دوائر بهائه وتجلياته يقاوم، مغالبًا كل ما يدفعه للاستسلام عن صناعة ما يجده متفردًا بذلك التصاعد للجمال وما يتضمنه من معنى. يَعبُرهذا الفنان بين طيات أفكاره وأحلامه وتخيلاته ليخرج العمل ربما متكاملًا وعلى الأغلب مقاربًا لما لمح منه قبل ذلك وسط غفوة الحلم وخلف باب النوم. ومن ذلك الرحيل المؤقت، يعد الحلم والعودة من سفر الرُقود وتعدّد صوره موضوعًا شائعًا جدًا في تاريخ الفن، خاصة فكرة رؤى النوم ومعانيها في اللوحة. تحضر غامضة ومراوغة أحيانًا ومربكة أحيانًا أخرى، وتأتي اللوحات المرتبطة بالأحلام لتثير تساؤلاتنا وتزعجنا وتبهرنا جميعًا في وقت واحد. بمعنى آخر، الحلم في الفن هو روح سابحة في طريق الخيال. ومن خلال هذا التمثيل التصويري، فإننا مضطرون إلى تفحص العلاقة بين المرئي وغير المرئي، سواء أكان ذلك من خلال منظور فلسفي ديني أم حتى نفسي، يقودُنا الفنانون الذين يُعبرون عن أحلامهم من خلال الرسم إلى استكشاف موضوعات غالبًا ما تنجو بطريقة ما دون تفكيك مفصل.
الحلم، ذلك الهذيان الفسيولوجي للإنسان بعد نومه الذي يُنظر إليه على أنه انعكاسات للعقل الباطن وأحاديث نفس، ويفسر أحيانًا بأنه حالة من التراجع النفسي لمقاومة مشاعر القلق والكبت في دواخل الإنسان، منطلقًا فيه دون ترسبات التوتر والخوف لتتكثف الصور بشكل متسارع ربما وغير مألوف، وعن تداخله مع الرسم وكيف تطور بشكل كبير عبر تاريخ الفن، ففي عصر النهضة جادت أعمال الفنانين بشكل مباشر لتصوير أسطوري للأحلام، وقُدّم الحلم بوصفه تجربة دينية أكثر من أي شيء آخر، كأن تترك الروح الجسد في حالة الراحة وتلتقي بكائنات أعلى، لذلك نجد في ما يمكن أن نسميه "فن الأحلام" في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بيد أن هذا الفن لا يصور في الواقع حلم الفنان ذاته، بل نجده مستوحى من الروايات الدينية لتصورات أحلام الكتب الدينية؛ لتخرج اللوحة بذلك بمعنى محدد من الأحلام، وتتحول إلى محاولات للوصول إلى الحقائق الإلهية الممكنة، وتصبح كأنها استجابة لمتطلبات الكنيسة بشكل أساسي.
"حلم سلم يعقوب"
رافاييل ١٥١٩
تعرض في الفاتيكان
"جنة المباهج في الأرض"
لهيرونيموس بوش
١٥٠٠ – ١٥٠٥ م
حاليًا تعرض في متحف "برادو– مدريد"
قد يكون أحد أكثر الفنانين تعقيدًا في تلك المرحلة بطبيعة أعماله وهو الذي أنشأ الفكرة الأساسية دون قصد ربما لمدرسة الفن السريالي مُعبدًا الطريق نحوها كان هيرونيموس بوش، وبسبب علاقة تلك المدرسة الفنية بطبيعة الأحلام و مرماها و مداولاتها، احتار مؤرخو الفن في تصنيفه سابقًا: هل هو من فناني العصور الوسطى بسبب طريقة رسمه وألوانه، أم أنه ينتمي إلى عصر النهضة في تفرده بسرد نشرة الخطاب الديني الخاص به رغم اختلاف هندسية عمله في تنفيذ الأسلوب النمطي لرسم الصور عرضًا أو بالطول لكائنات عمله، فغالبًا ما تنفذ أعماله على ألواح خشبية لها بابين مرسومة من الخلف أيضًا وكأنه يأخذنا إلى متعة التلصص على عالم مواز من نافذة، عالم يطرح تلك الصور في مواجهة قلقه الخاص من الميل عن "الطريق الصواب"، غالبًا ما يركز عمله على موضوعات مثل الخطايا والانخراط في فوضى ملهاة الحياة وملذاتها ومغرياتها. يُعتقد أن العديد من الكائنات المريعة التي صورها بوش هي من أحلامه حول شياطينه الشخصية والخوف من الانحراف عن الفضيلة؛ لذا نجد أسلوبه مختلف عن معاصريه في تنفيذ لوحات الأحلام كما فعل مايكل أنجلو ورافايل وسواهما.
المثير للاهتمام، وفي زحمة الفنون المنعكسة بأحلامها الدينية، خروج فنان ألماني يدعى ألبرت دورر عن السائد آنذاك، يقال إنه أول من رسم حلمًا شخصيًا محاولًا بذلك نقل ما رآه خلال نومه و تفسيره من خلال ألوانه المائية. ولتسترسل بعد ذلك صور الأحلام الذاتية في مراحل أعمال عصر الرومانسية.
ألبرت دورر "الرؤيا ١٥٢٥"
ألوان مائية
ترجمة مبسطة لما ذكر في الرسالة أدنى اللوحة:
"تستيقظ ولا تعرف أين أنت. سهول، تلال وحقول منخفضة. في مكان ما في فترة الطفولة. وانفتحت السماء وانهمر الماء، وأقبلت المياه نحوكم. إنها نهاية العالم... العالم انقلب رأسًا على عقب. لا يمكنك التنفس أثناء الليل، أشعر بأنني مكشوف. هذه هي الأيام الأخيرة للبشرية".
في "عصر الرومانسية" من تاريخ الفن من بداية القرن الثامن عشر اشتعل حراك التعبير نحو "الذاتية" كمصدر إلهام للفنانين، وأصبحت الأحلام باعثًا أساسيًا لا حصر له أيضًا نحو اكتشاف النفس، أطلق الرومانسيون الألمان الأوائل على الحلم اسم "Zweite Welt" أو "العالم الثاني". وقد كانت أحلام اليقظة وسيلة للفنانين لترك أنفسهم تمامًا من أجل تجربة عالم آخر.
وقد بالغ فئة من الرومانسيين في تجاربهم، حيث انخرطوا في تجربة العديد من المواد المخدرة؛ بهدف الوصول إلى حالة تشبه الحلم أو حتى لاكتشاف مراحل جديدة من الوعي، وقد شارك الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا في "نادي حشاشي باريس" الذي كان مكرسًا لخوض تلك التجارب، وجمع العديد من الأسماء اللامعة آنذاك مثل فيكتور هوغو، وألكسندر دوماس، وبودلير، وبلزاك و رامبو، وكان أحد الأعضاء الطبيب النفسي مورو دي توروز، ويعد أهم من قام بعمل منهجي حول تأثيرات العقاقير المخدرة على الجهاز العصبي المركزي، حيث فهرس وسجل ملاحظاته في محاولة لتحليل أحلامهم وهلاوسهم. كان الحلم يعدّ هروبًا في ذلك العصر، كما كان يكشف أيضًا عما كان عميقًا في روح الإنسان من ظلمات.
"الكابوس"
هنري فوسلي ١٧٨١
تعرض في مؤسسة ديترويت للفنون في ولاية ميتشغن- أمريكا
وفي النسخة المظلمة وغير المريحة من الأحلام يأتي فصل الكوابيس. و في الفن، كان أحد أهم التعبيرات في مثالية تجسيد هذه الفكرة إبان عصر الرومانسيين لوحة للإنجليزي هنري فوسيلي تحت عنوان "الكابوس " وفيها تستلقي امرأة وكأنما تصارع روحها النائمة حيث يلتوي جسدها بين الظل والنور تحت رحمة كائنات. ويعدّ هذا العمل من أهم الأعمال في تناول ظلمات النوم ومآلاته. وكان الفنان المصري نذير طنبولي أحد الفنانين المعاصرين الذين تناولوا "فن الكوابيس" في ورقة بحثية مصغرة منطلقًا من لوحة فوسلي وعمل بوتيرو المعاصر عن سجن أبو غريب.
الأستاذ نذير طنبولي في مرسمه
اللافت للنظر في هذا الأمر أن أغلب أعمال الأستاذ نذير تملك ذلك الطابع المميز للعالم الغرائبي للأحلام ورحلات النوم. وللعمل إضاءته الداخلية الخاصة به في تشكيل ذلك الخيال واستجماع شخوصه وردات فعلهم، كما أنه مكتظ بكائنات متنوعة تعكس ذلك الطابع المنفلت في عوالم الأحلام، مثل أسماك محلقة وأحصنة تسبح. وتحضر أغلب المعارض الفنية له بفكرة الحلم واسترسالاته، وكان آخر معرض شخصي له في سنة ٢٠٢٣ في القاهرة.
جانب من أعمال نذير طنبولي
"الجميلة النائمة"
"غفوة"
سواء أكان فن الأحلام تمثيلًا للحياة أم تجليات للعقل الباطن، فإنه يثري شيئًا ويوقظ جانبًا خفيًا في دواخلنا من خلال جلب الخيال إلى عالمنا؛ ونتيجة لذلك فهو يجمع في الوقت نفسه بين الذاتي والخيالي والفانتازي، و الفنانون سواء أكانوا معاصرين أم تاريخين لن يستسلموا أبدًا، وسيستمروا في إبهارنا باستكشافاتهم لهذا النوع من الفن عبر صناعته من خلال تشكيله وبنائه وقراءته أو دراسته وتحليله.
شخصيًا بعد انتهاء كل لوحة والخروج من مساحات الركض الحلزونية في محاولة للاقتراب نحو الشكل الكامل للعمل القادم، و كأنما أصحو من نومة لم أخطط لها، وقد نسيت بعدها أين رحلت و تجولت وكيف وصلت، لتبقيني واقفة مشدوهة وقلقة .. بل متعجبة تمامًا! كيف ومتى حصل ذلك كله؟ وأنتهي من بعده في كل مرة مثل ممثلة نسيت دورها وبقيت على خشبة المسرح تنظر بشرود وتتحسس وجهها في حيرة؛ لأنها ربما وصلت وهي تمشي نائمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرفق:
Comments